العرب – عبد الكريم الرقيعي
حالة الانفلات الشامل التي تشهدها ليبيا لم تعد خافية على أيّ ملاحظ للتطوّرات الجارية في منطقة ما يُسمّى بدول «الربيع العربي». فقد أخذت الأوضاع الأمنيّة المتأزّمة في التفاقم المتصاعد منذ إسقاط نظام القذافي عام 2011.
وأضحى هذا البلد النفطي، بمختلف مؤسّساته السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، أسيرا لميليشيات وتشكيلات مسلّحة تدين بالولاء لا للدولة وإنّما لأحزاب أو جماعات دينيّة متشدّدة أو قبائل تقتسم مناطق النفوذ في البلاد شرقا وغربا.
«العرب» التقت مع العميد الركن في الجيش الليبي محمد عبدالعاطي الرفاعي ذي التجربة العسكرية والسياسيّة الواسعة ليُشخّص الأوضاع المعقّدة السائدة في ليبيا، ولاسيّما مسبّبات استمرار عجز السلطات الليبية عن فرض هيبة مؤسّسات الدولة وسلطة القانون، ودور إخوان ليبيا وامتداداتهم الدولية في اختراق مختلف الأجهزة وتغذية حالة الارتباك العامّة في البلاد.
العميد الركن محمد عبدالعاطي الرفاعي خبير عسكري أمضى سنوات طويلة في خدمة الجيش الليبي، وله معرفة كبرى بالرهانات الإقليمية والدولية المحيطة ببلاده، خاصّة أنّه خاض حروبا عدّة خارج البلاد، وقبع أكثر من عشر سنوات في سجون نظام معمر القذافي وزنازينه. وفي لقائه مع «العرب» رسم صورة قاتمة، إلى أبلغ الحدود، عن التهديدات والاختراقات التي تضرب عمق الأمن القومي الليبي.
يقول الرفاعي: «توجد حاليا أخطار حقيقية يتعرّض لها الأمن القومي الليبي، فرضتها التغييرات الحاصلة في ليبيا أثناء ثورة فبراير وبعدها، وإذا فكرنا في تحديد المخاطر نجدها داخلية وخارجية. فقد أصبحت الحدود الليبية مستباحة من الشرق والغرب شمالا وجنوبا، وأضحى البلد مرتعا خصبا لمخابرات العالم».
الجماعة رأس الحية
وحول المتسبّبين في حالة الانفلات الأمني السائدة في البلاد، يوضّح مُحدّثنا: «أنا أحمّل مسؤولية هذا الواقع لمصطفى عبدالجليل أثناء توليه رئاسة المجلس الانتقالي، فقد أهمل تفعيل الجيش وخصوصا في المنطقة الشرقية، حيث كان يمكن الاعتماد على الجيش ليكون نواة في تلك الفترة خاصّة أنّ لديه التسليح الكافي»، موضحا أنّ «الإسلاميين هم من فرضوا ذلك التوجّه السلبي على عبدالجليل. ومن بعده أكمل علي زيدان المهمة».
وفي هذا الصدد يُشير الرفاعي إلى أنّه كان قد التقى مع زيدان حتى قبل أن يستلم الحكومة وتباحث معه بخصوص إعادة هيكلة الجيش، قائلا: «لمست فيه يومها حرصه على بناء الجيش الليبي، وللأسف فإنّه تخلى عن مبادئه تلك بعد انتخابه رئيسا للوزراء. كما أنّه ساهم في بناء مليشيات ومنها مليشيات «سيف النصر» في الجنوب ومدّها بالأسلحة والتجهيزات العسكرية، فضلا عن دعمه دروع ليبيا».
وقال حرفيا إنّ زيدان «ساهم في تدمير الجيش الليبي، لكونه شخصية ضعيفة تتحكّم فيه مراكز القوى ومنها الإخوان وغيرها من الحركات الإسلامية حتّى أصبح أسيرا لديها. كما سبق أن طلبت منه، بحضور جمعٍ من الضباط، مقابلة مصطفى عبد الجليل فقال إنّه سينقل إليه مطالبنا بخصوص الجيش».
في الاتجاه ذاته، تحدّث الرفاعي عن سطوة جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا ومحاولاتهم الحثيثة لاختراق مختلف أجهزة الدولة، وأكّد أنّ «الإخوان يحضرون جيشا كجيش طالبان من أجل الوصول إلى السلطة، فأنا ضدهم كرجل عسكري وكمواطن ليبي، ولكن هم فاشلون والمجتمعات العربية نبذتهم»، قائلا: «إنّ الشعب الليبي لا يقبل أصلا بالفاشية الدينية وعلى الطرف الآخر ضرورة تفهّم ذلك».
وأضاف: «أنا لا أكره الإخوان، ولكنّني أرفض سياستهم وأعمالهم على الأرض، وللتوضيح فهم متحدون مع الحركات الإسلامية الأخرى من أجل الالتفاف على الحكم، وهذا ما يخفيني، غير أنّ ذلك قد يصل بهم إلى التناحر فيما بينهم، كما أنّني لا أبرّئهم من عمليات القتل المرتكبة ضدّ عناصر الجيش، فهم الأقرب إلى ذلك في ظل غياب الحقائق والتحقيقات الجادّة».
وبشأن التهديدات التي تواجه الأمن القومي الليبي، اعتبر الرفاعي أنّه من «الواضح أنّ عدوّنا يعيش بيننا في الداخل وله وجوه متعدّدة، ويتمثل في المليشيات المسلحة التي تهدد الأمن القومي، وكذلك القبلية والجهوية والحزبية المقيتة، والحركات الإسلامية الهدّامة المصطنعة المستوردة».
قاعدة للتطرف العالمي
بالنسبة إلى التهديدات الخارجيّة، فيرى العميد الليبي أنّ «التهديد في الغالب معروف المصدر والتمويل وحتى التوجّه، ومن ثمة يُمكن التعامل معه والحدّ منه وأحيانا يمكن القضاء عليه، لكن أن تتحوّل ليبيا إلى قندهار أو طالبان فهنا تكمن المشكلة الحقيقية في ظل غياب الأمن القومي».
كما وصف الرفاعي ليبيا بكونها أضحت حاليا «نقطة تجمّع لكافّة المتطرفين في العالم من الجزائر والمغرب وتونس ومصر وغيرها من بقاع العالم. وهذا العبث يعطي الفرصة لدخول مخابرات العالم، فإن رَضينا وسكتنا فإنّ الدول الأجنبيّة لن تسكت على ذلك بسبب انعدام الأمن القومي في ليبيا»، مضيفا للتدليل على ما بلغته هذه الأوضاع من ترهّل «حتى تشاد والنيجر أصبح لهما مطامع في بلادنا، والغرب قد يتدخّل بحجّة محاربة الإرهاب».
وبخصوص تمويل جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، فقد كان العميد الرفاعي قد أكّد في حديث سابق أنّ قطر لها دور كبير في ذلك، قائلا «أصبحنا الآن تُبّع لقطر ولبعض الدول الغربية وهو ما نرفضه، حتى ولو كانت دول صديقة.. فسيادة البلد تبدو اليوم منتهكة نتيجة السياسات العقيمة المقتصرة على المسكنات».
يرى القيادي العسكري الليبي أنّه من المفترض أن يكون هناك مجلس أعلى للأمن القومي يتكوّن من وزير الدفاع ووزير الداخلية ورئيس الأركان العامة ورئيس الاستخبارات العسكرية ورئيس البنك المركزي وكذلك الأمن الغدائي والدوائي، موضّحا أنّ «الأمن القومي يشمل تقريبا كلّ شيء وهذا مفقود عندنا كليا، ولو كنا نحافظ على أمننا القومي لما اختُطف رئيس الوزراء وضُرب وأهين وسُلبت منه خصوصياته… وبسبب غياب الأمن القومي نعيش مختلف المشاكل المفتعلة، من الوقود إلى فقدان المياه والكهرباء وتكرار عمليات الخطف والقتل للسرقة واستعمال السلاح في غير موضعه ودون ترخيص من قبل كلّ من هبّ ودبّ، وأصبحت حقول النفط وموانئ التصدير محتلّة من قبل قطاع الطرق والرعاع، فضلا عن تعدّد سرقات الأموال بما يفوق ملايين الدينارات».
الجمود السياسي
أمّا عن الجمود السياسي الذي أسهم بدوره في تعميق الأزمة في ليبيا، فقد اعتبر الرفاعي أنّ «البلاد تعيش في الواقع في ظل كارثة سياسية حقيقية سببها الأحزاب التي خرجت علينا قبل صدور الدستور وتحديد واقع الدولة»، موضّحا: «نحن نعيش بسبب الأحزاب في دوّامة قد تدخلنا في حرب أهلية لا سمح الله، ويعود ذلك إلى كونها أحزاب مسلّحة ولها أجندات خارجية تعمل من خلالها، وهمّها الأساس الوصول إلى السلطة. وما نشهده في جلسات المؤتمر الوطني العام خير شاهد على ذلك، حيث لا يوجد تجانس أو تفاهم أو رؤية واضحة المعالم لمستقبل البلاد»، على حدّ تعبيره.
أمّا بشأن التحديات التي تواجه بناء أسس الدولة في ليبيا، فقد أكّد الرباعي أنّ الدولة المتحضّرة التي تهتم بمواطنيها وشؤونهم تقام على أربعة محاور أساسية وهي: جيش وطني يحمي الوطن، وشرطة تحافظ على أمن المواطن وممتلكاته، وقضاء مستقل نزيه يتمتّع بالخصوصية، ومؤسّسات مجتمع مدني فعّالة تتابع الحكومة وتوجّه الشارع.
وقال في هذا السياق إنّ «الإشكال في بلادنا أنّنا لم نصل إلى هذه الأركان الأربعة، ومن ثمة أرى تحقيق ذلك في مقدّمة التحديات التي تواجه قيام الدولة في الوقت الراهن».
والجدير بالذكر أنّ العميد الركن الرفاعي سبق له أن طالب بحاكم عسكري لقيادة البلاد في هذه المرحلة، وهو ما تخالفه الأغلبية، بل ويتناقض أيضا مع ما ذهب إليه بشأن توصيفه للأركان الأربعة لـ«الدولة المتحضّرة». وحول هذا الأمر يقول: «أرى ذلك مجديا وأنفع للبلاد في مثل هذه الظروف الصعبة، أنا لديّ تحفّظات كثيرة على اللواء خليفة حفتر واختلف معه في كثير من القضايا ووجهات النظر، لكن مع هذا وضعت يدي في يده من أجل استقرار ليبيا ولتصحيح مسار الثورة. فالثورة انحرفت عن مسارها الطبيعي، والرجل يتمتع بقدرة عسكرية».
أمّا عن المؤسّسة العسكريّة الليبيّة اليوم، فهو يرى أنّ الجيش موجود وهو يحتاج فقط لقيادة عسكرية قويّة، مشيرا إلى أنّ من تمّ اختيارهم لقيادة الجيش يفتقرون للخبرة والكفاءة اللازمة وذكر في هذا الصدد أنّ اللواء المنقوش رجل ينفع أن يكون أكاديمي لا لقيادة الجيش، أمّا عبدالله الثني وزير الدفاع الليبي الحالي فـ«هو الآخر كنت آمره في الكلية العسكرية، وطيلة عمله كان آمر سرية لا غير، فكيف له أن يقود الجيش. وعلى العموم فإنّ الجيش الليبي كان يُعدّ من أكبر الجيوش العربية، بعد مصر والعراق وسوريا. كما أنّه أفضل جيوش المنطقة تسليحا رغم كونه تسليحا شرقيا».
فشل في الملفات الخارجية
وعلى صعيد آخر، سألت «العرب» العميد الرفاعي عن دلالات إطلاق مصر سراح أحمد قذاف الدم مؤخرا، فأوضح أنّ قذاف الدم كان من دفعته حين تخرّج من الكلية العسكرية، قائلا إنّ «القذافي وضع في فمه معلقة من الذهب. وهذا الرجل لم يخدم في الجيش إلا شهورا معدودة، ليصبح بعدها شخصا مقرّبا من القذافي ومبعوثه الخاص إلى رؤساء العالم، وبالتالي راحت منه الإمارة مع احتفاظه بالمليارات. وهو ما يهمّ مصر لا قذّاف الدم ولذلك لن يكون له مستقبل»، مستدركا بقوله: «ما أعيبه على الحكومة الليبية هو عدم استدعاء السفير الليبي في مصر للتشاور. فظهور قذاف الدمّ في القنوات الفضائية أخطر بكثير من خروجه من السجن.. والحكومة الليبية هي الفاشلة في إدارة الملفات الخارجية ومنها ملف قذاف الدم. فمصر هي المحتاجة لليبيا، حيث لها قرابة مليوني عامل لدينا، ومجرد التفكير في طردهم يجعلها تعيد التفكير في أيّة خطوة قبل الإقدام عليها»، على حدّ تعبيره.
وبشأن المصالحة وكيفيّة نظره إلى الليبيين المقيمين في كلّ من مصر وتونس لأسباب سياسية، فقد رأى مُحدّثنا أنّ هذا الملف يُشكّل فعلا «كارثة ووصمة عار في جبين كلّ ليبي. فثورة فبراير يُراد منها إحقاق الحق، وقد أضحت عودة هؤلاء ضرورة حتمية، وعلى الحكومة التعجيل بحلّ الإشكالات العالقة لكونها كارثة سيدفع ثمنها المنتصر والمهزوم، فهي تعد قبل كلّ شيء استحقاقا وطنيا».
هكذا بدا العميد الركن محمد عبد العاطي الرفاعي جريئًا في التصريحات التي أدلى بها لـ«العرب»، ثابتًا في ما عُرف عنه من انتقاد شديد إزاء الدور الخطير الذي تقوم به جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا كما في غيرها من الدول التي هبّت عليها رياح الثورة.
ومع ذلك لا يخشى أن يُصيبه ما أصاب الكثير من زملائه من القيادات العليا السابقة والحالية للجيش الليبي، لاسيما بعد أن بلغته العديد من التهديدات بالتصفية التي يربطها صراحة بجماعة الإخوان في ليبيا. في هذا المضمار يكتفي الرفاعي بالقول إنّ «الأعمار بيد الله.. أنا دخلت حروب تشاد وأوغندا ولبنان والحرب الليبية المصرية ولا أزال على قيد الحياة، لكن توخّي الحذر واجب، لاسيّما أنّه وصلتني تهديدات كثيرة وخصوصا عندما تكلّمت عن الإخوان والمليشيات المسلحة وقتلى غرغور بدم بارد لكن تبقى الأعمار بيد الله. وليبيا وحريتها تهون من أجلها الأنفس وروحي ليست أغلى من أرواح الضباط الشهداء».
اترك تعليقاً