ترددت مؤخرا بقبول الدعوة للمشاركة في مؤتمر دولي يقام في طرابلس الغرب (هكذا نسميها في الشام للتمييز عن طرابلس الشام) مع عدد من الزملاء القادمين من دول الاتحاد الأوربي وبريطانيا. لكن موضوعه “الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون غير النظاميين في دول العبور” وهو متصل بنشاطي العام، فلا مناص من المشاركة. لم تطمئني كثيرا تأكيدات زميل من أصل ليبي أمام تحذيرات العديد من الزملاء والأصدقاء مخاوفي من السفر إلى ليبيا، واحتفوا بي كما لو كانوا يودعوني لآخر مرة.. سمعت روايات من قبيل أن الوضع في ليبيا كلها كارثي وخاصة في طرابلس تجد الجثث على الأرصفة وتحت ركام الأبنية ومجرد الانتقال من شارع لآخر يتطلب دفع أتاوى ومحفوف بالمخاطر. وما يعزز هذه المخاوف لدى المغتربين معرفتنا الراسخة في الشرق العربي تجنب المرور من الشارع الذي يقع فيه مبنى مؤسسة حكومية أو مخفر شرطة، بينما في اوروبا عندما تشعر بقلق لأي سبب كان تلجأ إلى أقرب موقع أمني.
أعيش وأعمل في أوروبا منذ عقود، وبحكم عملي كإعلامي ثم موظف في مؤسسات اللجوء الدولية كان لي احتكاك مباشر وأحيانا تصادم مع الأجهزة الأمنية في هذا البلد أو ذاك. لكن لم أفكر يوما أن يتطور الخلاف لأذى جسدي أو اعتداء مباشر من قبل رجل الأمن في الدول التي أقمت أو عملت فيها سواء في أوربا أو أمريكا.
لا شك نحن في الغرب نعيش تحت تأثير آلة الإعلام المباشرة، والتي تشكلت لدينا الكثير من التصورات السلبية عن البلدان العربية وأغلبها محق، حيث لا يتورع موظف المطار في سوريا مثلا من طلب الرشوة من القادم وإلا قد يلفق له تهمة ازدراء القانون ما يبرر قمعه واحتجازه وصولا للاختطاف وطلب الفدية والرقيق الأبيض وبيع الأعضاء البشرية الخ. وبذهني مختلف الصور والاحتمالات لما قد نتعرض له في نشاطاتنا القادمة في العديد من الدول الشرق أوسطية والأفريقية.
هبطت الطائرة في طرابلس وكنا مستعدين لكل لما لا تحمد عقباه، لكن لم نتعرض لاستجواب وبدد رجال الأمن الليبيون أوهامنا، بل اقتصر التشديد في المطار على التحقق من هدف الزيارة ومدتها ومكان الإقامة والحرص على حياتنا كضيوف، سيما وأن البلد تمر بظرف حرج لما تعانيه في بعض المناطق من انفلات أمني.
خرجنا من المطار ثم وصلنا الفندق بسلام، لكن هذا لم يغير في الصور النمطية المتراكمة في أذهان أغلب الأوروبيين والمغتربين مما خلفه النظام السابق، كالصحراء والخيمة والبعير وحليب النوق.. مهما يكن السبب لم اسمع أن في ليبيا آثارا رومانية، بل كنوز أثرية تصلح لأن تكون قبلة سياحية عالمية، مثل لبدة ومسرح المصارعة الروماني ومدينة طرابلس القديمة وغيرها كثير.
بسبب قصر المدة التي قضيناها في طرابلس لم يتسن لنا التجوال في المدينة ولا زيارة الأسواق والأحياء الشعبية. وكنت أنوي تصوير أماكن المعارك من بيوت مهدمة وجسور محطمة وآثار القذائف الصاروخية على بقايا الجدران كما في حمص أو حماة السوريتين مثلا، كان لدينا في اليوم الأخير بضع ساعات قبل الصعود إلى الطائرة والعودة، وهي فرصتي الأخيرة قبل الاستعداد للسفر.. كان يوم الجمعة، عطلة نهاية الأسبوع كما هي الحال عندنا في أوربا يومي السبت والأحد حيث المدينة شبه مقفلة.
اتفقت وزميلين أوربيين من أصول عربية أن نتناول الغداء في مطعم شعبي في طرابلس قبل أن نغادر، فكانت فرصة التنقل بالسيارة على معظم أرجاء مدينة طرابلس قبل أن نجد المطعم المناسب، وهكذا تمكنت من تصوير بعض معالم المدينة التي لم يسعفني الوقت لفعله في الأيام السابقة، وأبرزها قصر ملك ليبيا الراحل إدريس السنوسي في وسط العاصمة.
أثناء هذه الجولة الخاطفة وجدت أن طرابلس مدينة باد عليها ترف وثراء وفيها نهضة معمارية تضاهي الكثير من العواصم الأوربية. واضح أن نزاع الليبيين على السياسة لم يوصلهم لقتال الشوارع داخل المدينة، ولم يحرقوا البشر الشجر والحجر، ولم نشاهد ركام أبنية وحطام البنية التحتية من جسور وطرقات، حتى المدارس والمشافي والمساجد تم تدميرها في حلب السورية، المدينة التي ولدت فيها.
لم يسبق لي يوما كإعلامي أو حقوقي أن تناولت مؤسسة أمنية أو شرطية في العالم العربي بغير النقد والفضح لما ترتكبه هذه المؤسسات من انتهاكات ضد المدنيين وخاصة فيما يتعلق بأصحاب الرأي والصحفيين ومؤسسات المجتمع المدني.
لابد من التنويه وأنا أكتب الآن عن طرابلس ألا يُفهم من سردي أني أصف سويسرا، بل بلد خرج للتو من حرب زعزعت استقراره، ومن خلال هذه الإطلالة الوجيزة نحسب أن ليبيا تسير نحو الاستشفاء بحق وعودة الإعمار قياسا على نظيراتها في الشام واليمن والعراق التي مازال أقصى طموح المواطن هناك أن يبيع كل ما يملك ويدفعه لتجار البشر مقابل تهريب عائلته عبر البر والبحر لينجوا من القتل.
أثناء إقامتنا في طرابلس تناوب على مساعدتنا في التنقل من الفندق إلى المؤسسات التي تقام فيها الفعاليات عدة شباب أذكر منهم عادل وأحمد وماهر.. كانوا في غاية التهذيب وحسن التعامل فقادني فضولي الصحفي للتعرف على مؤسسة “جهاز دعم الاستقرار” التي يتبعون إليها لأتعرف أكثر على قوامها ومهامها والدور الذي تؤديه في دعم الاستقرار واستتباب الأمن في البلد وما يتصل بذلك. ما سبق شجعني وزملائي في الليلة قبل الأخيرة من إقامتنا في طرابلس أن نخرج للتجول في المدينة القديمة بمفردنا رفقة زميلنا د. رمضان بن زير وهو مغترب ليبي كنه يعرف الطرقات لئلا نضل طريق العودة إلى الفندق، واستطلعنا بعض المعالم، عبرنا سوق المدينة القديمة مرورا بساحة الشهداء الشهيرة وسيرا مررنا بالكورنيش ثم العودة بعد منتصف الليل إلى فندق “كورنثيا”.
في الليلة التالية كررنا مع الزميلة الكردية “نجاح” رحلة التجول المسائي، مررنا بالسوق القديمة ومجددا إلى ساحة الشهداء ليلا لكي نلتقط صورا تذكارية، وكانت الشوارع تنبض بالحياة، والحق يقال خلال تنقلنا في المدينة ليلا بمفردنا لم يعترضنا أحد. وهذا ما سيكون مادة لموضوعي القادم.
وللحديث بقية في مواضيع تالية سأنشرها تباعا مرفقة بالصور عن مشاهداتي في أول زيارة لبلد عربي بعد خصومة وانقطاع دام أربعة عقود ونيف.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً