ثمة وجه آخر للدعوى المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وهي انتهاء مسرحية “المحرقة” التي تاجرت فيها تل أبيب طوال سبعة عقود، وانكشاف الوجه الحقيقي لإسرائيل التي قامت أساسا على نفي وجود الآخر لتكتسب شرعية مزعومة من خلال المقولة التي أطلقها هرتزل: “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض“.
لا شك أن تمثيل دور الضحية طوال العقود الماضية، كان السبب بالاضطهاد الكبير للفلسطينيين والعرب، ومبررا لارتكاب المجازر، بدءا منذ العام 1948 حتى اليوم، لأن الرؤية كانت “أن العرب سيقضون علينا، ويعملون على إباداتنا”، ولهذا كانت مرافعة الفريق الإسرائيلي في لاهاي مبنية على هذه النظرة غير المنطقية والمضادة لفلسفة القانون، وجعلت مسألة الهجوم على مستعمرات حدود غزة أنها عملية من أجل الإبادة الجماعية.
في هذا الشأن لا بد أن يتناسى المجرم الأسباب التي أدت إلى رد الضحية على جرائمه، فهو لا يعترف أساسا بوجود الآخر، وبالتالي يعتبر أي رد فعل على جرائمه بمثابة عدوان عليه، وإذا أخذنا بعين الاعتبار تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشأن الإبادة مستعينا بنص توراتي، لأن في العقل الباطن الجمعي الإسرائيلي الآخر لا حقوق له، فإن الإبادة ضد الفلسطينيين هي سياسة راسخة في العقل الصهيوني.
هنا لا بد من التذكير أن التراكمات الجنائية لا تسقط مع الزمن، ولا تنفصل عن بعضها بعضا، فهي سلسلة مترابطة، إذ أن الفعل الأول يقابله رد وتتكرر ردود الفعل بين المجرم والضحية، لكن يتحمل مسؤوليتها مرتكب الجريمة الأولى.
ولما يكون المجرم يعمل على أساس نتائج مسبقة ليست مرتبطة بالضحية، إنما هي صادرة عن مجرم آخر، عندها يتصور أن قتل الضحية هو قتل للمجرم التاريخي، أي باختصار، أن الممارسات الأوروبية ضد اليهود، قبل النازية، وخلال الحرب العالمية الثانية، منفصلة تماما عما يرتكبه الإسرائيلي منذ العام 1908 حتى اليوم ضد الشعب الفلسطيني، بل أن مجازره سابقة للممارسات العدوانية التي ارتكبها النازيون ضد اليهود، وبقية الأقليات العرقية الأخرى، ولا علاقة بين الفلسطيني والأوروبي في هذا الشأن، إلا من خلال المزاعم الأوروبية بشأن الاستيطان اليهودي في فلسطين، والخطة التي وضعها نابليون في القرن الثامن عشر من أجل قطع الطريق بين المشرق العربي والمغرب لإضعاف الدولة العثمانية.
تاريخيا ارتكبت المنظمات الإرهابية الصهيونية أفعالا جرمية ضد دول وأفراد من أجل تبرير عدوانه على هذا البلد أو ذاك، واتهمت فيها جماعات في تلك الدول، أو وشنت الحرب بذريعة “الدفاع من النفس الاستباقي”، كما فعلت في لبنان أعوام 1948و 1970 و1971 و1972، وأيضا عام 1978 حين شنت حربا على لبنان بذريعة إبعاد المسلحين الفلسطينيين إلى ما بعد الليطاني، وعملت على إقامة منطقة عازلة، واستعانت بالميليشيا العميلة لها للسيطرة عليها، واسمتها “دولة لبنان الحر”، أما العدوان الأكبر فكان في العام 1982 حين رتبت مسرحية اغتيال سفير إسرائيل في لندن كي تبرر غزوها للبنان، والذي فيها احتلت العاصمة بيروت، وفرضت رئيس جمهورية بالقوة.
اليوم وحين تمثل إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية فهي تستند إلى إرث عدم المحاسبة على كل جرائمها، والدعم الأوروبي والأمريكي، وهي ذهبت إلى لاهاي على هذا الأساس، وعرضت حججها بنوع من الاستخفاف، معتبرة أن ما تسوقه من مزاعم سينطلي على المحكمة، وأنها تجدد مزاعم الإبادة الأوروبية – النازية لليهود كي تستدر العطف.
سقطت كل هذه الترهات، وبدلا من استدرار العطف وقعت في فخ شر أعمالها، وفي هذا الشأن كتب كبير المستشارين القانونيين في “هيومن رايتس ووتش” كليف بالدوين أن “لا يكفي ببساطة الاكتفاء بقول إنّ المدنيين ليسوا هدافا للهجمات؛ يفرض القانون الإنساني الدولي على أطراف النزاع اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة لتقليص الضرر اللاحق بالمدنيين والأعيان المدنيّة، وتُحظر أيضا الهجمات التي لا تُفرّق بين المقاتلين والمدنيين أو التي يُتوقع أن تتسبّب في أضرار غير متناسبة للسكّان المدنيين مقارنة بالمكاسب العسكريّة”، وهذا لم تتلزمه إسرائيل طوال العقود الماضية.
لكل هذا مهما كان قرار محكمة العدل الدولية، إلا أن هناك حقيقة واحدة تاريخية وأخلاقية وقانونية جرى إثباتها بمجرد مثول إسرائيل أمام المحكمة، وهي أن مزاعم “المحرقة” التي استثمارتها تل أبيب طوال سبعة عقود، باتت ورقة خاسرة اليوم، وأصبح من كان يزعم أنه ضحية تاريخية هو المجرم، وهذا قد يفتح الملفات المغلقة بشأن دور الصهيونية في الممارسات الأوروبية، وكيف استفادت منها لخلق رأي عام يخدم هدفها هو إقامة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً