هل توجد كتلة حرجة في ليبيا؟

هل توجد كتلة حرجة في ليبيا؟

منذ سقوط نظام معمر القذافي قبل أزيد من ست سنوات، والنخبة الليبية تواجه بطرق مختلفة أسئلة تأسيس الدولة الليبية، التي تقيم العدل بين مواطنيها، وتعطي الحقوق لأصحابها، وتساوي بين الليبيين أمام قانون عادل.

من الأسئلة المهمة في بناء الدولة سؤال وجود الكتلة الحرجة في المجتمع والنخبة، وقبل أن أحاول الإجابة عن هذا التساؤل فإنني أود في البداية التأكيد على أنه بالرغم من أنني من مؤسسي حزب العدالة والبناء، وأنني لظروفي الخاصة قد أخذت منذ فترة مسافة عن مطبخه السياسي ونشاطه اليومي، إلا أنني هنا أقدم هذه المقالة كشهادة ونصيحة أبتغي بها وجه الله خدمة لوطني، خالية من أي تعصب حزبي، وإنما هي رسالة مشفق على بلده.

الكتلة الحرجة

توقف علماء الاجتماع وخبراء العلوم السياسية عند مفهوم الكتلة الحرجة (Critical Mass)، القادم من الفيزياء، وعند محاولة تبسيط المفهوم فإن المقصود به هو مجموع المؤسسات التي تضم الأشخاص حاملي أفكار التغيير. إن هذه العناصر الثلاثة: (الأشخاص – المؤسسات – الأفكار) هي المكونات الرئيسية لما يعرف في العلوم السياسية والاجتماعية بالكتلة الحرجة التي تقود التغيير في المجتمعات. والواضح أنه لا بد من حد مقبول من التجانس بين هذه العناصر الثلاثة، وانصهارها في بوتقة واحدة من أجل خلق كتلة مؤثرة، قادرة على إحداث التغيير.

العدالة والبناء ومفهوم الكتلة الحرجة

لا شك أن الكتلة بهذا التعريف لم تتشكل بعد في المجتمع الليبي بالمعنى المرسوم في العلوم الاجتماعية، نظرا لحالة التفتيت التي مارستها الدولة خلال العقود الأربعة الماضية، وكذلك حالة السيولة التي وجدت بعد حدث الثورة، ومع ذلك يمكن المجازفة بالقول إن النواة الوحيدة للكتلة الحرجة في المجتمع الليبي هي حزب العدالة والبناء.

سيستفز هذا الكلام كثيرين ممن لا يريدون أن يذكر مشروع العدالة والبناء بأي خير، كما أن آخرين سيستغربونه، لكن هناك عناصر رئيسية لأي مؤسسة، أبرزها الرسالة، والهيكل الإداري والنظام الحاكم، فالأول هو الذي يعطي استمراريتها، والثاني هو الذي يحول الأفكار إلى مشاريع على الأرض، والثالث هو الذي يضبط العلاقة، وينظم سير الثاني، والمتأمل في واقع الحياة السياسية في ليبيا يكشف شيئا مهما يمكن الاستدلال به، وهو أن المؤسسة السياسية الوحيدة في البلد التي تتوفر فيها هذا الحد الأدنى من صفات المؤسسة السياسية وتمتلك هذه العناصر هي حزب العدالة والبناء.

إنه بهذه الطبيعة، وهذه التركيبة لا يشكل كتلة حرجة في الوقت الحالي، ولكنه يمثل النواة الوحيدة الموجودة في الساحة، والقادرة على أن تكون نواة لهذه الكتلة.

من المستفيد من محاولات النيل من حزب العدالة والبناء؟

يدفع الخلاف السياسي مع بعض أطروحات الحزب في الوقت الحالي كثيرا ممن كان يفترض فيهم صداقة الحزب إلى محاولة النيل منه بكل الوسائل، وهو تصرف ينم عن ضعف الحس الاستراتيجي؛ ذلك أن الذي يضعف النواة الصلبة الوحيدة الموجودة لا ليساهم في إزاحة رؤية يختلف معها في مسألة آنية، بقدر ما يدمر حلمه وحلم الأجيال من حاملي هذه الفكرة في إحداث عملية تراكمية تؤدي تمكين مشروع معين.

إن مخاطر تحطيم مثل هذا المشروع تنطوي على خطورة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، فهي تمثل إضعافا للمعادل الموضوعي الوحيد الموجود في مقابل النواة الصلبة للدولة العميقة.

الدولة العميقة ومقاومة التغيير

ليس هناك من حرج أن تتنافس المشاريع السياسية في حالات الإستقرار، ولكننا نمر بمرحلة يستخدم فيها العنف من قبل مشروع مقاومة التغيير لإزاحة مشروع التغيير. فمن يتأمل الواقع السياسي الليبي ما بعد الثورة، يجد فيه متقابلين أساسيين يتمتعان بخصائص متقاربة؛ فكلاهما يحمل أفكارا، وكلاهما يضم خبرات، وكلاهما صاحب رأس مال رمزي من الخبرة المتراكمة في العمل في المجتمع بمختلف فئاته لكن هناك فرقا رئيسيا بينهما، وهو ميل كتلة الدولة العميقة إلى المحافظة، ومقاومة التغيير، في حين أن أهم خصائص الكتلة الحرجة هو السعي للتغيير، بمعناه السياسي والمجتمعي.

بناء على هذا التحليل فإن حزب العدالة والبناء يمثل خط الدفاع الأول، ليس فقط بالنسبة للمنتسبين إلى التيار الإسلامي، وتيار ثورة السابع عشر من فبراير، بل لعموم الراغبين في بناء دولة المساواة والعدالة في ليبيا على أسس حديثة، متصالحة مع القيم وثوابت الشعب الليبي.

ليس لأحد في ليبيا حق تقديم الدروس في صناعة المواقف، والتصحيح لنخبة المجتمع الراشد، ولكن هذا لا يلغي الحق في نصيحة من يتوقع أن تقوده بعض المواقف إلى إغفال التفكير في كليات الأمور، والخلط بين اختلاف وجهات تفسير الأوضاع والأحداث الآنية، وبين التباين في الرؤى والأهداف الكلية، فذلك الخلط ضار بالشخص وبالوطن.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

اترك تعليقاً