في السنة الأخيرة، أصبحت بنغازي مركزاً لمشاريع إعادة إعمار واسعة النطاق بقيادة خليفة حفتر وأبنائه، الذين يعملون على تطوير المدينة بشكل يلفت الأنظار، تشمل هذه الجهود مشاريع إنشائية كبيرة مثل بناء الطرق والجسور والمباني العامة، بهدف إقامة نموذج يمكن أن يلهم باقي مناطق ليبيا، وقد جذبت هذه التطورات انتباه رجال أعمال ليبيين ودبلوماسيين غربيين، على أن هناك بعض التساؤلات حول طبيعة هذه العمليات، حيث نقل الباحث الألماني ولفرام لاشر عن دبلوماسي غربي وصفه هذه التحركات بأنها تتسم بأساليب عمل شبيهة بالمافيا.
في هذا السياق، يشير مقال ولفرام لاشر وتقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأخير؛ إلى مشهد ضاغط نحو تسريع التوصل إلى حل سياسي في ليبيا، عبر محاولات التلاعب بمنصب محافظ مصرف ليبيا المركزي، سواء من خلال محاولات تغييره بالقوة أو بقرارات صادرة عن جهة غير ذات صفة، ومن جهة أخرى، يُلوّح حفتر بإعادة مغامرته السابقة على طرابلس، هذا التهديد يتزامن مع التناحر المستمر بين المليشيات المسلحة في الغرب، مما يضع ليبيا على حافة مواجهة جديدة قد تعجل بالحل السياسي، لكنها تحمل أيضًا مخاطر تصعيد الصراع إذا لم تُرافق بجهود دبلوماسية جادة، يأتي هذا الضغط قبيل إحاطة المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا، ستيفاني خوري، خلال هذا الأسبوع.
في ظل هذا الوضع المتأزم والانقسام الواضح بين الشرق والغرب، تثار تساؤلات حول ما إذا كانت هذه المشاريع الطموحة في بنغازي قادرة حقًا على تحقيق الاستقرار، أم أنها مجرد واجهة تخفي وراءها تحديات اقتصادية أعمق قد تزيد من تعقيد المشهد الليبي.
إن الحماس الذي أبداه بعض الدبلوماسيين الغربيين ورجال الأعمال تجاه ما يحدث في بنغازي يعكس رغبة سطحية في رؤية الاستقرار والنمو الاقتصادي، ولكن دون النظر بعمق إلى الآثار السلبية التي قد تنتج عن هذه المشاريع التي تسير بوتيرة سريعة وغير مسبوقة، ما يجعلها تبدو وكأنها تعيد الحياة إلى مدينة بنغازي بعد سنوات من الصراع، لكنها في الواقع قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا استمرت في الاعتماد على مصادر تمويل مشبوهة وغير شفافة، بدلاً من أن تكون هذه المشاريع نذيرًا بمستقبل أفضل، قد تصبح مصدرًا لمزيد من الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية في ليبيا.
في طرابلس، يعاني الاقتصاد من الجمود، حيث المشاريع الإنشائية بالكاد تتحرك، ويواجه المقاولون صعوبات بالغة في الحصول على مستحقاتهم، يعود هذا الوضع إلى الصراع السياسي الداخلي بين حكومة الدبيبة ومحافظ البنك المركزي الصديق الكبير، الذي حظي بدعم مجلس النواب وبعض أعضاء المجلس الأعلى للدولة وحماية من سفير الولايات المتحدة بليبيا، ريتشارد نورلاند. وفقًا لما أشار إليه ولفرام لاشر، فإن هذا الصراع المستمر على السلطة والنفوذ في طرابلس يعمق الشلل الاقتصادي ويؤدي إلى تفاقم التوترات بين الفصائل المتنافسة، مما يضعف موقف حكومة الدبيبة في مواجهة خصومها ويزيد من تعقيد جهود تحقيق الاستقرار وتحريك الاقتصاد والتنمية في المنطقة.
ومع ذلك، فإن التحركات التي تجري في بنغازي، والتي تبدو ظاهريًا مشجعة، تحمل في طياتها مخاطر كبيرة تتعلق بمصادر التمويل التي تعتمد عليها، وفقًا لما ذكره ولفرام لاشر في مقاله، فإن الأموال التي تُستخدم في هذه المشاريع تأتي من مصادر مشبوهة، مثل تهريب الوقود على نطاق واسع، وطباعة العملة المزيفة، وتحويلات مالية غامضة، وزيادة مخيفة في الدين العام، إضافة إلى أصول بقيمة 51 مليار دينار ليبي تم نقلها من الشرق إلى الغرب، مما مكن مصارف الشرق من منح القروض بشكل كارثي، هذه الأنشطة قد تؤدي إلى تآكل الثقة في المؤسسات المالية وتفاقم الانقسامات بين المناطق المختلفة في ليبيا، فبدلاً من أن تكون هذه المشاريع بداية لعصر جديد من التنمية المستدامة، قد تصبح نذيرًا لكارثة اقتصادية أكبر على المدى الطويل، بحسب ما يشير إليه ولفرام لاشر.
في المقابل، أشار تقرير الأمين العام غوتيريش إلى أن المنطقة الشرقية، رغم استقرارها النسبي مقارنة بالغرب، تعيش تحت سيطرة حفتر وقواته الذين يحاولون تعزيز نفوذهم واستغلال حالة الفوضى في الغرب كذريعة لتوسيع سيطرتهم، ومع ذلك، يبقى الاستقرار في الشرق هشاً، وسط مخاوف من أن يتم استخدامه كقاعدة لانطلاق عمليات عسكرية جديدة، سواءً لاستهداف الغرب أو لتعزيز موقع حفتر السياسي.
في الواقع، ما يحدث في بنغازي اليوم يمثل تحديًا كبيرًا للمجتمع الدولي والمحلي على حد سواء، من جهة، هناك ضرورة لدعم حركة البناء والتنمية في ليبيا كوسيلة لإعادة إحياء الاقتصاد وتحقيق الاستقرار، ومن جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الآثار السلبية التي قد تنتج عن الاعتماد على مصادر تمويل غير شفافة وغير شرعية، هذه المفارقة تطرح سؤالًا ملحًا: هل يمكن تحقيق التنمية الحقيقية في ليبيا دون التضحية بالشفافية والمساءلة؟.
ما تحتاجه ليبيا اليوم هو توازن دقيق بين دعم مشاريع البناء وتحقيق الشفافية في كيفية تمويل هذه المشاريع، إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فقد تجد ليبيا نفسها في مواجهة مستقبل اقتصادي مظلم، حيث يتم بناء المدن على أسس من الفساد والانقسام، من الضروري أن تكون هناك رقابة دولية ومحلية فعالة لضمان أن هذه الجهود تُترجم إلى تنمية حقيقية ومستدامة تخدم جميع الليبيين.
إن مستقبل ليبيا لا يمكن أن يعتمد فقط على عدد المباني الجديدة أو الطرق التي تُشق، بل على كيفية تحقيق هذه الإنجازات ومن أين تأتي الأموال التي تمولها، فبدون إدارة رشيدة وشفافة للأموال العامة، ستظل هذه المشاريع مجرد واجهة جميلة تخفي وراءها مشكلات أعمق قد تقود البلاد إلى هاوية اقتصادية، إن إعادة بناء ليبيا تتطلب أكثر من مجرد الإسمنت والحديد؛ إنها تحتاج إلى بناء الإنسان وبناء دولته على أسس الدستور والقانون، ومؤسسات قائمة على العدالة والشفافية والثقة، وضمان أن تكون التنمية في صالح الجميع.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً