كانت دائما وسائل الإعلام وبجميع وجوهها وما سواها عند تتناولها بالحديث مشروع (سايس بيكو) تقول عنه وباقتضاب شديد، بانه قد جاء لتقسيم المنطقة وفقط. وهذا -في تقديري- توّصيف فيه من الاجحاف الكثير، لأنه لا يقول عن هذا الحدث الشيء الكثير. ويختزل هذه الكارثة -إن شئتم- في عبارة جاء لتقسيم المنطقة وفقط، وهذا القول تجانبه الدقة. ففي تقديري وتحديدا جاء (سايس بيكو) ليُمكّن الذراع الانجليزية من وضع يدها على كل جغرافيات المنطقة، التي تضم مخّزوناتها الحيويّة. من مائية في إقليم مصر والسودان. ونفطية في الجزيرة العربية ودول الخليج. ومخزونها البشري في أقاليم مصر السودان اليمن. وكل المنابع الروحية بالمنطقة التي تضمها جغرافية الحجاز وأرض فلسطين. وبمختصر القول، جاء هذا المشروع ليضع جل بل كل الموارد الطبيعية مائية، نفطية، بشرية، وجميع المنابع الروحية بالمنطقة، تحت قبضة هذه اليد الانجلوسكسونية، بل ولم تكتف هذه اليد بكل ما تحت يدها، بل ذهبت إلى اقتطاع الإقليم الليبي واجتّثه من فضائه الطبيعي، وألحقته إلى ما بحوزتها، لتأمن وتحصّن به سيطرتها على إقليم مصر والسودان.
واستثمرت هذه الانجلوسكسونية وعلى مدار قرابة قرن من الزمان كل هذه الموارد، سوى كان ذلك على نحو مباشر أو من خلال دول وظيفية، جاءت بها ومكّنتها لتنوب عنها، وتعمل وفق إرادتها، بما يعود على صانع هذا المشروع بالنفع والنماء، وبما يعود على جغرافية منطقتنا هذه بغير بذلك. بل كان صانع هذا المشروع لا يقّبل ويتوجّس من أي بادرة تُنّبى عن ظهور تحسّس ذاتي بناء يحمل في ثناياه صبغة وطنية داخل هذه الجغرافيات، قد يُحفّز ويسّتحث هذه الجغرافيات ويستنهضها نحو السعي لتوظيف هذه الموارد التي عددناها سلفا، في ما يعود بالنفع والنماء على هذه المنطقة وساكنيها.
فمع خمّسينات القرن الفائت تمكنت الجغرافيا المصرية من استعادت وعيها الوطني. فذهب بها هذا، نحو الرغّبة لتوظيف موردها المائي وتطويعه إلى طاقة كهرومائية، ليُضيء بها مدنه وقراه، وليُدير بها مكائن مصانعه، وليؤسس بذلك لإرهاصات نهضة وطنية. فاعترض طريق هذا الحلم الوطني، صانع (سايس بيكو)، وأفشل كل محاولاته وخطواته الساعية لتوفير الموّرد المالي، الذي يحّتاجة للشروع في خطوته النهضوية تلك، فدفعوا بفعلهم هذا، الوعي المصري الفتي نحو تأميم قناته المائية التي تعبر وتشق تراب وطنه، بغرض توظيف عائدتها المالية في تغطية مصاريف، تطويع الماء البِكرْ إلى طاقة كهرومائية، ليضع بهذه الطاقة بلاده وجزء صغير من الرقعة الجغرافية لهذه الكرة الأرضية على طريق النمو، في خطوة أولى للانعتاق من براثين الفقر والحاجة.
فلم يستسغ ذلك صانع (سايس بيكو)، فهاجم بأذرعه العسكرية تلك المحاولات لشلها في مهدها، ولم يهد له بال ولم يستكن حتى تمكن من وأد هذا الوعي في بداياته، مع السنين الأولى لسبعينات القرن الفائت. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما استنسخ صوراُ مشوهه عن ذلك الوعي الوطني الأصيل، وبَتٌوها وزرعها في بعض من جغرافيات منطقتنا هذه، بهدف كىّ وتزيف وعي الناس، ولقد كان لنا نصيب من ذلك، جاءنا مع نهايات ستينات القرن الفائت عصف وعبث بالبلاد عقوداُ طويلة، استنزف خلالها قدراُ ليس بالقليل من الموارد والطاقات والوقت. هذه أحد الوجوه من المعالجات التي يتبعها هذا الانجلوسكسوني، لعرقلة وإجهاض أي بادرة إيجابية تبّتدِعها أو تُحاولها جغرافيات المنطقة، للخروج من مأزقها التنموي.
ولكن ثمت وجه آخر يعتمده هذا الانجلوسكسوني في التعاطي مع موارد هذه المنطقة، غير الاجهاض والعرقلة. فقد شاهدناه مع ثمانينات القرن الفائت، يستنفر المورد البشري في جغرافياتنا هذه، باسم الاسلام. فتداع الكثيرون خفافا وثقالا ملبّين النداء من سعوديين مع خليجيين وسودانيين على يمنيين ومصريين يليهم ليبيون وحتى فلسطنيون ناهيك عن الأردنيين. وزحف بهم بعدما انتظمهم فى كراديس صوب أفغانستان ليحرّرها ويُخليها من أعدائه السوفييت، بعدما صاروا خطراً يهدد البوابة الشرقية لجغرافية حلف الأطلسي. ثم نشاهده في وقتنا هذا صوتاً وصورة، يوظف هؤلاء في إجهاض وتطويع ثورات الربيع العربي بما يخدم مصالحه في المنطقة. وليزرع بهم الرعب في شوارع ومدن غريمه التقليدي بالغرب الأوروبي، الذي نعته في الأمس القريب بمُسمّى القارة العجوز.
ولم يكتف صانع (سايس بيكو) بوضع يده على الجغرافيات المُفيدة بمنطقتنا، ويوظف مواردها الهائلة في ما يعود عليه بالنفع والفائدة، بل ساند ودعم وشارك وبقوة في شتل المُشكل الصهيوني بأرض فلسطين، واحتضنها ورعاها حتى اشتد عُودها، وصارت تطرح لجواء يستوطن مخيمات قُدَتْ من بؤس تحيط بأرض فلسطين، فزاد بذلك المنطقة بؤساً على بؤسها، وكما يُقال بالليبي (زاد الخراء للنافس).
كنت أحاول أن أقول بأن (سايس بيكو) لم يأتي لتقسيم المنطقة، كما عودتنا وسائل الإعلام على ترديده، بل جاء ليضع اليد الانجلوسكسونية ويُمكنها من الجغرافيات المفيدة بمنطقتنا، لوظف هذا الانجلوسكسوني موقعها الجغرافي الجيد وبما تحتويه من موارد بشرية، وطبيعية، ومعنوية، فيما يعود عليه بالنفع والفائدة، بعيدا عن مصلحة هذه المنطقة بما تضمه من حيوانات وبشر وحجر، وهذا القول لا يخفى عليكم، بأنه يستبطن بالضرورة في تناياه، إجهاض كل بادرة وعي وطني، قد تستنهض وتستحث جغرافيات المنطقة نحو الامساك بزمام أمرها، والانطلاق به نحو توظيف هذه الموارد الهائلة الحجم فيما يعود عليها بالنفع والنماء.
كنت أود أن أصل بالقول بأننا نحن بسطاء هذه الجغرافيات الشرق أوسطية، نعي هذه الحقائق التاريخية وما سواها. وبالتالي -وفي تقديرنا- بأنها لا تخفى ولا تغيب عن نخب هذه المنطقة، التي تتصدر المشهد بجميع وجوهه، سياسي، ثقافي، اقتصادي، فكري… الخ. ولكننا نشاهدها ودائما تغفل أو تتغافل عن هذه الحقائق، وهي بعينها بيت الداء. ولا تضع منها مرتكز لها تتكئ عليه أثناء معالجتها وتناولها للشأن المأزم بالمنطقة. بل نشاهد العكس من ذلك، فهذه النخب في جلّها تعتمد صانع هذا (السايس بيكو) مرجعية لها وتستفتيه في كل شاردة وواردة. وتهرع للاحتماء بعباءته وبقبابه الصاروخية مع أول خطر مزعوم، وكأنها لم تشب عن الطوق وعمرها من السنين يلامس القرن من الزمان. فصرنا بذلك والحال هذه، يغمرنا إحساس من الرأس حتى أخمس القدم، بأن هذه النخب مصابة بما يُعرف (بمتلازمة استكهولم). ليس هذا وحسب بل شاهدنا حتى الهيئة الأممية في عهد أمينها السابق السيد بان كيمون، ربما لمُشاهدتها سلوك وتعاطي هذه النخب الغير مسؤول تجاه وطنها ومواطنيها. تذهب إلى وضع الملف الليبي تحت إبط هذا الانجلوسكسوني ليتولى أمره. وكأنها لا تعلم شيئا عن علاقة هذا الانجلوسكسوني بهذه المنطقة، أو أنها تتواطئ معه لإعادة إنتاج الماضي، الذي رفضته شعوب المنطقة وانتفضت عليه. والذي -أي هذا الماضي- وبكل المقاييس لا يتوافق من قريب أو بعيد في سلوكه وتعاطيه مع ما جاء فى ميثاق تلك الهيئة، التي تتخد من ذلك المبنى الزجاجي المطل على النهر الشرقي بمدينة نيويورك مقراُ لها، كما جاء في ،حد موسوعات السيد القُوقل.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً