وصفة الدكتاتورية الدستورية تعني التعليمات والنصوص الدستورية التي ينبغي على رئيس دولة ما اتباعها لجمع كل السلطات والهيمنة على القرار السياسي في الدولة، وتتضمن مجموع المعلومات الضرورية والخطوات العملية لكيفية تحضير و صنع انقلاب ناعم باستخدام نصوص دستورية مركبة وغامضة لا يمكن الإجماع على معانيها الحقيقية.
نماذج لهذه الوصفة
الحقيقة أن هناك وصفات عديدة ومتنوعة لتحقيق الدكتاتورية الدستورية، خصوصا في الدولة التي تتبنى النظام الرئاسي المختلط. ولعل من المناسب أن يقتصر حديثي في هذه العجالة على “الوصفة التونسية” و”الوصفة في مشروع الدستور الليبي (2017)”.
أولا: الوصفة التونسية
في يوم 25 يونية 2021 قام رئيس الجمهورية التونسي السيد قيس سعيد (مُتبركا باليوم الذي حظي فيه الرئيس جمال عبد الناصر بولاية ثانية لرئاسة مصر عام 1965) بانقلابه الناعم على مؤسسات الدولة السيادية، مستندا في ذلك على الفصل 80 من الدستور، الذي ينص على: “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة؛ أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة. وبعد مضيّ ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه، وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما.. ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب”.
واستنادا إلى هذا الفصل، الذي تضمن على الأقل عشرة شروط دستورية مُركبة وغامضة ولا يمكن الاتفاق على معانيها، أصدر الرئيس أمرا رئاسيا ينص على:
1. تعليق كل اختصاصات البرلمان لمدة شهر بالرغم من أن مصطلح التعليق لا وجود له في هذا الفصل، بل على العكس، يشترط لنجاح هذا الحالة الاستثنائية أن يستمر “مجلس النواب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة”.
2. أعطى الرئيس لنفسه حق تمديد المدة بمقتضى أمر رئاسي، بالرغم أن ذلك ليس من اختصاصه. وينص الفصل على “… بعد مضي ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه”.
3. رفع الحصانة البرلمانية عن كل أعضاء مجلس النواب طيلة مدة تعليق أعماله، بالرغم من ان الفصل (68) من الدستور ينص صراحة على أنه “لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو بمجلس نواب الشعب، أو إيقافه، أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها، أو أعمال يقوم بها، في ارتباط بمهامه النيابية”.
4. تكليف الكاتب العام لمجلس النواب بتصريف الأعمال الإدارية والمالية للمجلس.
5. إقالة رئيس الحكومة وتولي السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعينه بنفسه! بالرغم من أن الفصل ينص على أنه “لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”.
6. تولي رئاسة النيابة العامة لتحريك المتابعة القضائية!
بمعنى، لقد جمع الرئيس قيس اسعيد، باتخاذه هذا القرار، كل سلطات السيادية في يده، وأصبح بذلك الحاكم المطلق في الدولة فهو رئيس الدولة، ومصدر كل تشريع، والمفسر للقوانين والإجراءات، ورئيس النيابة العامة!
والعجيب أن الرئيس قد قام بكل هذه التدابير الاستثنائية الخطيرة والضارة بالرغم من أنه لم يُعرف للشعب ما هو “الخطر الداهم الذي يهدد كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها”، فكل التبريرات التي قدمها هي شعارات عامة وقضايا قديمة وتتطلب وقتا طويلا وعملا جماعيا للتعامل معها.
وحتى لو سلمنا جدلاً بأن هناك خطرا داهما، فهل يمنح الفصل 80 سيطرة الرئيس الكاملة على مفاصل الدولة. بالتأكيد: لا. فكل ما يمنحه هذا الفصل للرئيس (بعد تعريف الخطر الداهم والاتفاق عليه) هو السيطرة المحدودة والمؤقتة والمشروطة. إن الإخلال بها يعتبر تعديا واضحا وصريحا على الأسس الدستورية في الدولة. والخلاصة الأولية، مما ذُكر أعلاه، أن الرئيس لم يقم بواجبه كما يجب، ولم يدرك ما يجب أن يفعله قبل أن يبدأ في إنجاز وصفته الانقلابية الفاشلة.
ثانيا: الوصفة في مشروع الدستور الليبي
الغريب أن نفس الوصفة التونسية، قد تم نسخها في مشروع الدستور الليبي، ولكن بأسلوب متطور وسهل الإنجاز، وخصوصا إذا تحصل حزب الرئيس على الأغلبية في أحد المجلسين. إذ يمكن للرئيس المرتقب أن يقوم بانقلاب دستوري ناعم بنجاح وسرعة فائقة في خمس خطوات سهلة ومتتالية كالآتي:
الخطوة الأولي: القيام بحل أحد مجلسي السلطة التشريعية
ويمكن تحقيق ذلك بتطبيق المادة (109) التي تنص على أن “لرئيس الجمهورية، بناء على أسباب وجيهة تتعلق بعرقلة السياسة العامة للدولة، أو خطة التنمية، أو تعطيل الموازنة دون مبررات حقيقية، أو مخالفة أحكام الدستور، عرض حل مجلس النواب، أو مجلس الشيوخ في استفتاء عام، وذلك وفق الآتي: (1) يتعين على رئيس الجمهورية إحالة الأسباب والمبررات للمحكمة الدستورية، لإعطاء رأيها الاستشاري بشأن مدى جدية، وملاءمة الأسباب، أو مخالفة أحكام الدستور. و(2) إذا قدرت المحكمة بأن الأسباب جدية، أو أن هناك مخالفة لأحكام الدستور، ولجأ الرئيس للاستفتاء وجاءت نتيجته بحل أحد المجلسين يصدر الرئيس قراره بالحل. وإذا جاءت نتيجة الاستفتاء بـ (لا) يؤلف الرئيس حكومة جديدة”، بمعنى أن الرئيس لن يخسر شيئا إلا إعادة تشكيل حكومته إذا خسر.
الخطوة الثانية: أيلولة اختصاصات أحد المجلسين لآخر
ويمكن للرئيس تحقيق ذلك بتطبيق المادة (95) التي تنص على أنه “إذا حل أحد المجلسين، تؤول إلى المجلس القائم المهام الموكلة للمجلس المنحل، وفق المادتين (91، 92)، وذلك إلى حين انتخاب مجلس آخر”، بمعنى إذا نجح الرئيس في حل المجلس الذي يريد، ستؤول اختصاصاته إلى المجلس الذي يسيطر عليه أعضاء حزبه.
الخطوة الثالثة: إعلان حالة الطوارىء
وعندما يكون له مجلس واحد تحت سيطرته، يستطيع الرئيس إعلان حالة الطواريء لأي سبب يراه مناسبا. ويمكن تحقيق ذلك بتطبيق الفقرة (11) من المادة (104) التي تنص على “إعلان حالة الطوارئ وطلب إعلان الأحكام العرفية، وفق أحكام الدستور”.
الخطوة الرابعة: طلب عقد اجتماع استثنائي لمجلس الشورى، ويمكن تحقيق ذلك بتطبيق الفقرتين (2) و(4) من المادة (92) التي تنص على أن “يجتمع مجلس الشورى اجتماعا استثنائيا بناء على طلب رئيس الجمهورية…،وذلك في الحالات الآتية: … (2) إقرار حالة الطوارئ، والأحكام العرفية… (4) النظر في جدول أعمال محدد”.
الخطوة الخامسة والأخيرة: إصدار قرارات بقوة القانون، ويمكن للرئيس تحقيق ذلك بتطبيق المادة (108) التي تنص على أنه “لرئيس الجمهورية في حال عدم انعقاد المجلسين، أو حل مجلس النواب، إصدار قرارات بقوة القانون في حالة الضرورة ، والاستعجال….”.
الخلاصة
باختصار شديد، ما يمكن استنتاجه مما ذكر أعلاه:
أولا: ضرورة ضبط المصطلحات الدستورية وتحديد معانيها وتبسيطها، خصوصا فيما يتعلق بالقضايا الشائكة والاستثنائية.
ثانيا: ضرورة الاعتراف بأن نموذج النظام “الرئاسي المختلط”، والذي تدعو له بعض النخب، لا يمكن تطبيقه بنجاح في دول العالم الثالث وخصوصا في الوطن العربي، وذلك لأن القضية الدستورية قبل أي شيء آخر، هي قضية ثقافة. والحقيقة أن ثقافتنا السائدة اليوم مُشبعة بالقيم الاستبدادية والتسلطية الغامضة. وهي ثقافة سلبية تقوم على مبادئ سلبية وضارة مثل: “عدم الثقة” و”المحصلة الصفرية” و”شيطنة الآخر” و”الغموض في الطرح” و”التعميم في كل شيء”، ولعل خير مثال على ذلك هذه الأيام هو ما قام به رئيس دولة تونس، الذي يفتخر بأنه أستاذ في القانون الدستوري، ولكنه سقط، للأسف الشديد، في أول امتحان تطبيقي له، وقام باستغلال مصطلحات دستورية غامضة لينقلب بها على كل من أتى به للسلطة، ويسخرها الآن لشيطنة كل من يخالفه الرأي.
ثالثا وأخيرا: لا أحد ينكر ضرورة أن ينص الدستور على نصوص للتعامل مع الحالات الاستثنائية التي تحدث خارج نطاق القانون وقد تشكل خطار داهما على الوطن والمواطن، ولكن يجب أن تكون هذه النصوص واضحة ومفصلة وشاملة، ويجب أن تقوم على ثلاثة مبادىء أساسية هي: الفصل الواضح بين السلطات، والتأكيد على مبدأ المراقبة والتوازن بين هذه السلطات، والتعريف الواضح لاختصاصات كل سلطة وحدودها، حتي لا نقع في إشكالية “تنازع الاختصاصات” كما هو حادث الآن مع أخوتنا في تونس.
والله المستعان.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً