مما لا شك فيه أن ليبيا مازالت سياسيا مكبلة باتفاقية الصخيرات التي أسس لها الصراع على الشرعيات الذي نتج عن حرب فجر ليبيا عام 2014، بمعنى أن الشرعية الوطنية سلبت تماما واستبدلت بالقرارات الأممية التي ضمنت هذه الاتفاقية في قرارات مجلس الأمن الذي يهيمن على مجريات السياسات الدولية، والتي وصل عددها إلى 35 قرار، بداية بالقرار 1970 لعام 2011 الذي أحال الوضع الليبي إلى محكمة الجنايات الدولية وأقر حظر الأسلحة وتجميد الأصول حتى القرار 2647 الصادر في يوليو 2022 الذي أقر تمديد البعثة الأممية وأشار فيها إلى مخرجات ملتقى الحوار السياسي ويرفض فيها الأفعال التي يمكن أن تؤدي إلى أعمال عنف ويؤكد على ضرورة العمل على الوصول إلى الانتخابات.
اتفاقية الصخيرات أنشأت ثلاث كيانات سياسية محددة وهي المجلس الرئاسي ومجلس الدولة وأعاد مهام التشريع للكيان الثالث البرلمان، وللأسف هذه المهام كما حددتها الاتفاقية جعلت مهمة اعتماد الحكومة ومنحها الثقة حق أصيل للبرلمان حسب المادة (13) من الاتفاقية، هذه المادة مكنت البرلمان من تعطيل الحكومة وخلق حكومة موازية لها مما أدى بالانقسام المؤسساتي اللاحق.
كانت أولى أسافين تعطيل المسار السياسي هو عدم اعتماد حكومة الوفاق من قبل البرلمان، وقد عبر عن هذا الأمر الدكتور أبوبكر بعيرة حين أشار إلى هذا الخطأ لاحق، وبالطبع، تعطيل اعتماد الحكومة، عطل تنفيذ العديد من المهام التي كان يمكن أن تبني الدولة مثل المادة (10) من اتفاقية الصخيرات، والتي تلزم الحكومة بتشكيل لجنة مشتركة من النواب والدولة ومجلس الدفاع والأمن القومي للتوافق على قانون صلاحيات القائد الأعلى والمستويات القيادية بالجيش، والتي كان من الممكن أن تؤسس لجيش موحد أهم أركان الدولة، والنتيجة الانقسام الثاني للحكومة الليبية (السراج/الثني) بعد الانقسام الأول زمن حكومة عمر الحاسي/الغويل/الثني.
تعثر رؤساء البعثة الأممية في ليبيا من التوصل إلى حل لأزماتها والعودة بها كدولة فاعلة، وكان آخر هؤلاء السيد الدكتور غسان سلامة ونائبته السيدة ستيفاني وليامز، فرغم الدور الذي قاما به بعد حرب الكانيات على طرابلس عام 2018، إلا أن استمرار دورهما اصطدم بحرب أبريل 2019 الذي عطل مشروع مؤتمر غدامس، وجعل البلاد مرة أخرى رهينة للقوى الأجنبية وعلى رأسها روسيا وتركيا عسكريا.
أدرك السيد غسان سلامة ونائبته السيدة ستيفاني وليامز تماما أن تأزم الحالة الليبية يعود إلى الدعم الخارجي للفرقاء السياسيين، لذلك عمل غسان سلامة بالتعاون مع المستشارة الألمانية السيدة أنجيلا ميركل على جمع هذه الدول في محاولة لتحييدها عن الصراع الليبي، وفي يناير 2020، جمع مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا، بدعوة من المستشارة أنجيلا ميركل، حكومات كل من الجزائر والصين ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وتركيا وجمهورية الكونغو والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وممثلين عن الأمم المتحدة، بما في ذلك الأمين العام وممثله الخاص في ليبيا والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، وتعهد قادة الدول المشاركة في ذلك المؤتمر بعدم التدخل في الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا، وكذلك دعم حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على البلد، إلا أن هذه الدول لم تلتزم بتعهداتها، فقد استمر تدفق الأسلحة إلى ليبيا حسب تقارير المنظمات الدولية المهتمة بهذا الأمر.
انطلقت أعمال مؤتمر برلين 2 حول ليبيا، بمشاركة 15 دولة إضافة إلى 4 منظمات دولية، وشاركت الحكومة الليبية في فعاليات هذا المؤتمر للمرة الأولى، وجاء المؤتمر لتقييم التقدم المحرز في العملية السياسية منذ مؤتمر برلين الأول، بالإضافة الى ملف الانتخابات الوطنية التي تقرر عقدها في 24 ديسمبر، وكذلك ملف إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية.
بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 2510 (2020)، الذي صادق على مخرجات مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا، قامت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بتيسير الجولة الأولى من ملتقى الحوار السياسي الليبي من 7 إلى 15 نوفمبر 2020 في العاصمة التونسية، جمع الملتقى 75 مشاركًا ليبيًا من النساء والرجال الذين يمثلون ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الليبي، بدأت محادثات ملتقى الحوار السياسي الليبي بجلستين افتراضيتين واستمرت باجتماعات مباشرة بين اعضاء ملتقى الحوار. وقامت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة ورئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ستيفاني وليامز، بتيسير المحادثات بدعم من فريق من البعثة يمثل مختلف الأقسام، وكذلك فريق من مركز الحوار الإنساني. كما قدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الدعم التنظيمي والتشغيلي لملتقى الحوار السياسي الليبي. وفي ختام الملتقى، توافق ممثلوا الليبيين على خارطة طريق لإجراء انتخابات وطنية وشاملة وديمقراطية وذات مصداقية، وذلك في 24 ديسمبر 2021. وهذا اليوم التاريخي، الذي سيصادف مرور 70 عاماً منذ إعلان ليبيا استقلالها في عام 1951، كان سيمثل ً فرصة لإنهاء المرحلة الانتقالية واختيار طريق جديد للمضي قدماً.
اتفق المشاركون على ضرورة إصلاح السلطة التنفيذية المنبثقة عن اتفاقية الصخيرات بما يتماشى وخلاصات مؤتمر برلين، وحددوا هيكل واختصاصات المجلس الرئاسي ورئيس للحكومة منفصل عن المجلس، وهذا هو أول التعديلات على هيكلية اتفاقية الصخيرات التي كانت تعتبر رئيس المجلس هو رئيس للحكومة ايضا، وكان المجلس مكون من 9 اعضاء فقلص الى 3 اعضاء فقط. كما حددوا أيضاً معايير الترشح لهذه المناصب. وشكلت وثيقة الاختصاصات ومعايير الترشح والبيان الصادر عن المشاركات المخرجات الرسمية لهذه الجولة من ملتقى الحوار السياسي الليبي والذي اعتبر خارطة طريق للوصول الى الانتخابات.
أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا قائمة المرشحين للمجلس الرئاسي ومنصب رئيس الوزراء، وتم اعتماد 24 مرشحا لعضوية المجلس الرئاسي، وقد تضمنت القائمة العديد من الذين تسببوا في الأزمة السياسية التي تمر بها البلد، فكانت احد القوائم مثلا تضم السيد عقيلة صالح كرئيس للمجلس (بعد ان تعهد بترك رئاسة البرلمان لشخصية من الجنوب) والسيد باشاغا رئيس حكومة، إلا أن قائمة المنفي- الدبيبة هي التي حظيت بالترشيح.
فشل قائمة عقيلة – باشاغا دفعت السيد عقيلة إلى التنكر لوعده بالتخلي عن رئاسة البرلمان، مما أثار جدلا حول التفكير في انتخاب رئيس جديد للبرلمان، إلا أن السيد عقيلة صالح تمكن من العودة إلى رئاسة البرلمان رغم ذلك الجدل ومحاولة إبعاده.
كلف الدبيبة باعتباره رئيس وزراء القائمة المرشحة باختيار وزرائه، وكان المأمول أن يتم تكوين حكومة مصغرة تدير البلد وتشرف على ثلاثة ملفات رئيسية وهي الإعداد للانتخابات وتوحيد مؤسسات الدولة وتيسير حياة المواطنين، إلا أن تشكيل الحكومة لم يسلم من تدخلات متصدري المشهد السياسي، فشملت 27 وزارة و6 وزارات دولة لإرضاء هؤلاء وتمرير التشكيلة الوزارية، ولم تكن حكومة كفاءات كما كان يفترض، بل حكومة ترضية ضمت وزراء يمثلون شخصيات ذات صلة بالأجسام المهيمنة على المشهد السياسي، لهذا كان الفشل في الأداء متوقع.
مر 24 ديسمبر ولم تنجز الانتخابات، وتعددت تفاسير الفشل، أرجعها البعض إلى قانون الانتخابات المعيب، والبعض الآخر إلى ترشح شخصيات بعينها، والنتيجة أن الانتخابات لم تنجز، وأسفر عدم إنجازها على إشكالية جديدة تمثلت في تفسير البرلمان لخارطة طريق ملتقى جنيف، حيث اعتبروا أن فشل الانتخابات هو نهاية لحكومة الدبيبة. وعوضا عن محاولة معالجة أسباب عدم إنجاز الانتخابات، ومحاولة العمل على إحقاقها اهتم البرلمان فقط بتحميل الحكومة أسباب فشل الانتخابات، وبالتالي عملوا على إسقاطها من خلال الاتفاق على التعديل الدستوري 12 وتكليف حكومة جديدة، واصبح الحديث عن الانتخابات آخر مشاغل البرلمان الليبي. على أن الغائب في هذا الأمر أن الدبيبة جزء من حزمة خارطة الطريق واتفاقية الصخيرات، أي أنه أحد المكونات الأساسية لحزمة التفاهمات وليس منفصل عنها، وبالتالي فليس للبرلمان ولاية عليه أو على المجلس الرئاسي، وسحب الثقة من الحكومة لا ينال من الوضعية القانونية لرئيس الحكومة، فعلى ما يمكن للبرلمان فعله هو المطالبة بتغيير الحكومة فقط.
هكذا أدخل البرلمان البلد في أزمة جديدة لا تختلف عن الأزمة الأولى التي قسمت الحكومة ومؤسسات الدولة في العام 2016، وكما فشل اتفاق الصخيرات على الوصول بالليبيين إلى إنهاء المراحل الانتقالية وتعيين برلمان جديد يمثل كل الليبيين ويعالج ملف السلطة التشريعية، فشلت مخرجات جنيف في إنجاز ما تم إفشاله في العام 2016 لتستمر أزمة تعدد مؤسسات الدولة والقضاء على أي محاولات جادة لإنهاء الانقسام وحل المشاكل التي تعاني منها ليبيا كدولة والليبيين كمواطنين في هذه الدولة.
مازال المجتمع الدولي يتعامل مع حكومة الوحدة باعتبارها الحكومة الشرعية، وحتى الدول التي سارعت بمباركة تشكيل حكومة الاستقرار كما سميت فقد تراجعت عن مباركتها ولم تعلن اعتراف صريح بهذه الحكومة. وكما أن حكومة الوفاق لم تكون حكومة وفاق وحكومة الوحدة عجزت أن تفرض سيطرتها على كل التراب الليبي، فحكومة الاستقرار أسقطت كل استقرار ممكن قبل أن تستلم مهاهما، هذا إن تمكنت أن تستلم هذه المهام.
الإشكالية الحقيقية هي في غياب المرجعيات التي تهيمن على تفسير القوانين واللوائح الصادرة، وبالتالي فكل يفسر ما يحلو له حسب مصالحه ورؤيته طارحا بعرض الحائط رؤية خصومه وتفسيراتهم، لذلك أصبح الخلاف يتعمق كلما حدث أمر ما أضر أو سحب مصالح فريق من الفرقاء. مخرجات جنيف مثلا هي منتج أممي، صاغ خارجة الطريق ملتقى الحوار الليبي بالتعاون والتنسيق مع البعثة الأممية، وضمنت في ملفات مجلس الأمن الدولي، وبالتالي فإن تفسير هذه الخارطة هو حق أصيل للبعثة الأممية وملتقى مجلس الحوار، والخوض في تفسيرها من قبل أطراف الصراع هو محاولة لتأزيم الموقف ليس إلا، وبالتالي عبث بمستقبل البلاد وسد لمنافذ الحلول الممكنة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً