إنها ليلة الفُرقان والغفران والتوبة والرحمة والبركة والعِتق من النار، وليلة سلام للمؤمنين من كل خوف. إنها ليلة هي أعظم الليالي قدراً ومنزلة عند الخالق جل في علاه. ليلة القدر التي أًنزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى مكان في سماء الأرض يسمى بيت العزة، ثم من بيت العزة صار ينزل به جبريل على سيدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه متفرقاً بالقياس للحوادث والمسببات، وأول ما نزل منه كان في غد ليلة القدر خمس آيات من سورة العلق. ولا تحصى فضائل ليلة القدر بدءاً بنزول القرآن ووصولاً لما جاء فضل قيام تلك الليلة وما فيها من بركة ورحمة ومغفرة وأجر عظيم، وقد وزن ربنا تبارك وتعالى تلك الليلة بألف شهر في ثوابها وفضلها ومكانتها وعظيم وقعها في حياة المؤمنين.
وإن من فضائل شهر رمضان وجوائزه العظام: تضمنه لليلة القدر، وهي ليلة عظيمة القدر، ضاعف الله فيها أجر العمل الصالح لهذه الأمة أضعاف كثيرة. فقد تنزل القرآن في هذه الليلة، بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: 1، 2]. وقال الله جل وعلا: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3].
- شرح سورة القَدر:
قوله تعالى: “إنا أنزلناه” أيّ القرآن، لأن القرآن الكريم أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفصلًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. واختصت ليلة القدر بهذا الحدث التاريخي العظيم في أمتنا، فهي ليلة مباركة وعظيمة لكثرة خيرها وبركتها وفضلها. إذ وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها يُفّرَقُ فيها كل أمر حكيم، أيّ يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكَتبة ما هو كائن من أمر الله تعالى في تلك السَنة من الأرزاق والآجال، والخير والشر وغير ذلك من أوامر الله المحكمة المتقنة، التي ليس فيها لا نقص ولا خلل ولا باطل. وعن” “في ليلة القدر” قال ابن الجوزي: وفي تسميتها بليلة القدر خمسة أقوال:
أحدها: أنها ليلة عظيمة. يقال: لفلان قدر. قال الزهري؟ ويشهد له: “وما قدروا الله حق قدره”. (سورة الزمر: 67).
والثاني: أنه الضيق. أي هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون. قال الخليل بن أحمد، ويشهد له: “ومن قدر عليه رزقه”. (الطلاق: 7).
والثالث: أن القدر الحكم، كأن الأشياء تقدر فيها، قال ابن قتيبة.
والرابع: أن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر. قال أبو بكر الوراق.
والخامس: لأن نزل فيها كتاب ذو قدر، وينزل فيها رحمة ذات قدر، وملائكة ذوو قدر، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله. ن هذه الليبلة
وقال ابن عثيمين رحمه الله: وصفها الله سبحانه بأنها مباركة؛ لكثرة خيرها وبركتها وفضلها.
ومن بركتها أن القرآن أنزل فيها، وهذه الليلة هي في شهر رمضان المبارك ليست في غيره من الأشهر، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185].
ثم قال تعالى لشان ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها: “وما أدراك ما ليلة القدر”؛ فهذا على سبيل التعظيم لها، والتشويق إلى خبرها.
ثم قال: “ليلة القدر خير من ألف شهر”؛ فقيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر من هذا الزمان، وهي أفضل من عبادة كل تلك المدة. وعند قوله تعالى: “تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”؛ هذا يدل على كثرة الرحمة والبركة فيها، فإن الملائكة ينزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيمًا له. والمقصود بالروح هنا جبريل عليه السلام.
“سلام هي حتى مطلع الفجر”؛ أي السلام في الآية أنه لا يحدث فيها داء، ولا يرسل فيها شيطان، وهي ليلة كل ما فيها أمن وبركة وعافية، فهي ليلة سلام للمؤمنين من كل مخوف، ولكثرة من يعتق فيها من النار ويسلم من عذاباتها. وفي قوله: “حتى مطلع الفجر”؛ أي أن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر لانتهاء عمل الليل به.
فإذًا: ليلة القدر نقطة بداية في حياة المسلم لا نقطة عابرة، ويجب أن تكون نقطة تحول في حياته لا أن تكون مجرد حدث طقسي معين، ففضل هذه الليلة يعدل الكثير عند الباري تبارك وتعالى.
- فضائل ليلة القَدر؟
سميت الليلة بهذا الاسم؛ لأن الله تعالى يُقدّر فيها الأرزاق والآجال، وحوادث العالم كلها، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والعزيز والذليل، وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة، ثم يدفع ذلك إلى الملائكة لتتمثله، كما قال تعالى: “فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ”. وهو التقدير السنوي، والتقدير الخاص، أما التقدير العام فهو متقدم على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحت بقوله الأحاديث.
وبعد قراءة سورة القدر وشروحها وقيمة تلك الليلة في ميزان الله تبارك وتعالى، نخلص لإيراد الفضائل التي اختصت بها تلك الليلة العظيمة، وهي:
- تنزل القرآن فيها، وهي المعجزة الخالدة للنبي صلى الله عليه وسلم.
- ليلة كثيرة البركة والرحمة.
- هذه الليلة تقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث الليل والنهار.
- إن العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر.
- الملائكة تتنزل فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة والعتق من النار.
- أنها سلام من الآفات والعقوبات.
- من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم” من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” متفق عليه.
3.تحديد ليلة القَدر:
اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر، وذلك على أكثر من أربعين قولاً ورأيًا، ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهذه الأقوال بعضها مرجوح، وبعضها شاذ، وبعضها باطل. وقد أكد جمهور العلماء أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، واختلفوا أي ليالي العشر أرجح على أقوال كثيرة منها، فقول الصحابة والتابعين في ليلة ثلاث وعشرون، وقول الشافعية بأنها في ليلة إحدى وعشرون وغيرهم عدد ليال أخرى في العشر الأخير.
لكن أسلم القول هو أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأنها تنتقل في ليالي العشر، فمن قام ليالي العشر كلها وأحياها وبالعبادة أصاب ليلة القدر يقينًا. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية “ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون في الوتر منها”. وهنا ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح: “أرجح الأقوال إنها في الوتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل”. ونظرًا لاختلاف المطالع والبلدان في تحديد بداية الصوم، فإنها تطلب في الأشفاع من العشر الأواخر كما تطلب في الأوتار، لأن الليلة قد تكون وترًا في بلد، وتكون شفعًا في بلد آخر. وكذلك الوتر له اعتباران: اعتبار بما مضى، واعتبار بما بقي، فإذا كان الشهر تامًا فالأوتار باعتبار ما بقي هي ليالي الشفع. وعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين، يكون ذلك ليال الأشفاع، وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح… وإذا كان الشهر تسعًا وعشرين كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي. وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه.
- بل هو خير لكم
عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”. رواه البخاري.
وقال ابن كثير: فتلاحى فلان وفلان فرفعت” فيه استئناس لما يقال: إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع كما جاء في الحدي: “إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه” رواه أحمد.
وقول ابن كثير: “وعسى أن يكون خيرًا لكم، يعني عدم تعيينها لكم، فإنها إذا كانت مبهمة، اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها، فكان أكثر للعبادة، بخلاف ما إذا علموا عينها، فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط، وإنها اقتضت الحكمة إيهامها، لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها، ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر. وقال ابن الجوزي: “والحكمة من إخفائها: أن يتحقق الاجتهاد الطالب، كما أخفيت ساعة الليل، وساعة الجمعة.
- كيفية إحياء ليلة القَدر
قال ابن رجب: وأما العمل في ليلة القدر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” متفق عليه. وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة. وقد أمر عائشة بالدعاء فيها. وأما العمل والعبادة في ليلة القدر، فقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة، لا يمر فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها والله أعلم. وقال الشعبي في ليلة القدر ليليها كنهارها. وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر” متفق عليه. وشد المئزر كناية عن اعتزاله النساء واجتهاده في العبادة.
وقال ابن الجوزي: “وقد كان السلف يتأهبون لها، فكان لتميم الداري حُلة بألف درهم يلبسها في الليلة التي يرجى أنها ليلة القدر. وكان ثابت وحميد يغتسلان ويتطيبان ويلبسان أحسن ثيابهما، ويطبيان مساجدها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر. وقد قال النبي الكريم: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم”. رواه ابن ماجه.
- دعاء ليلة القَدر:
يقول ابن كثير: والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات، وفي شهر رمضان أكثر، وفي العشر الأخير منه، ثم في أوتاره أكثر، والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء: “اللهم أنك عفو تحب العفو فاعف عني”. وسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا، ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر. وهذا الدعاء يجعلنا نقف عدة وقفات ونستخلص منها العِبر وهي:
- الحكمة في تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو؛ ذلك لأَنَّ “العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه، ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته، فهو يعلم أَنَّ ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه، ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار: “أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي”، فلا يرى نفسه إلا مقصرًا مذنبًا، ولا يرى ربه إلا محسنًا”.
- الدعاء بهذا اللفظ يتضمن أدبًا من آداب الدعاء المهمة: وهو الثناء على الله تعالى بما هو أهله، وبما يناسب مطلوب الداعي؛ أي تمجيد وثناء العبد على ربه، والآخر: سؤال من العبد لربه.
- استشعار حسن الظن بالله تبارك وتعالى: فيعمر قلب المؤمن بالرجاء.
- حاجة العبد وفقره إلى عفو الله تعالى.
- يُسر الإسلام: وتسري دلائل هذا التيسير وأماراته في جميع مناحي التشريع، ومنها أدعية الوحيين، حتى قالت عائشة: “كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَستحِبُّ الجَوامِعَ مِن الدعاء، ويَدَعُ ما سِوى ذلك”.
في نهاية حديثنا وتبحرنا في فضائل وعظيم قدر ليلة القدر نختم بأبيات شعرية تتناسب وسياق قولنا:
يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أسلفا
حَمَل الذنوب على الذنوب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك من عقابك ملحفا
رب اعف عنه وعافه فلأنت أولى من عفا.
مراجع المقال:
- القرآن الكريم، سورة القدر.
- ابن تيمية: مجموع الفتاوى 25/286.
- أحمد عبد المجيد مكي، وقفات تربوية مع دعاء ليلية القدر، موقع قصة الإسلام، 15 يوليو/ تموز 2015، رابط: https://bit.ly/2jYgTf6
- تفسير ابن كثير.
- جماز الجماز، ليلة القدر: فضائل وأحكام، موقع قصة الإسلام، 13 سبتمبر/ أيلول 2009، رابط: https://bit.ly/2rJrHBO
- عبد اللطيف البريجاوي، تدبرات قرآنية في سورة القدر، قصة الإسلام، 13 سبتمبر/ أيلول 2009، رابط: https://bit.ly/2rHWEpp
- مدار الوطن للنشر/ القسم العلمي، ليلة القدر خير من ألف شهر، الرياض، السعودية، ط1 2006.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً