“تحييد الجنوب عن القرار الوطني بغض النظر عن الأسباب سيدفع ثمنه الجميع شرقاً وغرباً..
فإذا طويت التاريخ ستطويك الجغرافيا .. وإذا لعبت بالجغرافيا سيلعب بك المستقبل”
في طرابلس في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة عشر عاما (23 نوفمبر 2011) أُزيح الستار عن حقبة سياسية مشوشة من أولها.. دشنت فبراير أول حكوماتها مستخدمة نفس المبنى بطريق السكة والكرسي الذي كان يجلس عليه آخر رئيس حكومة إبان النظام الجماهيري (البغدادي المحمودي).. وبرعاية الرئيس (الشكلي) حينها المستشار مصطفى عبدالجليل.. آخر وزير للعدل في ذات النظام والمنظومة.
الحقبة من البداية كانت متناقضة ومشحونة وعاطفية.. تحت قبة (المنتصر والمهزوم) مدفوعة بـ(شوفينية) عالية من الانتقام وحرق كل ما يمت لمرحلة النظام السابق تشكلت الحكومة وقسمت الوزارات الثلاث والعشرين بميزان المحاصصة والجهوية والمغالبة.. والمثقال هو ما مقدار ما تحمل من ضغينة للنظام الذي مضى.. ومصلحة مع النظام الذي أتى.
زعامات تلك الأيام استحضرت مبكرا وبسذاجة مكونات الدولة الليبية 1951 (برقة وطرابلس وفزان) والفيدرالية والعلم والنشيد (المبتور) منه الملك.. ولكنها وظفت بشكل (عبيط) نضالات محلية عسكرية وسياسية وجهود دولية حينها لتؤسس لنظام المحاصصة والكوتا والأقاليم التاريخية الثلاثة في تقاسم السلطة.
ضمن زواج مصلحة مؤقت (وهو ما أثبتته المواقف والوقائع لاحقا) تقاسم الشرق والغرب الليبي (غنيمة) الوزارات ودهاليز الأموال.. وفي وخزة تاريخية لأهل الجنوب (رُميت) لفزان وزارة وحيدة من الثلاث وعشرين حقيبة وزارية هي الشؤون الاجتماعية بقيادة سيدة.. وتم تطبيق الحظر (الوزاري) مبكرا على رجالات وتكنوقراط وجغرافية الجنوب.. وحتى الاجتهاد الذي حدث بعد ذلك بتولي السيد علي زيدان لرئاسة الحكومة سرعان ما تم الانقلاب عليه ووأده.. فالحكم والمناصب فصلت بقدر ما يغطي جسدك من لحاف فبراير وبقدر قربك من شاطئ المتوسط.. فالجنوب لا يماثل (المارون) في لبنان ليكون على سدة السلطة في ليبيا.
في سبها كانت هناك لافتة إعلانية ودعائية علقت لسنوات طوال خلال نظام الفاتح “سوف لن تكون فزان نسيا منسيا بعد اليوم”.. لكن للأسف سقطت اللافتة وبقيت سبها وفزان طي النسيان.. وبعد ستين سنة من تحول ليبيا لدولة مصدرة للنفط تكتنز الأموال والودائع يؤذن أخيراً بإنشاء أول جسر على الإطلاق لعبور السيارات (كوبري) بعاصمة الجنوب سبها.. ولا أدري هل سيكون الاحتفال بافتتاحية العام القادم مناسبة للابتهاج أم للأسف على ما ضاع.
ومن باب الحقيقة والإنصاف فإن خروج الجنوب عن المعادلة التنموية والحسابات السياسية وتوازنات السلطة ليس وليد مرحلة فبراير.. فخلال مرحلة (الخيمة) وبرغم كون عديد (أوتادها) قيادات من أودية فزان ظل الجنوب في الظل و(كمالة عدد) على قول أهل طرابلس.. لكن التقليل من أهمية الجنوب بعد صِدام 2011 اتخذ شكلاً فجا وواضحاً.. وأخذ في بعض المحطات السياسية صور هزيلة ومهينة (للكفاءات) الممثلة للجنوب.. وترسخ بشكل ممنهج تصوير الجنوب كيان تابع وضعيف لا يملك من أمره شيئاً.. وتعاطت الحركات المجتمعية لقوى الجنوب بعفوية وبساطة تجاه ما يحاك للإقليم المنسي.
على مدى ثلاثة عشر عاما تشكلت في ليبيا ستة حكومات أهدرت مئات المليارات من الميزانيات العامة.. تبوأت ليبيا خلالها مراكز متقدمة على سلم الفساد الدولي (سادس أفسد دولة في العالم لتصنيف منظمة الشفافية الدولية لعام 2023).. حتى وصلنا لمرحلة خطيرة من انقسام سياسي وإداري وحتى جغرافي تعمق بعد تكليف البرلمان (السيد فتحي باشاغا) بتشكيل الحكومة الليبية في الشرق في مارس 2022.
وعلى الرغم من أن وصول رئيس الحكومة الحالي (السيد عبدالحميد الدبيبة) إلى السلطة بموجب اتفاق جنيف 2021 والمبني على توافقات لجنة الـ75 كان ينظر إليه بداية مرحلة استقرار ونمو للأقاليم الثلاثة.. لكنه تحول سريعاً إلى إعلان الطلاق (بدون عِدة) بين القوى في الشرق والغرب وخروج بنغازي (العصية) عن بيت الطاعة في العاصمة طرابلس وفتحها المعابر مع مؤسسة النفط وسراديب المصرف المركزي.
المشهد السياسي والأمني والتنموي وحتى الجغرافي في ليبيا الآن كامل التفكك ينتظر لحظة الانهيار.. فخطوط التماس (الكيلو 50) غرب سرت و(الكيلو 40) شمال الشويرف تشهد عليه لجنة 5+5.. كما تشهد مؤسسة النفط والمصرف المركزي على نزيف الأموال والثروة.. فقد اكتملت الصورة (المتناقضة).. الإهدار غير مسبوق للمال العام غرب ليبيا (برعاية دولية) تخفيه بعض المشروعات (الشعبوية) لذر الرماد في عيون (البسطاء).. إعمار وتنمية وإصلاح في عموم الشرق وصولا لسرت بشرعية محلية.. جسور، طرق، مدن رياضية، مباني، مطارات غيرت وجه الكآبة.. أما الجنوب (مكانك راوح).. غياب للمال وتكبيل للرجال.. واستمرار التبعية.. وتمديد حالة الانتظار.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً