لقد قلت في الجزء الاول تحت هذا العنوان. بان البداوة نتاج القبيلة، فهي من صاغها وشكّلها وقدف بها الى الوجود. وما فتئت هذه تكبر وتتسع حتى احتوت الصحراء وما عليها، فصارت لها الصحراء جسما ووعاء، فابتلعت بذلك القبيلة جملة وتفصيلا. فأصبحت القبيلة بهذا مفردة من مفردات هذا الجسم الذي صارت الصحراء وعاءه. وقلنا ايضا بان هذا الجسم (البداوة) كأي كائن على هذه الارض ينموا ويكبر ويتطور، ويتراجع نحو الضمور والتلاشي بتراجع الظروف التي انتجته. وتطور هذا الكائن سلبا او ايجابا يحدث بتفاعل مفرداته مع المحيط والواقع. والقبيلة كمفردة من مفرداته، سيتّرك هذا التفاعل صداه سلبا، إذا اعترضنا مسار طريقها نحو الاستقرار والتحضّر، بمحاولة تثبيته وسرّمدته في هيئته البدائية الاولى، او باستدعائه للتواجد في الحاضر في هيئته الاوّلية المغّلقة، بعدما تخطتها إلى طور حياتي متقدم، يقرّبها من حياة الاستقرار والتحضر.
وبقراءة الواقع والوقائع ماضا وحاضرا، سنابيّن بان الحال سيكون أكثر قتامة داخل هذه الجغرافيات، التي سعت الى تثبيتها في هيئتها البدائية الاولى. عندها وعندما يشّتد عود هذا الكيان القبلّي المغّلق. سيسعى ويعمل بكل جد وجهد على احتواء وتطويع وتوظيف كل ما ينتجه محيطه ماديا ومعنويا. ليوُظفه في خدمة تطوّر مساره السلبي المغلق. والجغرافيا السعودية بامتداداتها جنوبا وشرقا، قد تمثل وعلى نحو جيد ما نحتاجه من شواهد تعزز ما دهبنا اليه. ففي النصف الاول من القرن الفائت، وبعدما وضعت صحراء نجّد يدها بفعل هذا الكيان القبَلي المغلق، على كل هذا الامتداد الجغرافي الشاسع، وصارت تعمل على تجّدِيره بداخله. بكل الوسائل والسبل التي تسهّل استدعاء الظروف المُحفزة على ذلك. لم يلبت هذا الكيان حتى شرع وسعى صوبْ احتواء وتطوّع كل ما يقع بين يديه، وما يأتي به محيطه داخل هذا الامتداد الجغرافي، ليجعل منه اداة في خدمته وطوّع مشيئته. فحتى ما جاء به – في تقديري – ابن عبد الوهاب في ذلك الحين، والذي كان يهدف ويحاول به – في اعتقادي – لكسر هذا الانغلاق البدائي وجرّه الى طور متقدم من اطوار الحياة. استطاع هذا الكيان البدائي المغلق، من احتواء مسّعى هذا الشيخ. ولم يهدى حتى تمكن من تطّويعه. ليكون خادم له وفى خدمة هذا الانغلاق البدائي، على مدار قرابة قرن من الزمان ولا يزال.
وبقول اخر لقد تمكن هذا الكيان البدائي، بعدما طوّع ما جاء به هذا الشيخ، وفصّله جُبّة بمقاس لا تتّسع لسواه. تَجَلّببها وصار مند ذلك الحين، يُبدّون كل ما يقع تحت يده باسم الدِين. لقد تمكن هذا البدوي بفعّله هذا. من بدّونة الدِين في كيانه المغلق. ومن خلال جلّبابه هذا. سعى نحو تعميم بدّونته المسّتترة وراء جلبابه وتصديرها الى كل امتدادات الجغرافية القريبة والبعيدة من محيطه.
ان تُبدّون الدين، يعّنى ان تجرّه الى وعائك. الى حيت الصحراء الى حيت التصحّر، أي الى حيت (من تبدّا فقد كفر) كفر بالمدنيّة والعمران والتحضر وبالذهاب بالحياة نحو الامام. ولكن لا يجب ان يغيب عن البال، بان هذا الكيان البدائي المغلق، ليس جامد لا يتأثر بمُخّرجات الحياة العلمية والفكرية. بل يتفاعل معها طرّديا، ومحّصلة ذلك انتقاله طورا متقدم في اطوار الحياة نحو الاستقرار والتحضر. فقد حدث ذات زمن مشّهود. عندما جاء من عمل بجدْ. على فك انغلاق هذا الكيان الاجتماعي وانعزاله من كنف جاهليته، ودفع به الى فضاءات اجتماعية رَحِبة بوسع الكون. وحفّزه واسّتحثه للتفاعل معها، فصار له وبفعل ذلك وجه اخر وبمخّرجات اخرْ اثّرى ولقّح من خلالها الحياة برموز على شاكلة ابن الهيتم والخوارزمي وابن النفيس وغيرهم. بخلاف ما كان عليه في جاهليته المغلقة، التي خلّدة في ديوانها البسوس وداحس والغبراء وغيرها. واحّتفه برموز كالزير وامرؤ القيس والفلحاء والشنفرة وتأبط شر..
كنت احاول ان قول. ان كل مسّعى نحو وقف التطور الطبيعي لهذا الكيان البدائي المغلق. او تحّفيزه واستدعائه الى الحاضر، بخلق البيئة المناسبة لا نعاشه وبعثه في الوجود، في وجهه وهيئته البدائية المغلقة. هو عمل لا يخدم ايجابا هذا الكيان الاجتماعي المغلق، ولا الجغرافيات التي يرّتحل عليها متنقلا وراء الكلأ والماء في صوره الجديدة. ولكنّه وبدون شك يخّدم ويصبْ في مصلحة، أولئك الذين جاءوا مع نهايات الحرب العالمية الاولى مسّتغلين سذاجة بداوته الفطرية. فامتطوا صهوة جواده، واعّتلوا راحِلة بعيره. ومن فوقهما وبه. تمكنوا من دحر جيوش الترك الى خارج جغرافيته. ومن ثم وضعوا يدهم عليها، بعدما خرّطُوها وفق مشيئتهم وبما يخدم مصالحهم. ومع ثمانيات القرن الفائت، كرّوا ثانيتا. مُسّتغلين هذه المرة بدّونتّه المسّتترة بمسّحة دينية. وذهبوا به الى افغانستان ليشاركهم في دحر السُفيّت بعيدا عما يعتبروه بوابة جغرافيتهم الشرقية. وهاهم اليوم يسّعون به وبأمواله حتينا صوّب بدّوَنَة الشام والعراق ان استطاعوا، بخلق البيئة المناسبة لانبعاث منادرة وغساسنة العصر الحديث، ولكن هذه المرة تحت المضلة الأنجلوسكسونية، وبعيدا عن عباءة اكاسرة واباطرة ذلك الزمان.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً