كل التفاصيل حول الصراع المسلح المستجد في السودان متاحة عبر وسائل الإعلام، بالإمكان معرفة أسبابه وجذوره وأطرافه، وكذلك المواقف الدولية الإقليمية ودورها في هذا الصراع.
قد تبدو هذه التفاصيل مهمة لمن يدفعه الفضول لمعرفة ما جرى، ولماذا تطورت الأحداث بهذا الشكل الدراماتيكي إلى حد المواجهة المسلحة؟ محاولا تأسيس قاعدة معرفية يستند عليها لاستشراف مستقبل الصراع، في مواجهة أسئلة ملحة.
هل يحسم أحد الطرفين الصراع لمصلحته في وقت وجيز فيوفر على السودان وشعبه الأرواح والدماء؟ أم سيبقى الصراع مفتوحا، ومن ثم جاذبا للقوى الخارجية، فتتحول البلاد إلى حلبة لتصفية حسابات هذه القوي، كما هو حال كل الصراع المسلحة الداخلية؟ من سيئات هذا السيل الجارف عن أخبار الحرب وتطوراتها، أن يبعد الملتقى عن التأمل في الكوارث التي يوقعها العسكر بشعوبهم وبلدانهم، وأن يصرف انتباهه عن وهم إمكانية دمج أحلام العسكر في الحكم والسيطرة، بالمشاريع المدنية للسلطة.
خلال ما يزيد عن نصف قرن، استخف العسكر في المنطقة العربية بالشعوب، وبالجانب المدني للسلطة، فهي بنظرهم مجرد تابع لتنفيذ بعض المهام الحكومية، تحت الإشراف المباشر للعسكر من ذوي الرتب الرفيعة، أما السلطة الحقيقية، والنفوذ، والقرار السياسي والاقتصادي، فينبغي أن يكون في يد قائد العسكر، وحفنة من جنرالات يلتفون حوله ويدينون له بالولاء المطلق، من دون استبعاد محاولة أحدهم أو بعضهم الانقلاب، إزاحة الجنرال الأول والحلول محله. هذا مشهد معتاد تكرر كثيرا في غابات عسكر المنطقة العربية، والعالم الثالث بشكل عام.
الخراب والتبعية وانهيار كافة القطاعات، وصولا إلى الانتفاضات الشعبية، لم تقنع العسكر بضرورة إنقاذ بلدانهم بالتخلي عن السلطة لصالح المدنيين، فإدارة شؤون الدول في العصور الحديثة، ينهض بها خبراء في السياسة والاقتصاد وعلماء الانثروبولجي وعلم الاجتماع البشري، فالعسكر لم يتم أعدادهم في الكليات الحربية والمعسكرات لشؤون الحكم وإدارة الشأن العام، الذي يتطلب إلى جانب الخبرة المعرفية، براغماتية عالية، مرونة في المواقف، ومقدرة على الحوار، واجتراح الحلول للمشاكل الطارئة، وهي خبرات قلما توافرت لدى الجنرالات، فأدوارهم الرئيسية هي حماية بلدانهم وشعوبهم من غزو خارجي، وحماية الحدود، وحراسة الدستور، مع مهام أخرى تستدعيها حالات الطوارئ كالكوارث الطبيعية، مع أدوار أخرى تنطمها الدساتير، ليكون لهم دور في صناعة القرار إزاء أي تحديات تتعرض لها البلاد، من خلال عضويتهم كمؤسسة في مجلس الأمن القومي.
في تجارب التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية، كان للعسكر دور بارز في التخلي عن السلطة لمصلحة المدنيين، فالجنرال ايرنستو غيسل الذي حكم البرازيل في منتصف سبعينيات القرن الماضي، سار بالبلاد في طريق التحول الديمقراطي، وأكمل المسيرة من بعده الجنرال باتيستا فيجوريدو، وخلال عشر سنوات أنجزت البرازيل تحولها إلى النظام المدني الديمقراطي، فمنذ عام 1985 ودعت البرازيل الحكم العسكري القمعي التسلطي، ومضت بخطى ثابتة في طريق الحكم المدني، أنجزت اصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية لتصبح في سنوات قليلة قوة اقتصادية صاعدة. ولم تبتعد دول القارة الأخرى عن النموذج البرازيلي. ولعل تضافر عوامل وظروف مساعدة ساهمت في تسريع هذا التحول، وتحقيقه بأقل التكاليف، ولكن من دون شك فإن قناعة العسكر، إلى جانب توحد القوى المدنية المنتظمة في أحزاب فاعلة، وشيوع الثقافة الديمقراطية في الأوساط الشعبية، كانت من العوامل الأساسية في النجاح.
بالطبع من غير الممكن استنساخ تجارب التحول بحذافيرها، لأن السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية مختلفة، ولكنها بالتأكيد تجارب ملهمة إذا اقتنع العسكر في السودان وفي كل البلدان العربية، أن مرحلتهم انتهت وعليهم العودة إلى الثكنات، وترك شؤون إدارة البلاد للمدنيين، لكي تنهض بلاد العرب من ركام خرابهم، وتعيش الشعوب العربية كباقي شعوب العالم الحر، وأي تأخير في إنجاز هذا التحول لا يعني سوى استمرار الانقلابات والكوارث والخراب.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً