رغم كل هذا الاستنفار والتأثيث بجميع أنواع الأسلحة والذخائر الحربية ووسائط الاستطلاع والمراقبة لساحة العمليات الحربية بأوكرانيا من طرف الغرب الأطلسي وتابعه الغرب الأوروبي، بل وكل هذا قد كان مسنود ومُعزز بخطوات موازية لحصار اقتصادي مكثف، وبضخ إعلامي لحرب نفسية، لا تكل مُسخرة جميع وسائطها المرئية والمسموعة والمقروءة لغاية واحدة لاستمرار الحرب وديمومتها ليس غير، بل وفي بعض مراحل الحرب استغل الغرب الأطلسي في صيغته البريطانية، وجوده كرئيس لمجلس الأمن بالهيئة الأممية، فوظّف هذه المؤسسة الأممية وجعل منها أداة ضغط، لتطويع وجر غريمه وعدوه الروسي إلى الرضوخ والاستسلام لإرادته، ولكن وبعد سبعة أشهر من الحرب لم يحدث ذلك، فإلى ما ترجع خيبة الأمل التي حاصرت الغرب الأطلسي وداعمه.
هل مرد كل هذا يرجع إلى صلابة العقيدة القتالية للجبهة المقابلة له والتي تنهض على أسس متينة، تستمدها من أنها تسعى بالحرب بعدما فشلت بدائلها إلى وضع يدها على ما تراه امتداد جغرافي ديمغرافي ثقافي لروسيا داخل الفضاء الأوكراني، لضمه إلى حضنها، وطيّه تحت مضلة الحماية الروسية ليتقي وليحتمي بها من تنكيل وطغيان وجور الآخر، وهذا الحِجاج قد يدعمه ويؤكده الواقع الموضوعي، لو رجع كل مهتم للتحقق من هذا الادعاء إلى خرائط الجغرافي والديمغرافي والثقافي للفضاء الأوراسي.
أم ترجع نتائج الحرب غير الجيدة إلى تقدم العقل السياسي الأوراسي خطوة على الآخر الإنجلوسكسوني في قدرته على القراءة الموضوعية للأحداث الحربية في سير عملياتها العسكرية، ومن ثم على تحريك دفتها في الاتجاه الذى يُريد كي يؤمن مردود إيجابي لحراكها العنيف.
ولكن وفي المقابل ألا نستطيع القول بأن العقل الإنجلوسكسوني قد كان ذهابه إلى الحرب بغرض إشعالها وتغذيتها والمحافظة على استمرارها هو غايته وهدفه وفقط، ففي ديمومتها تبديد واستنزاف لطاقات غريمه الروسي، والتي ستنتهي به الحرب وباستمرارها إلى التداعي والانهيار ومن ثم السقوط، تماما كمشروع حرب النجوم زمن الاتحاد السوفيتي الذى استنزف السوفيت اقتصاديا، فتداعى وانهار ومن ثم سقط.
ولكن ثمة عامل أساسي هام كان دائما ومنذ بداية الحرب بيد الطرف الأوراسي مما مكّنه من التحكم في ساحة العمليات الحربية ضيقا واتساعا متى شاء وكيفما أراد، واتساع ساحة العمليات الحربية أو تضييقها، سينعكس في الحالة الأوكرانية على جميع وسائط الحرب كما وكيفا على الجيوش والمعدات الحربية تقليدية كانت أو غير تقليدية، وهذا ينسحب على جميع الوسائط الحربية الأخرى.
حدث الاستحواذ والتحكم في سير العملية الحربية مند اللحظة الأولى التي اشترط فيها الطرف الأوراسي للحرب متكئا في ذلك على السلاح غير التقليدى لديه، وكان اشتراطه على كل من يقابله في الخندق الإنجلوسكسوني الداعم العلني للجيش الأوكراني، والمتحمس لاستمرارية الحرب والمحافظة على ديمومتها بأن تكون جميع استخدام الإمدادات الحربية للطرف الأوكراني في ساحة العمليات الأوكرانية، ولا يجب أن تتخطها إلى الأراضي الروسية، وغير ذلك سيحسب اعتداء على التراب الروسي وعندها سيكون الرد والهدف الحربي في داخل بلاد منشأ وصُنع السلاح المُستخدم في الاعتداء والعدوان.
وهذا مكّن الطرف الأوراسي من حصر أحداث الحرب في داخل الفضاء الأوكراني كمرحلة أولى إلى الحين الذي تتحقق فيه أهداف ما أسماه (عمليات حربية خاصة بأوكرانيا)، وعندما نال ما أراد، ووضع يده على جل أراضي (إقليم دونباس)، ذهب في اتجاه استفتاء داخل الإقليم ليُبين وليتبيّن العالم رغبة الإقليم في الانضمام إلى الفضاء الروسي من عدمه، وجاءت نتائج الاستفتاء إيجابية وبمنسوب عالي، فأعلن ضم الإقليم إلى التراب الروسي، فصار الإقليم تحت مضلة الحماية الروسية، فكان بذلك كل اعتداء على الإقليم اعتداء على التراب الروسي، فاتسعت بهذا الإعلان ساحة العمليات الحربية وتخطت إلى ما بعد التراب الأوكراني.
فبخطوة ضم إقليم دونباس إلى التراب الروسي نقل العقل الأوراسي الحرب إلى مرحلة ما بعد تكتيكة، أصبحت فيها ساحة العمليات غير الساحة السابقة، والسلاح والعتاد الحربي غير العتاد والسلاح السابق، والجيوش ستكون غير الجيوش السابقة، ليس هذا وحسب.
بل صار على الطرف الآخر في الخندق المقابل أن يتروّى كثيرا قبل أي خطوة في اتجاه تطوير الحرب، لأن في اتساع ساحة العمليات الحربية اتساع أيضا في بنك الأهداف، بمعنى أن لن تكون كييف ومحيطها فقط أهداف محتملة، بل لندن أو وارسو أو أوسلو أو جميعها أهداف حربية.
ولكن ثمة وجه آخر لهذا الصراع الأطلسي الأوراسي، لا يجب إغفاله يقول بأن الغرب الأطلسي سوف لن يخرج من هذه الحرب دونما كسب وإن جاءت هذه الغنيمة الحربية في صورة سلبية، فهو وإن لم يتمكن من المحافظة على استمرار الحرب وإدامتها حتى يتم تداعي وانهيار وسقوط روسيا، فهو وعلى وجه آخر تمكن من إجهاض الخطوات الروسية الأوروبية المُندفعة في اتجاه التأسيس لتعاون اقتصادي في مشروع إمداد الغرب الأوروبي بالغاز والطاقة والمواد الأولية الروسية، وقد ينتهي كل هذا لولا اندلاع الحرب إلى عقد شراكة ذات مردود إيجابي على الطرفيين الأوروبي والروسي، وسيرتفع بذلك منسوب فعاليتهما في الفضاء العالمي.
وأسس الغرب الأطلسي أيضا وبهذه الحرب لقطيعة ما بين الغرب الأوربي ودولة روسيا، قد تدوم هذه القطيعة طويلا من خلال تغذيتها لها، وهذه في تقديري، أحد ما أراد تحقيقه الأطلسي من خلال حماسه لإشعال الحرب والاجتهاد في المحافظة على إدامتها لأطول فترة ممكنة، خاصة من طرف الأطلسي في صيغته البريطانية، لأنه كان الأكثر حماسة في تغذية الحرب وأظهر رغبة عالية لاستمرارها أكثر من غيره أو سواه من الأطراف الأخرى حتى وبعدما تبين للعالم ارتدادات الحرب السلبية على مجمل حياة الناس في فضاءه الواسع.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً