القارات تعيد رسم خطوط طولها وعرضها، لكن بألوان تفيض من آهات الجوع وارتعاشات الخوف. العالم اليوم في حروب عالمية متحركة، تعددت الأسلحة واختلفت أسماء المحاربين، وأسماء القادة السياسيين، ورُتَب ضباط الجيوش، قال نابليون: الجيوش تمشي على بطونها، فعلى أي شيء تمشي الشعوب؟!.
بعد الحرب العالمية الثانية التي سقط فيها عشرات الملايين من البشر، ما بين جندي وجائع ومريض، أسَّست الولايات المتحدة الأميركية، ومعها حلفاؤها الأوروبيون، حلف شمال الأطلسي؛ تشكيل عسكري غير مسبوق في قدراته العسكرية، وانتشاره الواسع في دول غرب أوروبا. الاتحاد السوفياتي القوة الأخرى الكبيرة المنتصرة في الحرب، برزت قوة عقائدية شيوعية تناقض الدول الغربية الليبرالية فكراً وسياسةً واقتصاداً، سارع إلى تأسيس قوته العسكرية العابرة لحدوده، مع تابعيه الجدد في شرق أوروبا في «حلف وارسو». الحرب العالمية الثانية وما كان فيها من دمار ورعب، جعلت الخوف من الآخر هو الجنرال الرهيب الذي يتحرك أمام وبجانب وخلف رؤوس رجال الشرق والغرب. لم يجر التفكير في تأسيس أحلاف أو تكتلات للقمح والشعير والذرة، أو للدواء والتعليم. صحيح قامت الأمم المتحدة بتأسيس منظمات ووكالات للغذاء والصحة والثقافة والتعليم، لكن الأموال الضخمة التي سُخّرت للحلفين العسكريين، فاقت بكثير ما خُصّص لتلك الوكالات والمنظمات التي تهتم بغذاء البشر وصحتهم وتعليمهم. كانت الحرب هي طوطم النار المخيف الذي سكن رؤوس حكام العالم شرقاً وغرباً.
في اليوم الذي أصدر فيه الرئيس الأميركي هاري ترومان أوامره بإلقاء القنبلتين الذريتين فوق اليابان، اهتز شنب الزعيم السوفياتي ستالين، وضرب رأسه بقبضة يده. أدرك أن حليفه الذي ورث كرسي روزفلت هو مشروع زعيم حرب جديد، وبسلاح رهيب ما خطر على خيال بشر. صار همّ ستالين الأول هو امتلاك السلاح الجديد المرعب. ذلك ما كان بعد سنوات قليلة. في الوقت الذي كان فيه الكبار يركضون وراء السلاح الجديد، ويسخرون لصناعته العقول والمختبرات والمعامل، كان الملايين من البشر يموتون جوعاً ومرضاً، والأمية تعشعش في البلدان المستعمرة والفقيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. في مطلع خمسينات القرن الماضي اشتعلت حرب عالمية بمواصفات جديدة، أعطيت عنوان «الباردة»، لكنها سخنت في شبه الجزيرة الكورية، حيث تواجه حلفاء الأمس في حرب لا برودة فيها. كان التقسيم هو الحل. دخلت آسيا في صندوق النار الآيديولوجي والسياسي. مواجهة ثانية فوق أرضها بين الحلفاء الذين وحَّدهم هتلر وموسوليني وإمبراطور اليابان. حرب فيتنام كانت رسماً لخريطة جديدة للقارة على ورق متفجر. لم تكن المواجهة من أجل حقول الأرز، أو مساحات زراعة القمح والشعير والذرة، بل كل كانت صدام الخوف الآيديولوجي. رأسمالية غربية تريد أن تتسيَّد الدنيا بعد انتصارها على قوات المحور الفاشية النازية، وآيديولوجية شيوعية تعتقد أن العصر الإنساني الجديد الذي تتقدم فيه الصناعة يجعل من الطبقات العاملة في العالم مرتعاً خصباً لما تبشر به من سيطرة الطبقة العاملة. قوة هائلة هي الصين الشعبية الشيوعية، بما بها من قوة بشرية هي الأكبر في العالم، وتبنيها للآيديولوجيا الشيوعية، غيرت موازين السياسة والاقتصاد، والأخطر القدرات العسكرية. لقد هيمنت الولايات المتحدة على اليابان التي كانت القوة العسكرية الأكبر في آسيا، وهي التي أدخلت أميركا في صف الحلفاء في الحرب العالمية، بعد هجومها على الأسطول الأميركي في بيرل هاربر، لكن قوة آسيوية أكبر من اليابان وبآيديولوجيا شيوعية، هي الصين، بدأت تلعب دوراً مهدداً للغرب في آسيا، ومتحالفة مع صنوها الشيوعي (الاتحاد السوفياتي). فيتنام كانت ساحة الاختبار والصدام الأكبر بعد الحرب العالمية الثانية بين قوى عالمية قديمة وجديدة.
السلاح هو القلم الذي يكتب صحائف القوة، ويرسم خطوط خرائط العالم المتحرك.
في خضم ذلك الصراع العالمي، استمرت معاناة الشعوب المهمشة يعصرها الفقر والمرض والأمية، فيما ترفع القوى العظمى ميزانيات جيوشها، وتسخر قدراتها العلمية ومصانعها لإنتاج أسلحة جديدة معقدة. انقسم العالم إلى كتلتين، لكن من نوع آخر. كتلة غنية متخَمة تسخر المليارات من الدولارات لصناعة السلاح، وكتلة تهزها الفاقة والجوع. ولدت معادلة صامتة. غني يعبئ مقدراته للحرب، ينتج يومياً جبالاً من السلاح، وفقير معدم يحلم بحبات من القمح والأرز والذرة. هذه المعادلة الإنسانية التراجيدية، صار لها وجود مزمن على سطح هذا الكوكب.
العالم كله يتابع اليوم الحرب الروسية في أوكرانيا. صواريخ وقنابل وقتلى وأسلحة، وأصوات تهدد بتوسيع رقعة المواجهة، ودعم عسكري ومالي غربي لأوكرانيا، وتصريحات روسية ترفع وتيرة المواجهة. لكن الشعوب الفقيرة الجائعة، تتابع بقلق، بل وإحباط، أخبار ناقلات القمح الأوكراني والروسي التي تنتظرها بطون جائعة في بلدان لا حصر لها. الغذاء هو السلاح الذي يفعل فعله في معركة البشر مع الحياة. الحرب الروسية في أوكرانيا طالت العالم كله، بما فيه البلدان الغنية. التضخم وصل إلى جيوب الجميع شرقاً وغرباً، وأصبح القمح القنبلة الصامتة التي تدخل البيوت. روسيا عقدت قمة مع قادة أفريقيا، ووعدتهم بتقديم شحنات مساعدة من القمح إلى بعض الدول الأفريقية، لكن الطرق البحرية غير آمنة، وهناك تولد الذرائع. الولايات المتحدة عقدت هي أيضاً قمة مع الدول الأفريقية، ووعدت بتقديم 55 مليار دولار مساعدات واستثمارات في القارة الأفريقية، لكن حجم وسرعة المساعدات العسكرية والمالية الأميركية لأوكرانيا ليست مثل تلك التي وعدت بها أميركا قادة أفريقيا.
قصف موانئ تصدير الحبوب في الحرب الروسية – الأوكرانية، تضرب قنابله بطون الجائعين في أفريقيا التي تعاني من الفقر والجفاف والإرهاب والزلازل السياسية. حرب عالمية واسعة بين القمح والقنابل.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً