ذات مرة رأيت في أحد المجلات المصرية التي لم اعد اذكرها رسم ساخر فيه حوار بين زميليين، سال احدهما الآخر:” ما معنى ليبرالي”، فأجابه زميله قائلا :”حمار نصفه ليبي ونصفه أسترالي” . لقد ضحكت حينها من تركيبة اللفظ الا اني لم افهم المغزي منه ولا اعتقد اني استطيع استرجاع مغزاه بعد هذه المدة، ولعلي لم اكن حينها متحمس لفهم المعنى فلم اطرح السؤال حوله. كان ذلك مند زمن مضي ليس بالقصير وغاب فيه هذا الرسم الساخر كما غابت فيه احداث أكثر أهمية وجسامة.
منذ أيام مضت قرأت على صفحات التواصل الاجتماعي، ملصق على سطح السيد المناضل جمال الحاجي قال فيه، وانا انقل عنه: بانه مسلم بحمد الله مستقل “ليبرلي”، ربما لينفي عن نفسه تهمة الانتماء للإخوان بسبب إنحيازه لفجر ليبيا ، وكانت مقدمته هذه مدخل للتهجم على السيد محمود جبريل. وقد إستخدم عبارت كثيرة في وصفه، وربما يكون له عذره وله دلائل على ما ساقه في نعث هذا الرجل.
احترم السيد جمال الحاجي، وقد كتبت له مره عن تقديري له ولدوره النضالي أيام كان الكثير منا يكتب بأسماء مستعارة وهم خارج الوطن خوفا من بطش النظام، لكني لا أستطيع أن أتفق مع أو أفهم من يضن أنه يملك كل الحقيقة ومن يعتقد انه وما يمثله هو الخير كله وغيره الذين لا يرو رأيه اشرارا وشياطين، مذهبي في الحياة ان لكل الحق في ان يكون كما اراد، ولكل الحق ان يحقق مآربه بالشكل الذي يريد في ظل عقد اجتماعي يتفق عليه الجميع، وليس من صنعة طيف واحد او شخص واحد. نحن لم نخلق لنحاكم الناس، نبريء من نبريء وندين من ندين، هذا الدور ليس دور المناضلين ولا الحريصين على تحقيق العدل وبناء الاوطان.
لم تكن الاوطان في يوم من الايام للخيريين فقط، هي أوطان للخيرين وللاشرار، للفاضل الشريف وللندل اللئيم، للجبناء وللشجعان، للمتسلقين ولأصحاب المبادي، فالاوطان ميراث يتقاسم مكاسبه من يدود عنه ويحمله في قلبه، ومن يبتز خيراته دون ان يحفل به سواء بسواء.
لا يوجد بين البشر ملائكة وشياطين، يقول عز وجل “فألهمها فجورها وتقواها”، فالنفس البشرية مجبولة على الخير كما هي مجبولة على الشر بحكم الفطرة والجبلة، ولا يستطيع احد ان يدعي بانه الخير الوحيد، لذلك لا يستطيع احد ان يدعي انه الحريص الاوحد على فكرة معينة او قيمة معينة أو فضيلة معينة.
لقد كثر الحديث عن محمود جبريل، واختلف الناس فيه …. وانا هنا لست للدفاع عنه ولا للدعاية له، فانا لا ازكي انسانا مشى على وجه الارض، كما واني لا ادين انسانا ايضا، الادانة لها مؤسساتها او هكذا يجب…. لكني سألت شخصا داق سجون القذافي واضطهاده كما داقها السيد جمال الحاجي، واردت ان اتأكد منه عن الاختلاف الحاد في وصف محمود جبريل، فوجدت شهادته فيه تختلف كليا عن ما يشاع عليه من خصومه السياسين.
لا اقصد في مقالي هذا السيد محمود جبريل ولا السيد جمال الحاجي كأشخاص، وإنما اردت ان أنبه إلى إمرٍ ضننت ان الثورة قامت من اجله، وهو عملية الاقصاء والتخوين …. وربما دون دليل، فاحببت ان انبه ان قيام الدولة وبناء مؤسساتها قادر على اقصاء من يستحق الاقصاء، وأضن ان اكبر الاخطاء التي سمحت بها الثورة هو تأسيس تنسيقية العزل السياسي، فقد حرمت هذه الهيئة الدولة الوليدة من امكانيات الكثير من الخيريين، وسمحت للنكرات إعتلاء المشهد الليبي، وقد ضننت ان الحكمة ستدفع بالمخلصين الى مساندة هيئة النزاهة وقرارت المحكمة، فقد كانتا من المؤسسات التي كان يمكن ان يكونا لهما دورا عظيم في حماية الثورة ومكتساباتها، الا ان هاتين المؤسستين، بسبب عدم امتلاكهما القوة التي تؤهلهما لتمرير قرارتهما فقدتا قدرتهما على الفعل، وتمكنت تنسيقية العزل السياسي من تمرير ما تريد بفضل الميليشيات المسلحة التي تساندها وتأتمر بأمرها.
لقد كان تهجم السيد جمال على السيد جبريل في ملصقه هذا بسبب دعوة جبريل ومساندته الحرب عن الارهاب، والتي يعتقد السيد الحاجي كما يظهر من على حائطه بانها مسرحية للنيل من “شعوب الارض والشعب الليبي”. وانا عن نفسي رغم اني لا أومن بمحاربة الارهاب بالاسلوب الذي سلكه حفتر، وقد كتبت في ذلك مقال نشرته على هذا الموقع تحت عنوان – حفتر المنقد – بينت فيه وجهة نظري في محاربة الارهاب، إلا ان نكران الارهاب وتجدره الان في ليبيا يعتبر ابتعادا عن الحقيقة ومجافة لها، واني اذكر من ينفي وجود الارهاب ببعض العمليات الارهابية بعد الثورة، فقد تم أختطاف دبلومسيين مصريين من السفارة المصرية بطرابلس للضغط على الحكومة المصرية حتى تخلي سبيل السيد شعبان هدية رئيس غرفة ثوار ليبيا، وأختطف دبلوماسي اردني للضغط على الحكومة الاردنية حتى تفرج عن السيد محمد الدرسي الذي كان معتقلا في السجون الاردنية ويقضي عقوبة السجن مدى الحياة بعد ادانته بمحاولة تفجير مطار الملكة عليا وأتهم بالضلوع في عمليات ارهابية داخل الاردن. وقد تم حجز السيد رئيس الوزراء الليبي على زيدان من قبل مجموعة مسلحة قادها المرحوم عبد المنعم الصيد مدير مكافحة الجريمة، وأعلن عن إحتجازه أعلى رأس في الدولة من فوق منصة المؤتمر الوطني دون ان يلاحق قانونيا، ومن ضحايا الارهاب عبد السلام المسماري الذي ما انفك ينبه الناس إلى شر الارهاب. والقضية الخطرة هنا ليست الارهاب في ذاته، وانما في علو دور البندقية على دور الحكومة، ومساندة دور البندقية على حساب دور الحكومة، لذلك إذا استمر الحال على هذا المنوال فسنعيش إستمرارية الثورة بعد ان مللنا ثورة الشخص التي عشنا معها اربعة عقود عجاف. لقد كان شعار الاربعة عقود السابقة لثورة فبراير “الثورة مستمرة والخائن يطلع بره” لذلك تعطل بناء الدولة، والان نعيش ثورة مستمرة اخرى تمارسها تشكيلات مسلحة متعددة الاهذاف والتوجهات، مختلفة المشارب والغايات، كيدها فيما بينها عظيم، اتمر ترياقا لا يشفي من السم، تُوسِم من لا يتفق معها بالخيانة، فتعدد الخونة من كل المشارب، وجريمتهم انهم لايتفقون على رأي واحد.
سأل الكاتب ريتشارد ستينغل الرئيس الراحل نيلسون مانديلا عن متى أدرك ان السلام والتعايش والتسامح ضرورة ومتى تغيرت رؤيته للصراع بين البيض والسود. فأجاب مانديلا: “…لم تكن لحظة محددة .. وإنما هي افكار اختمرت ونضجت في رحم صراع طويل وقاسي وشاق .. لعل بدايتها هو قناعتي بان المستقبل يستحق تجاوز جزء من الماضى … ولعلها عندما أدركت أن البيض ليسوا شياطين رغم افعالهم الشيطانية .. وإنما هم بشر مثلنا .. وان قومي ليسوا ملائكة رغم تضحياتهم والظلم الذي وقع عليهم. لقد ادركت أننا جميعا بشر: رجال ونساء تملئوهم التناقضات، يتسمون بالاستقرار والزعزعة، والقوة والضعف، والصيت الحسن والسمعة السيئة.. فالسلام ممكن بين البشر ولكنه يستحيل بين الملائكة و الشياطين… ولم نكن نحن ولا هم سوى بشر ”
لقد نقلت هذا الحورا هنا عن السيد عطية الاوجلي الذي اكن له كل الاحترام والتقدير، واتعلم من ما يكتب وينقل، وكنت اتمنى ان يفكر ابناء الوطن الواحد بهذا الشكل. ان ما ورد عن نلسون منديل في جوابه على سؤال الكاتب ريتشار ستينغل لا يختلف عن المعنى الذي تضمنته الآية الكريمة “فالهمها فجورها وتقواها”، ولان منديلا فهم سنة الخليقة فقد إستطاع ان يبني وطنا للبيض الذين ليسوا بشياطين وإما بشر، وللسود الذين ليسوا بملائكة بل بشر ايضا.
إن المستقبل فعلا يستحق منا تجاوز الماضي، وعلينا ان نمد ايادينا الى كل الذين يؤمنون بأن الامس ولى فلا عودة له، واننا في واقع جديد يجب ان نتكافل لبنائه، نحن في امس الحاجة الى كسب الخصوم، فإذا بنا نفشل ونفقد الاصدقاء. علينا ان نجعل من دور المؤسسات اقوى من صوت الميم ط والاغراض العامة، وان نفكر بإن الثورة انتهت، وان لا معنى لوجود الثوار إن اردنا ان نسير قدما في طريق البناء.
اعود الى معنى مصطلح ليبرالي (أو ليب – ي أسترـ الي) الذي ورد في فاتحة هذ المقال، لاقول: لا يمكن ان تبني العقلية الليبية دولة كأستراليا، إن سارت على منوال التفكير الواحد والرأي الواحد والصواب الواحد، ان لم نتعلم بان الوطن للجميع، وان الادانة تحتاج الى دولة لاقرارها عن طريق محاكمها ومؤسساتها، فستضل ليبيا دولة غاب عنها القذافي لكنها تحتوي على نسخ عديدة منه، بعضها …. تحت ضل البنادق التي يحرك البيادق التي تحملها ….اصبح نافد فيها.
والله من وراء القصد.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً