هل تعتقد بأنك حـر وتفـكر فيما تشاء ووقتما تشاء، وأنك وحدك من يقــرر ما ينبغـي عليك القيام به، وواثق من “استقلاليتك” في تشكيل رأيك حول القضايا والأزمات المحلية والدولية؟
قد يكون الجواب “نعم” في حالة واحدة وهو لإنكار حالة “التلاعب بعقولنا وتوجهاتنا” من قبل وسائل الإعلام، وعدم الاعتراف بكوننا ضحايا لخداع وأكاذيب الميديا، وخصوصاً مع تطور تقنية صناعة الرأي العام التي جعلت من الجمهور وبمختلف أطيافه ومستوياته العلمية كالدمى في مسرح العرائس، يحركها صناع الرأي العام كيفما شاءوا ومتى شاءوا وأصبحت وسائل الإعلام هي من تقرر أولوياته واهتماماته حسب أجندتها.
في كتابه “الصحافة والسياسة الخارجية” عام 1963 يشير الكاتب (برنارد كوهين Bernard Cohen) إلى أن “وسائل الإعلام قد لا تنجح دائما في إبلاغ الجماهير كيف يفكرون، ولكنها تنجح دائما في إبلاغهم بما يجب أن يفكروا فيه”، ورأي كوهين كان تأكيداً لرأي الكاتب والمفكر الأمريكي (والتر ليبمان Walter Lippmann) في كتابه الرأي العام عام 1922، الذي أشار فيه إلى أن “وسائل الإعلام قادرة على التأثير في الجمهور من خلال تركيزها على قضايا معينة دون غيرها، لطرحها على الجمهور ليتخذوا منها مواقف تتأثر بحسب طرح الإعلام لتلك القضايا”.
وتعد آراء كل من كوهين وليبمان الأساس النظري لما عُرِف بنظرية “ترتيب الأولويات في الإعلام”، والتي تؤكد بأن “وسائل الإعلام هي التي توجه الاهتمام نحو قضايا بعينها، فهي التي تطرح الموضوعات وتقترح ما الذي ينبغي أن يفكر فيه الأفراد. وما الذي ينبغي أن يعرفوه وما الذي ينبغي أن يشعروا به”. وأنها بتركيزها على قضايا دون غيرها تفرض ترتيبا معينا للقضايا عند الجمهور وتحدد أهميتها، وتتعمد في المقابل تجاهل وتشتيت انتباه الرأي العام عن غيرها من القضايا التي ربما تكون أكثر أهمية وخطورة من تلك التي تقوم بانتقائها وتسليط الضوء عليها.
ومن أهم تعريفات نظرية ترتيب الأولويات في الإعلام (Agenda-Setting Theory) أنها “العملية التي تبرز فيها وسائل الإعلام قضـايا معينة على أنها قضايا مهمة وتستحق ردود الحكومة والجـمهور من خلال إثارة تنبيههم لتلك القضايا بحيث تصبح ذات أولوية ضمن أجندتهم”. أي أن المواضيع والقضايا التي يتم التركيز عليها بشدة من خلال التقارير الإخبارية والحملات الإعلامية المكثفة هي التي تثير اهتمام الجمهور والحكومات وتجعلها محور تفكيرهم وقلقهم وبالتالي تشكل أهمية أكبر من غيرها من القضايا المسكوت عنها أو التي يتم تجاهلها من قبل وسائل الإعلام.
وما سبق يقودنا لمراجعة موقف إعلامنا الليبي بمختلف انتماءاته وتوجهاته وأيضاً الإعلام العالمي والعربي في تعاطيه مع الأزمة الليبية، والذي انقلب إلى النقيض تماماً لما كان عليه من اهتمام وحرص هستيري على الحريات وحماية المدنيين، إبان فترة الحرب ضد النظام السابق خلال عام 2011.
فمنذ خمس سنوات والتي تفاقمت خلالها حالة الفوضى والاقتتال بين الليبيين، واستشرت ظاهرة الفساد ونهب واستنزاف البلاد من قبل الحكومات المتعاقبة، وتنامي الإرهاب واحتلال التنظيمات الإرهابية الأجنبية لمدن ليبية بأسرها، والتنكيل بأهلها وارتكاب المذابح الجماعية وكذلك تفاقم جرائم الخطف، والاعتقال والسرقة من قبل ما يسمى بمليشيات “الثوار” المحليين وسيطرة المليشيات القبلية على حقول وموانئ النفط وإيقاف تصديره بالقوة، مما تسبب بالانهيار الاقتصادي للدولة وجعلها على حافة الفقر والإفلاس، وكذلك أزمة الانقسام ووجود حكومتين وبرلمانين في البلاد، كل هذه القضايا والأزمات رغم خطورتها واهميتها إلا أنها أصبحت من القضايا الهامشية والمسكوت عنها، في مختلف وسائل الإعلام المحلية والدولية ولا يتم التعرض لها إلا بشكل عرضي في ذيل نشرات الأخبار المحلية والدولية.
بينما في المقابل وعلى سبيل المثال تركز وسائل الإعلام كل قوتها في ملاحقة فضائح الشخصيات العامة، مثل فضيحة “نسخ ولصق” مشروع إعادة إعمار إحدى القرى اليمنية من قبل أحد نواب رئيس الحكومة الليبية المقترحة، بينما تتعمّد تجاهل حدث أهم تزامن معه، وهو كشف فساد بعض قادة عملية الكرامة وصفقات السلاح المشبوهة، وارتكاب جرائم السرقة والنهب والخطف والإخفاء القسري، وكذلك صفقات بيع السلاح للإرهابيين من قبل عناصر تابعة لعملية الكرامة حسب تصريحات الناطق الرسمي لعملية الكرامة محمد حجازي، والتي أكدها العـقـيد منصور المزيني في لقائه الخاص على فضائية “وطن الكرامة”!
وكذلك غض النظر عن هجوم تنظيم الدولة الإرهابي على حقول النفط وإحراق خزاناتها مقابل انهماك وسائل الإعلام في جعل أزمة المحاصصة القبلية في تشكيلة الحكومة قضية رأي عام، بينما الشعب في الحقيقة لا يعنيه سواء كانت تشكيلة الحكومة من 10 وزراء أو من مئة وزير، ولا علاقة للشعب الليبي بأوهام التمثيل الجغرافي التي اختلقها الإعلام والسياسيون بقدر ما يعنيهم الخلاص من احتلال المليشيات الإرهابية لمدنهم وتنكيلها بهم وتهجيرهم من ديارهم وفقدان أبسط مقومات الحياة في بلادهم.
وفي مارس 2014 وعند صدور قرار رقم 42 لتحرير الموانئ النفطية من سيطرة المليشيات وتحرك قوات تابعة للمؤتمر الوطني استطاعت الآلة الإعلامية تحشيد أهالي المنطقة الشرقية من عسكريين ومدنيين متطوعين وعودة حتى المقيمين بالخارج للدفاع عن” إقليم برقة” لصد ما وصف بغزو المنطقة الغربية ووصلت قوات ما يعرف بإقليم برقة إلى سرت والسيطرة عليها وطرد كتائب المؤتمر. بينما الآن لم تلفت نفس الآلة الإعلامية لغزوات تنظيم داعش الإرهابي الذي يغزو الحقول ويحرق الموانئ ويعود إلى قلاعه الحصينة بسرت ودون أية مقاومة تذكر.
وكذلك في يناير من نفس العام وبسبب تحرك بعض من أنصار القذافي في سبها ورفعهم للراية الخضراء أطلقت وسائل الإعلام حملة تحريض وتحشيد شرسة ضد أنصار القذافي في سبها حتى تحركت أرتال مدججة بالسلاح والعتاد وشقت مئات الكيلومترات في قلب الصحراء ليتم القضاء على المتمردين خلال أيام. وغيرها من الأمثلة في الواقع والتي تشير إلى قدرة الآلة الإعلامية على التحشيد وتحريض الجمهور متى شاءت وكيفما شاءت وضد من تشاء. لذلك، ولو أراد الإعلام الليبي القضاء على عصابة داعش في سرت لاستطاع توحيد وتحشيد الليبيين ضدهم والقضاء عليهم خلال أيام معدودة.
ولكن، يبدو أن وسائل الاعلام الليبية وأسوة بالبرلمان والمؤتمر ومليشياتهم يفضلون إطالة عمر الفوضى والتشرذم والانقسام ما بين إعلام مؤيد لبرلمان الشرق وعملية الكرامة وإعلام تابع للمؤتمر الوطني ومليشياته وجماعته المقاتلة. وأما الأقلية ممن يحــاولـون التأثـير بصناعة الرأي العام فليس أمامهم إلا السـباحة مع التيار الذي تقــرره لهم وسائل الإعلام، أو الانضمام إلى حشود الأغلبية الصامتة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً