الجزء الثالث من مقال “بعد أن أغرقت الليبيين بصديد سياساتها.. هل تكون ليبيا هي جحيم واشنطن الثالث.. فور انتهاءها من تفحم أوكرانيا وغزة!؟”
بداية لعله من المهم الإشارة إلى إنني قد أجلت نشر هذا الجزء الثالث، والجزء الرابع الذي سيليه، كل هذه الأيام الفاصلة بينهما وبين نشر الجزء الثاني من هذه الورقة، ليكون نشر هذين الجزئين قريبا من تقلد ترامب لمقاليد السلطة في واشنطن، وذلك بسبب ارتباط جانبا من التحليلات التي يتضمنها هذين الجزئين بطبيعة سياسات ترامب القادمة في ليبيا.
***
كنا قد انتهينا في الجزء الثاني من هذه الورقة من عرض الطبيعة التدميرية للمراحل الفبرارية الأربعة التي انتهت إلى تسليم البلاد لخامس هذه المراحل التي بتنا نقف على عتبتها، وهي المرحلة الراهنة التي جاءت في أعقاب أربع مراحل عصيبة أراق الإنجلوسكسون خلالها دمائنا بلا مبالاة وإسراف وأغرقوا خلالها البلاد بكل أشكال الأوحال اللازبة، بيد أن ولوج هذه المرحلة لا بد وأن يردنا إلى أصل صناعة هذه الورقة، وهو نشري لمنشور (مختزل) عن هذه المرحلة الخامسة، على صفحتي على فيسبوك، والتي أطلقتُ عليها بالمنشور (مرحلة ما بعد المحافظ المخلوع أو مرحلة عودة الوجود العسكري الأمريكي أو الوجود الإنجلوسكسوني العسكري إلى البلاد)، ولقد جاء ذلك المنشور تحت عنوان (لقد فاحت رائحة الطبخة الأمريكية التي ستحدد طبيعة الغسلين الذي تعد واشنطن لتجرعه لنا ابتداء من هذه المرحلة الخامسة وحتى يرزقنا الله بفرجه)، وقد تضمن المنشور النص التالي :(بعد أن جعلت الليبيين يتضورون جوعا لافتراس قادتهم وتمني الشعب لزوالهم من على وجه الأرض، واشنطن تستعد لطرح (قصاعي) شديدة السُمية على موائد الليبيين، فور أن أوشى لها اختبارها للرأي العام المحلي، الذي أجرته عبر تلويحها بهراوة “هيئتها العرفية للاستفتاءات المعلبة والاستعلام المبيت”، بأن الليبيين قد باتوا جاهزين فعلا، بل وجاهزين جدا، للإقبال بنهم وشراهة على التهام طعام الغسلين المسموم والمتجرثم، الذي تخطط لتقديمه على موائدهم قريبا جدا)!.
ولأني قطعت وعدا على نفسي لعدد كبير من أصدقاء الصفحة الذين أعربوا عن عدم فهمهم للمنشور، إضافة إلى من سيقدر له الاطلاع على هذه الورقة من متابعي هذا الموقع، بعرض التفاصيل الباطنية للمنشور موضوع هذه الورقة، وهو تحليل طبيعة هذه المرحلة الخامسة من مراحل الإنهاك الأمريكي لليبيين، والتي انطلقت فعلا بدحرجة رأس الصديق الكبير وستمتد (ما لم يلحق الشعب بنفسه عاجلا غير آجلا) على طول ما بقي من زمن يفصلنا عن يوم القيامة، وإليكم التفاصيل المستترة للمنشور، والتي سنقدمها في صورة معجمية لضمان الفائدة والفهم الأصيل، آملا أن تنجح هذه الصورة القاموسية بتقديم شرح واضح وكاف لكل عبارة من عبارات المنشور التي واجه المتلقين صعوبة بفهمها.
ترى أي (طبخة أمريكية) هي التي فاحت زفرها؟
إنها طبخة تنفيذ الإملاءات الأمريكية بتشكيل (الهيئة الأمريكية للاستفتاءات “المعلبة” والاستعلام “المبيت”) بواسطة قرار عرفي قام على إرادة ظاهرية حصرية للمواطن الأمريكي محمد المنفي، الذي نفذ هذا الإملاء قرين إملاء آخر، وهو عدم إشراك أحدا معه بصنع هذا القرار، ولا حتى قرينيه بما يسمى بالمجلس الرئاسي، وذلك بخلاف ما ينص عليه ما يسمى بالاتفاق السياسي، الذي صنعته واشنطن نفسها، ورغم ما عودنا عليه الكوني (أحد هذين القرينين) من استخدامه (لدهقنته) باستقبال صدمات تهميشه بالفرار إلى “رومانسية الدموع” التي عُرِف بها وعُرِفت به، وباتت تمثل واحدة من أقذر مظاهر خردة الواقع السياسي الليبي الراهن، إلا أن الواضح جدا هو أن الرعب الأمريكي المتصل بإصدار هذا القرار قد استطاع أن يقلب هذه المرة ديبلوماسية الكوني رأسا على عقب، وذلك بدفعه إلى الفرار (نتيجة إدراكه بلا شك لقدرة دموعه هذه المرة على إغراقه فيها حيا حتى الموت)، إلى التدثر بديبلوماسية (انبطح.. وكن ملكا أكثر من الملك)، وهو ما عبر عنه الزعيم الكوني (بإعادة توجيه ما يتمتع به من “دهقنه” لا يجاريه فيها أحد) بالجنوح إلى الرد على تهميشه، رغم إنه جاء مهينا له هذه المرة أكثر من أي مرة سابقة، بابتلاع عبراته وحبس دموعه، وشد عزمه لتقديم نفسه كما لو كان هو (وليس واشنطن)، من خلق الكيان الاستفتائي المشوه، وذلك بانبراءه للدفاع، ليس عن هذه الهيئة المشبوهة فحسب، بتحوله بين ليلة وضحاها إلى داعية لها لا يضاهيه بالدعوة إليها ولا حتى دعوة جلال الدين الرومي للطريقة المولوية، بل ولقد بات الكوني يصرخ في الناس بعلو صوته بدعوتهم إلى الالتفاف حول هذه الهيئة الكارثية، باعتبارها (بغل طروادة الليبي)، الذي سيختبئ بجوفه هو ورفقيه انتظارا لأقرب الفرص واللحظات لفتح أبواب ثورة التصحيح الكبرى، أمام الوطن المنكوب، بالكوني ورفقيه قبل غيرهم من منافسيهم على قهر الليبيين.
ولقد كان أول هجوم (للزفرة الصديدية لهذه الهيئة) قد غزى أنوف الليبيين مع انطلاق الحملة الصبيانية الرعناء التي قادها “سياسي الصدفة ورومانسية النحيب موسى الكوني” عبر حفنة من اللقاءات العشوائية المفبركة التي أجراها لأجل خلق مناسبات ينال فيها فرصته للدعاية لخيرات (نظم الطوارئ) وأفضال (نكاح الأحكام العرفية) للشعوب المأزومة، والتي كرس الكوني جهده خلال جلساتها العشوائية مع شتات من أناس من هنا وهناك، للدعاية لأهمية إنقاذ الأوطان المأزومة بالضربات الانقلابية الاستثنائية، بل ولقد بلغ الابتذال بالكوني خلال نشر ضلاله الأمريكي بين الليبيين، حد إشارته بين هرطقاته إلى (نموذج الطوارئ التونسي) الذي قاده الرئيس المنتخب قيس سعيد، بدعم مباشر من شعب وجيش بلاده، ناسيا هذا الكوني بأن وضعه هو ورفيقيه بالبلاد، والذي يشبه رشق ثلاث عيدان لخيالات مآته بحقل “دلاع” لإبعاد الطيور عنه، لا يسمح له ولرفيقيه وحكومتهم، ولا حتى بالتحكم بمراكز بوليس البلاد، المسيطر عليها من أمراء الحرب الذين تتوزع هذه المراكز بين مناطق نفوذهم.
ولأن (حصان طروادة الشهير) والذي أصبح مضرب الأمثال بتحقيق النصر المبني على الدهاء، كان حصانا خشبيا ضخما، صنعه الإغريق وأخفوا فيه عددا من جنودهم البواسل ووضعوه بمرمى بصر الطرواديين، لإغراءهم بجره إلى داخل مدينتهم، وهو ما حدث فعلا، لتنتهي الخدعة إلى قيام جنودهم بالتسلل خارج الحصان ليلا وفتح أبواب الطرواديين وهم نيام للغزو الإغريقي، فإن الزعيم موسى الكوني بات يعتبر اختباءه هو ورفقيه “ببغل طروادة الليبي” المسمى “بهيئة الاستفتاءات الأمريكية المعلبة والاستعلام المبيت”، إنما هو السبيل المصيري الأوحد لصناعة السلام الليبي وتحقيق استقرار وازدهار البلاد، بل ولقد أظهر الكوني إيمانا قويا ومفاجئ بهذا المشروع الأمريكي الصرف، كما لو كان هذا الإيمان قد أنزل عليه في قرطاس من السماء، وذلك بانبراءه حصرا ونيابة عن صفهم الثلاثي، للدعاية لهذه الهيئة، وتحذير الناس (وهو يتحصن بموقع الناصح الأمين) بأن بركة هيئته اللعينة لن تمس الليبيين بالخير، إلا عقب قفزه هو ورفقيه من المجسم الخشبي (لبغل طروادة الليبي) ليليا أو نهاريا، طالما كانت واشنطن معهم، وذلك لفتح أبواب البلاد أمام سلسلة من الانقلابات التي يجب تفجيرها في صورة جمله من إعلانات الطوارئ، وفرض الأحكام العرفية، والتي لا بد وأن تنتهي – بحسب الكوني – إلى قنصهم (أي أصحاب بغل طروادة الليبي)، لكافة مزاحميهم على الحكم والسلطان في ليبيا، وبذات الطريقة التي قنصوا بها (لحساب واشنطن)، وعلى حين غرة والناس نيام، المغدور به إلى غضب الله، الصديق الكبير، قبل إرساله إلى منفاه الأخير والذي سيليه مصير جهنم وبئس المصير.
ورغم إن الكوني عُومل لحظة إصدار المنفي لقرار إنشاء هيئة الاستفتاءات المعلبة، كما لو كان “حكة حليب زهرات فارغة ملقاة بسطل مطبخ المجلس أو كما لو كان مساعد نادل كسول لا نفع منه مفروض بالواسطة على مطبخ المجلس” وليس رأسا من رؤوس المجلس الثلاثة، إلا أن الواضح أن الرعب الأمريكي كان قد نجح فعلا هذه المرة بنقل الكوني نقلة كبيرة ومفاجأة من “ديبلوماسية النحيب” التي حول بها حياتنا إلى ملح أجاج، إلى تقمص روح جمال الدين الرومي بانبراءه شخصيا لخوض معارك الدعوة والدفاع معا على هيئة التعليب السياسي، التي ستتحول واشنطن فور تجسيدها لنتائجها المبيتة إلى “المفتي السياسي الحصري للبلاد”، بل ولقد دفع هذا الرعب الزعيم الكوني ضمن ركوبه الجديد لسياسة (انبطح.. وكن ملكا أكثر من الملك نفسه) إلى فعل ما هو ألعن، وهو تصديه بنفسه للدعاية لأخطر عواقب صناعة هذه الهيئة والتمهيد لتشغيلها، وذلك بتورطه جهارا نهارا بإغواء الناس وإغراءهم وتبشيرهم بقدوم مرحلة فوضى الانقلابات والتمردات وإعلان الطوارئ وفرض الأحكام العرفية، التي ستحيل ليبيا – بحسب وعد الكوني الذي يشبه وعد الكاهنة سجاح لاتباعها بالجنة – إلى واحة للسلام وأرض للازدهار والجنان الوارفة، بيد أنه لا أحد يعلم حتى الآن إن كانت واشنطن ترامب ستواصل توظيف (حمولة بغل طروادة الليبي) بإتمام هذه المهمة، أم إن هذه الحمولة ستذهب إلى التواري بزوايا العزلة وعتمة الزهايمر الذين ينتظران (واشنطن بايدن)!؟
ولعل ما يؤكد وبقوة وقوف واشنطن حصريا خلف بعث هذه الهيئة المشبوهة، ويؤكد أيضا يقين المنفي واتباعه بغموض مصير هذه الهيئة عقب سقوط بايدن، هو حالة الخرس والبكش التي سيطرت على كلا من المنفي والكوني، حد ابتلاع كلا منهما للسانه وإخفاءه بين أمعاءه، وهو ما لا بد وإنكم جميعا قد لاحظتموه وتابعتموه ضمن سياق كل الأخبار المحلية منذ الإعلان عن خسارة بايدن للبيت الأبيض وحتى لحظتنا هذه حيث ما عدنا ومنذ سقوط بايدن نسمع شيئا، لا عن الهيئة المشبوهة ولا عن عنتريات التهديد بفرض الأحكام العرفية، وهنا أتوقع أن يرتفع صوتي وأصواتكم معا بأسئلة استنكارية من نوع: أين ذهبت تلك الحملة المركزة والمتغطرسة من التهديد والوعيد التي قدتها يا منفي أنت والكوني لتبشر الليبيين بقرب إعلانكما لسلسلة من حالات الطوارىء وفرض الأحكام العرفية على البلاد وإغراقها بالانقلابات والتصفيات السياسية السوداء!؟ وهي الحملة التي استمرت وبنسق مركز ومستفز منذ تلقيكما لأوامر إنشاء هيئتكما المشبوهة وحتى سقوط بايدن، الذي من الواضح جدا أنه قد أسقط معه لسان كلا منكما بقاع بطنيكما!!.
ولو كانت هيئة الاستفتاءات المعلبة هي من اختراعك أنت يا منفي، وإنها عمل وطني ظهر ولّدته على يديك لتنفيذ مشروع انقلابي يطهر البلاد من (الخلايق الذين ابتليت بهم، والذين أراك أخطرهم)، فأين ذهبت تهديداتك بإرسال عقيلة والمشري وتكالا إلى الجحيم!؟ ولماذا خرست وتبكشت فجأة!؟ وهل هي صدفة بحثة أن يتزامن بكشك وخرسك وتلاشي حملتك الغازية، مع سقوط بايدن وتلقي حكومة واشنطن في ليبيا لأوامر صارمة بضرورة أخذ خطوات للوراء إلى أن يرى ترامب رأيه بمصير الليبيين، الذين جار عليهم الزمن حتى أضحى مصيرهم يتحدد على يديك وعلى يدي أشهر مُلاك صالات قمار وإنتاج الأفلام الإباحية!
بيد إن زلزال الإرهاب الأمريكي لم يُصب قلب الكوني وحده بالرعب و التصدع، حيث أنه لم تمضي إلا بضع دقائق فقط (إن لم تكن ثواني) على نشر (سبع البرمبة الآخر) المدعو عبدالله اللافي، لتغريدته العنترية على موقع إكس، والتي نشرها فور انبعاث صرخة الميلاد الأولى لهيئة الاستفتاءات المعلبة إلى العلن، وعبر فيها عن استهجانه واحتجاجه الشديدين ورفضه القاطع لإنتاج المنفي لقانون إنشاء هيئة الاستفتاءات الأمريكية المعلبة بالساعات الأخيرة من يوم جمعة، ودون أن يُعرض عليه الأمر وكأنه (بمبلي غاز) بمطبخ المجلس وليس العضو الأكثر طموحا ونرجسية فيه، حتى قام هذا اللافي بلحس ما تقيأ بموقع إكس أمام الله والناس أجمعين!!
وذلك فور تلقي اللافي على أغلب الظن لصفعة جعلته يتفطن لطبيعة المالك الحقيقي لهيئة الاستفتاءات الأمريكية المعلبة، وليكتشف الناس مع ذلك وهم يشعرون بالحسرة والأسف، بأن ما أظهره (القائد اللافي) من بطولة وانحيازا للاتفاق السياسي الذي ابتلانا به وبرفقيه، لم يكن إلا استعراضا أجوفا حين ظن أن الجدار الذي سعى إلى (اللهيد) فوقه بداية هو من الجدر المحلية القصيرة التي يمكنه صعودها وإظهار نفسه للناس من فوقها كقائد من قادة الانتصار للقانون والنظام!! بيد أنه سرعان ما تبين أن منشوره قد كتب على ورق تواليت سرعان ما ذاب بمرحاض السفير الأمريكي، وهو ما حول أمل الناس (وإن كان ضعيفا) إلى اتجاه آخر، وهو الرجاء بأن لا تكون الصفعة التي تلقاها اللافي قد رنت على صدغه قرين كلمات نابية وبذيئة من ذلك النوع من المفردات الرخيصة التي تعود القادة الليبيين على سماعها من موظفي الدرجة العاشرة التابعين لمحطة المخابرات الأمريكية في ليبيا، من أصحاب اللغة العربية المشرقية والأخرى المكسورة الحروف، كلما خرج أحدهم على النص.
وكيف فاحت الطبخة؟
لقد فاحت رائحة هذه الطبخة الأمريكية المسمومة التي بات يجري التحضير لها على قدم وساق لتقديمها على موائد الليبيين قريبا (بحال تركنا الأمريكيين يفعلون بنا ما شاؤا)، بالرغم من كل محاولات واشنطن إخفاء رائحة هذه الطبخة وسط جملة من أبخرة احتراق البلاد التي أطلقتها بذات وقت إعداد هذه الطبخة، حيث إنه وبمعزل عن اختيار واشنطن لإصدار قرار إنشاء “هيئة الاستفتاءات الأمريكية المعلبة” بساعة متأخرة من يوم جمعة، وفي غير شأن طارئ، وإنما لمجرد ضمان غياب وجهي الكوني واللافي!! بذهاب واشنطن إلى اختيار “أم عزباء” للحمل بهيئتها، وذلك خوفا عليها من ضياع نسبها باختلاطه بين أصلاب الفحول الثلاثة للمجلس الرئاسي، وأما “ضربة المعلم الأمريكية” التي نفذتها بإحكام لإدغام رائحة الطبخة الشريرة بروائح أخرى لاحتراق لحوم الليبيين، والتي انطلت على أغلب الليبيين فعلا، فهو اختيار واشنطن لتوقيت إطلاق الصرخة الأولى لميلاد “هيئتها المشبوهة”، والذي اختارت بخنس الشياطين، لجعله يتعالى مختلطا بأصوات خرخرة الصديق الكبير وهو ينحر بغير قبلة، ووسط تصاعد غبار (صكان) قدميه وهو يُخرج روحه، وأما شغل المخابرات المحترف لجعل ميلاد الهيئة المشبوهة يجري تحت جنح ظلام دامس وتحقيق أهداف أخرى لا تقل خطورة، فهو التعظيم الأمريكي الوهمي لأزمة شغور منصب “محافظ”، ورفع هذه الأزمة إلى ذروتها بإظهارها وكأن ليبيا على وشك استقبال كارثة وباء غير مسبوق سينتهي بها إلى انقراض شعبها، وذلك بتصوير مسألة خلع “مجرد موظف”، على أنها مأساة كبرى أشد وطأ على البلاد من مأساة من الحرب العالمية الثانية، وأما السخف الشديد الذي مارسه الكثير من القادة المحليين بتماهيهم مع هذا الضلال الأمريكي البواح، ورفضهم الظهور جهارا نهارا لفضحها على رؤوس الأشهاد، فهو حقيقة أن هؤلاء القادة الخانعون لم يكونوا جاهزين يوما لمواجهة أزمة سلفا وباقتدار شديد بقدر جاهزيتهم لطرح قيادة جديدة للبنك المركزي، وبصورة منظمة ومحترفة ومقبولة لدى كافة الليبيين، وذلك بالنظر إلى قطع كلا من البرلمان ومجلس الدولة لجهود كبيرة على صعيد تحديد آخر الشخصيات المنتقاة للترشح لمنصبي المحافظ ونائبه، فلقد كانت المؤسستين على وشك اختيار ثلاثة من كل من مجموعتي المترشحين لمنصبي المحافظ والنائب امتثالا لمخرجات بوزنيقة بشأن المناصب السيادية، وذلك قبل أن تأتيهم وقتها الأوامر الأمريكية لإيقاف وتجميد كل شيء لحساب صبيها الصديق الكبير.
بيد أن الخطر الأكبر الذي تأكد لاحقا، هو أن واشنطن لم تسعى إلى إكثار روائح احتراق لحومنا ساعة ظهور هيئتها الاستفتائية المبيتة لإخفاء (زفرة ميلاد) “محرقتها” التي ستحرق فيها إرادتنا الاستفتائية والاستطلاعيه فحسب، بل ولقد تأكد لاحقا وبصورة صادمة، بأن الزيف الأمريكي من وراء تعظيم أزمة “خروج مجرد موظف مصرفي من الخدمة”، وهي الوظيفة التي احتلها بالمناسبة بقرار ودعم أمريكي – إنجليزي غير مشروع أبقاه حاكما أوحدا للبنك المركزي لما يقارب العقد ونصف، بل ولعل ذروة السخرية هنا هي أن قرار التخلص من الكبير نفسه إنما هو قرار أمريكي خالص ولم يجري إلا لمصلحة واشنطن الحصرية أيضا، بيد أن تحويل واشنطن لأزمة خروج هذا الموظف إلى شيء بحجم “هولوكوست شعب غزة” إنما يقف وراءها رغبة واشنطن بتحقيق هدفين آخرين بخلاف (سلب إرادتنا الاستفتائية – الاستطلاعية)، وجه كلا منهما لتمكينها من سلب موارد البلاد وسلب سيادتها النقدية والمالية، وهما الهدفان اللذان يبدو أن الكبير كان ضحية لمعارضته لهما، ما يعني أن المغدور كان ضحية “المرة الأولى” التي حاول أن يكون فيها موظفا ليبيا وليس إنجلوسكسونيا، ولعل ما يقوي من عضد هذا الافتراض هو اتجاه واشنطن فور انتهاءها من التخلص من الكبير نحو تحقيق هذين الهدفين هدفيها المرعبين الذين ما تزال تطحن عظامنا لإرغامنا صاغرين على القبول بهما، وهما هدف إجبار ليبيا على القبول بموظف إنجلوسكسوني – تعتبره واشنطن وتسميه بالطرف الثالث بالبنية السيادية للبنك المركزي – وستأتي به ليجلس على المنصة السيادية للبنك ليكون شريكا أصيلا بهيكليته، وبما يعطيه كامل الحق بأن يكون ندا للقادة المحليين بالتحكم بموارد الليبيين وتحديد مصيرها والتمتع بحق المشاركة بصناعة القرارين النقدي والمالي، بل والتمتع بحق المعارضة ورفض السياسات والقرارات التي لا تناسب المصالح الأمريكية، ولأن هذا الملعون الثالث سيكون مسجلا لدى الجهات المالية والمصرفية الدولية كشريك بحقي القرار والتوقيع، فإنه سيكون قادرا على إبطال كل القرارات السيادية الليبية حتى بحال أرادت قيادات محلية اتخاذ بعضها ضد إرادة الموظف المحتل لأنها رأت فيها مصلحة ليبية حيوية.
هذا، إلى جانب إصرار واشنطن على تحقيق هدف آخر لا يقل مأساوية وهو إخضاع البلاد للقبول بإنشاء قاعدة احتلال أمريكية داخل بنك الليبيين المركزي، وهي التي أطلقوا عليها صفة “شركة مراجعة مالية أجنبية”، ولسوف تثبت الأيام قطعا، إذا ما سمح الليبيين لواشنطن بتحقيق اعتداءها الجسيم على السيادة النقدية للبلاد، بأنها ستكون قولا واحدا، هي الحاكم الفعلي للقرار النقدي والمالي الليبي ولسنوات لن تبعد كثيرا عن قيام يوم البعث العظيم، بل لعل الأمر الأشد فتكا هنا، هو أن هاتين الأداتين سيكونان هما الذراعين المدججين الذين ستُحكم بهما واشنطن قبضتها على كل شأن من شؤون البلاد النقدي والمالي مهما صغر، وإن هذه السيطرة لن تفتح أبواب ليبيا على مصاريعها أمام واشنطن فحسب، بل وستحطمها تحطيما من أساسها، وتتركنا عراة أمامها حتى من ورقة التوت، ولن يكون هناك ما هو أهم لواشنطن من تحطيم الباب النقدي للبلاد أمام جحافلها لتولج فينا سكاكينها الصدأة الثلاث التي ستقضي بها على كل ما بقي من وجودنا المادي والمعنوي كشعب، وهي السكاكين الصدأة التي اسمتها (ببرنامج مستفيد، والقانون الأمريكي لدعم الاستقرار في ليبيا، والقانون الأمريكي الآخر الذي أعطت به لنفسها الحق بممارسة وصايتها السياسية على عشر دول بينهم ليبيا وصمتهم بالدول الهشة).
انتظرونا فإن للحديث ختاما.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً