“يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين”؛ كان هذا جواب يوسف كرماً وجوداً ولم يذكر لهم سوابقهم بل دعا لهم بالمغفرة والرحمة. هذه خصال الكبار وخواص الخلق وخيار المصطفين.
(1)
طلب مني صديق كتابة مقال في إطار التسامح والعفو وجبر الضرر، فالمرحلة تحتم علينا نشر هذه الثقافة وبثها لتكون واقعاً بدلاً من ثقافة الكراهية والتشفي وتداول الإنتقام.
وقد بدأت في كتابة المقال إلا أني تذكرت مقالاً سابقاً بعنوان “المصالحة…نقلة نفسية شجاعة”،نشرته مجلة”لنا”بتاريخ 18 أكتوبر 2013م فقلت في نفسي هل يفي هذا المقال بالغرض فأعيد نشره؟.
العفو كلمة جميلة وصفة حميدة، لا يستطيعها إلا المؤمن الليّن، الراجي لرحمة ربه والباحث عن رفعة منزلته، يحمل قلباً سليماً قد تخلّى عن نزعة الانتقام والتشفّي، وآثر ما عند الله ويتلهف هذا القلب للقاء ربه والطمع في رضوانه وغفرانه.
وقبل أن أرجع إلى المقال سالف الذكر فإنني أضع بين أيديكم هذا الحديث الشافي الوافي الكافي لحل ما حصل ما بيننا من إقتتال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يزيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أصيبب دم أوخبل (الخبل: الجراح) فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص (عبر القضاء) أويأخذ العقل (جبر الضرر) أويعفو، فإن أراد رابعة (أي واحدة من غير الثلاثة) فخذوا على يديه فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد فقتل فله النار خالداً فيها مخلداً” مسند أحمد.
أي بمعنى أن صاحب الحق أمامه ثلاثة خيارات؛ إما أن يطلب بحقه عبر القضاء، بعد قيام الدولة واستتباب الأمن فيها. أو يطالب بجبر الضرر بدفع الدية أو التعويض فيما لحق به من أضرار. أو يعفو وأجره في ذلك على الله صاحب الخزائن التي لا تنفد. ومن أراد أن يستوفي الحق بالذات فإنه اختار الرابعة ويتوجب على كل الليبين أن يأخذوا على يديه. ولقد كتبت في أكتوبر 2013م مقال عن العفو والمصالحة بمجلة “لنا” وهذا نص المقال:
(2)
ثورة 17 فبراير علمتني أن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم كان رجلا شجاعا وعظيما، وعلمتني أيضاً أن العفو والصفح لا يستطيعه إلا الرجال أصحاب الخصال الكريمة. كنا نقرأ قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لقومه “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، قرءاة عابرة دون أن نقيس صعوبة تنفيذها على الواقع أو نقيس صعوبتها على النفس البشرية. هذا الأمر لا شك يتطلب شجاعة لا يستطيعها إلا من تعلم خلق العفو والصفح، ومآلات هذا الصفح من مشكاة النبوة. بهذا الإعلان استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحقق السلم الاجتماعي بنقلة نفسية كبح فيها روح الانتقام وكسب قلوب قومه وأجبرهم على إحداث نقلة نفسية مماثلة، فأسلموا جميعاً واتجهوا مباشرة للبناء.
وفي حالة جنوب إفريقيا وبعد أن أنهكتهم سياسة التفرقة العنصرية سنين طويلة قام رئيسها بخطوة شجاعة. نستطيع أن نتفهم شجاعة رجل مثل دبليو دي كليرك حين قال، تسعة أيام قبل إطلاق سراح الزعيم نلسون مانديلا في فبراير 1990، أمام البرلمان. “لقد آن الأوان لكي نخرج من دائرة العنف نحو السلام والمصالحة” وذلك لأن الرجل وصل إلى طريق مسدود فأجبرته شجاعته على إحداث نقلة نفسية بعد تجربة مريرة ودونما إصرار على المضي في الطريق المسدود. السود أنفسهم بقيادة الزعيم نلسون مانديلا أحدثوا نقلة نفسية متميزة فلم ينتقموا وساروا في أعظم عملية سلام عرفها العصر الحديث.
لا شك أن عقود أربعة من الاستبداد تحمل في طياتها قائمة سوداء من الجرائم المختلفة التي قام بها النظام السابق واتباعه. لكن لاشك أيضاً أن هناك قائمة سوداء أخرى سجلت بعد تحرير البلاد. ثورة 17 فبراير نجحت في إسقاط نظام مستبد لكنها لم تنجح حتى الآن في قيام دولة العدل ودولة القانون التي ضحى من أجلها شبابنا. روح الانتقام والتشنج والتشفي سادت في النفوس وساد معها القتل والسجن والتعذيب والخطف والاغتيال والعبث بالمال العام.
إذاً نحن بحاجة إلى نقلة نفسية نوعية تنقل البلاد كل البلاد، وتنقل المواطنين كل المواطنين من شفا جرف هار من الانتقام والكراهية والفوضى إلى عالم يسوده الأمن والآمان والاستقرار والأمل. هذه النقلة النفسية هي عبارة عن انتقال الانسان من حالة التموقع الحالي إلى حالة قد تكون مرفوضة بالنسبة إليه شكلاً وموضوعاً في الغالب.
على سبيل المثال قد يجد منتصر نفسه أمام نقلة نفسية تتطلب منه أن يأتي لمن انتصر عليه ويواجه أفعاله بكل شجاعة ويقر بجرائمه التي ارتكبت في حق المهزوم ويبدي استعداده لمواجهة تبعاتها وكذلك جبر الضرر الناتج عنها. كما أن الطرف المقابل بحاجة إلى نقلة نفسية تستوعب الحاجة إلى قبول الواقع المر، الذي ساهم فيه، والناتج عن الاستبداد والذي احتاج إلى عملية جراحية معقدة نتج عنها انهيار كامل لكل المؤسسات وحصاد مر للعقود الأربعة، ونشأ فيها إنسان مشوه مليء بالعاهات والعقد والأمراض.
هذه النقلة النفسية تتطلب أن نتعامل مع الوضع الحالي كمشكلة يشارك في حلها كل الشعب الليبي بعيدأ عن معادلة المنتصر والمنهزم. فكما ذكرت في مقال سابق فإن التحديات التي يواجه الشعب الليبي كثيرة ومترابطة ومعقدة ومتشابكة وبحاجة في مواجهتها إلى جهود جميع أفراد الشعب الليبي بدون استثناء. وعلينا جميعاً أن نتجاوز هذه المحنة بنقلة نفسية تمكننا من الانسحاب من المعارك الوهمية إلى مواجهة التحديات الخطيرة التي تهدد الوطن بأكمله.
ففي المجال الاقتصادي يعد الاقتصاد الليبي غير متنوع ويعتمد على ريع النفط بالدرجة الأساسية، كما أن هناك ظاهرة البطالة المتصاعدة بنوعيها؛ المقنعة والمكشوفة، وهناك الفقر والتفاوت في الدخول وهناك بنى أساسية متهالكة وتغول للقطاع العام على القطاع الخاص وانتشار الفساد، ووجود مستوى عال من الأمية وضعف مساهمة المرأة في الاقتصاد، وهناك تخلف في مؤشرات التنمية المستدامة وضعف في الإنتاج العلمي والثقافي.
وفي المجال السياسي والأمني تحد ليبيا العديد من الدول الآهلة بالسكان ولديها مشاكل حدودية لم يتم ترسيمها بالكامل حتى الآن. وهناك امتدادات جغرافية لبعض المكونات العرقية والثقافية من المجتمع الليبي وبعض الدول المجاورة تمر بنفس الوضع التي تمر به ليبيا أو تعاني من عدم الاستقرار منذ فترة طويلة. كما أن مواطنين كثرا من دول الجوار توطنوا في الجنوب الليبي وهاجر العديد من أهل الجنوب إلى الشمال الليبي لأسباب متعددة.
يضاف إلى كل هذا المشاكل أخرى نتجت عن الثورة؛ مثل انتشار الأسلحة والكتائب التي تحولت إلى مراكز اقتصادية، ووجود السلاح تحت يد المجرمين الجنائيين الذين أطلق سراحهم النظام السابق، وغيرها من المشاكل بين المدن والقبائل، والتي كانت إما عبارة عن إرث من النظام السابق أو نتاج حرب التحرير.
هذه التحديات وغيرها كثير تتطلب نقلة نفسية ينتج عنها تحقيق المصالحة الوطنية العادلة حتى يتسنى لنا مواجهة هذه التحديات. هذه النقلة النفسية تحتاج إلى إرادة من قبل المؤتمر والحكومة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وشيوخ القبائل ووسائل الإعلام، وقادة الرأي العام، وكل الشخصيات الوطنية الصادقة. وهذه الإرادة يجب أن تترجم في حوار لا يقصي أحدا ولا يستبعد فيه موضوع من النقاش الحر. وينتج عن هذا الحوار بناء آليات احل النزاع وجبر الضرر وتحقيق العدالة ومد جسور العلاقات بين المتخاصمين. هذه النقلة النفسية ستساهم بسرعة تحقيق تنمية اقتصادية قادرة على مواجهة التحديات، ومن شأنها تحقيق الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً