هناك تشابه كبير بين إثيوبيا وليبيا كمهد للإنسانية منذ ما قبل العصر المطير، كما أنهما يتشابهان حاليا في الأقاليم الجغرافية والتعدد العرقي والثقافي واللغوي مع الفارق الكبير في عدد السكان، بل أن نمط الحكم وتغيره مشابه؛ حكم الإمبراطور هيلاسيلاسي حتى 12 سبتمبر 1974 حينما قام العسكر بالانقلاب عليه بقيادة منغستو هيلا مريام ثم توالت الانقلابات إلى أن ثم انتخاب رسمي شفاف سنة 2018م الذي جاء برئيس الوزراء الحالي آبي أحمد وتكللت جهوده في تحقيق السلام ببلده على نيله جائزة نوبل للسلام سنة 2019م، بعد الانتخابات انسحب العساكر المهزومين في الانتخابات بسلاحهم إلى إقليم تيغراي وأصبح هذا الإقليم دولة داخل دولة ووريث لفلول وعساكر وعتاد الحكم السابق لأكثر من عقدين من الزمان مشابه لإقليم برقة في ليبيا.
تعود مشكلة ليبيا إلى تمرد خليفة حفتر عن الدولة واعلانه الانقلاب وتجميد الدستور على قناة الحدث والعربية في 4 فبراير 2014م واتخذ بنغازي والمرج مقرا له، ومنذ ذلك الوقت تعاملت حكومة الغويل ثم السراج ثم الدبيبة مع حفتر كأمر واقع يتم صرف ميزانية لجنوده وتمويل شراء الأسلحة من خزينة الدولة وله كامل الحق للتعامل مع رؤساء وسفراء دول وعقد صفقات واستجلاب مرتزقة وتسليم قواعد لهم كان أخرها الهجوم على طرابلس في 4 أبريل 2019.
والمشكلة أن هذا التراخي والتماهي عند التعامل مع المتمردين يشجع على التمرد من فصائل جهوية وقبلية أخرى، وبذلك لن يبني دولة لعدة أسباب منها؛ الاستقواء بالخارج، والتهديد بتشكيل حكومات موازية والتهديد بالانقسام والتهديد بتوطين الفائض السكاني لدول الجوار مثل مصر، وقفل حقول النفط لعدة أشهر في شرق البلاد وجنوبها. فمثلا حفتر يستقوي بالامارات والروس، والمجموعات المسلحة السلفية تستقوي بالسعودية، والمجموعات القبلية تستقوي بقبائلها أو مناطقها، والاسلاميون يستقوون بتركيا، فترى إهدار للمال العام وشراء الأسلحة بطرق غير قانونية والتكالب على مقدرات الدولة، فحقول النفط والموانئ والمطارات والمنافذ أصبحت الحلقة الاضعف التي يلجا إليها المغامرون لتنفيذ أجنداتهم وفرض آرائهم والحصول على غنائمهم التي لا تتوقف.
وبذلك تستمر حالة اللأ-إستقرار رغم التامين الظاهري للمدن، وتندلع الاشتباكات بين الفينة والأخرى لأسباب تافهة في الكثير من الأحيان بسبب عدم الانضباطية، وعدم احتكار الدولة للسلاح، فبألامس كان هناك إحتراب في مصفاة الزاوية ثم أمام المحكمة في سبها ثم عين زارة وبعدها في ميناء طرابلس ثم أمام مصرف في غريان وغيرها في درنة، وتبع ذلك قفل النهر الصناعي المغذي للمدن بالمياه، وفي هذه الظروف يجد أصحاب الجريمة المنظمة ضالتهم في قطع أسلاك الكهرباء وسرقة المحولات وتجريف الهياكل الحديدية في المشاريع المتوقفة لبيعها للخارج، ناهيك عن الاستلاء على أملاك الدولة والأراضي العامة والمعسكرات والغابات بل حتى الحدائق وطرق الخدمات.
يمكن مقارنة هذا الوضع السائب والمحزن والمسيء للثورة لليبية بالعزيمة والإصرار والانضباطية في الحالة الاثيوبية، وهي سياسة حكيمة: في سنة 1991 وصل ميليس زيناوي من مقاطعة تيغراي إلى الحكم وقام بانتخابات صورية سنة 95 واستمر في الحكم على وفاته سنة 2012م، أعقب ذلك هيلامريم الذي واجه الكثير من الانتقادات إلى 2 أبريل 2018م عندما نصب أبي أحمد كرئيس للوزراء عقب انتخابات، وهو من المجموعة العرقية أورومو الأكثر سكانا بعد أمهرة. تحصل أبى أحمد على إجماع وبشعبية كبيرة خاصة في العاصمة ووعد الجميع بتطوير البلاد وتنميتها. وحاول إدماج كل المكونات الاثيوبية في الحوار المجتمعي والتصدي للفساد إلا أن قيادات تيغراى لم يروق لها الأمر وخاصة محاربة الفساد والفاسدين فانسحب ممثلوها من الحكومة واعادت تشكيل قياداتها وأعلنت الحرب على الحكومة بطرد ممثليها وجنودها في المقاطعة، كان من المقرر ان يكون هناك انتخابات في أغسطس 2020 ولكن تم تأجيله بسبب وباء كوفيد، ولكن مقاطعة لم تأبه بذلك وأقامت الانتخابات، في ليلة 4 نوفمبر 2020 دخلت المجموعات المسلحة التابعة لجبهة التحرير التيغرية المعسكرات الحكومية وعرضت عليهم الانضمام لها أو الرحيل، فقتل المعارضين والمقاومين من الجنود وتم الاستلاء على أسلحتهم، وتوالت الحرب الضروس فقتل فيها عشرات الألاف وأصبح 2 مليون بلا مأوى وأصبح أكثر من 9 ملايين من السكان معرضين للمجاعة، بل أن المتمردين أنضم إليهم أخرين من الأقاليم الأخرى وأعلنوا الزحف الى العاصمة أديس ابابا لأجل اسقاط الحكومة ووصلوا الى 200 كم شمال العاصمة وأصبحت الحكومة الشرعية المركزية في حالة حرجة حتى ان البعثات الأجنبية غادرة البلاد.
بعد أن أصبحت العاصمة مهددة من المتمردين، اصدر البرلمان قرار بتصنيف جبهة تحرير تيغراى بانها منظمة إرهابية (عكس ليبيا التي ناصر برلمانها المتمردين)، حينها نزل أبي أحمد إلى ساحة المعركة لرفع معنويات جنوده، وعقد عدة اتفاقيات لشراء طائرات مسيرة من الصين وروسيا وتركيا وإيران، في غضون أيام تم صب حمم على المتمردين من الجو باستعمال الطيران المسير، نتج عنه إعلان قوات المتمردين الرغبة في الانسحاب يوم 9 ديسمبر 2021م وأستمر تعقبهم إلى أن دخلوا المقاطعة، وبذلك انتهت المرحلة الأولى حيث أصدر البرلمان قرار بعدم الدخول الى الإقليم وإعطاء الفرصة للحوار، بالمقابل وضعت خطط من الحكومة للدخول إلى عاصمة الإقليم لنزع سلاح المتمردين في 20 يناير 2022م مع إعطاء فرصة للحوار الوطني.
اللافت للأمر أن هناك تقارير تؤكد ضلوع أمريكا في تسليح ومساندة جبهة تحرير تيغراي، ولقد أبدت أمريكا وبعض الدول الأوروبية الكثير من القلق والامتعاض من سياسات أبي أحمد وخاصة في عدم تعاونه لحل عدة ملفات منها قضية سد النهضة.
ما يهم في هذا المقال هو موقف البرلمان الاثيوبي الناضج الذي جاء مع الشرعية ومع الدولة ومع الشعب الاثيوبي في تشيع قوانين مناهضة للمتمردين في حين أن البرلمان الليبي شرعن المتمردين ونصبهم في قيادة الجيش وشرعن تورطهم في التعامل مع الخارج من جلب السلاح والمرتزقة لاستعمالها لتدمير مدنه وقراه، بالمثل رؤساء الوزراء الليبيين كان من نوعية الأيدي المرتعشة، فعندما قررت قوات الشروق دهر المتمردين ثبطتهم الحكومة، وعندما كان الفلول هاربين من جنوب طرابلس مدحورين أوقف أعضاء الرئاسي الزحف للقضاء عليهم، وفي جميع الحالات كان تمويل السلاح والمرتزقة من المصرف المركزي التابع للحكومة الشرعية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً