النظام العالمي الذي نعيش فى كنفه ويتولى عبر خطوطه العريضة ضبط إيقاع الحياة فوق جغرافية هذا العالم البائس، هو حسب قراءتي فى حصيلته النهائية، ليس غير مجموعة من الترتيبات الدولية، التي أعقبت وجاءت بعد عدد من الوقفات المفّصلية من تاريخ عالمنا المعاصر، سعت واجتهدت هذه الوقفات، نحو وضع أسس وقواعد تنهض عليها آليات فى صِيّغ مؤسسات وهيئات ومنتديات إلخ.. لها القدرة على لجم وترويض -وعند الحاجة- انزلاق الصراع إلى مدارج الاقتتال والاحتراب، وانتشاله -عند الضرورة- إلى درجات أقل حدّة، كي تكون مّخرجات الصراع ذات مردود إيجابي على مسيرة الحياة، لأنه وبمختصر القول.. ليس في مقدور أحد تحّيد الصراع من دنيا الحياة، فهو حاجة ضرورية لها، لكوّن الصراع أو التدافع ليس غير الطاقة التي تحتاجها عجلات ودواليب الحياة للحركة للدوران والتقدم نحو سيرورتها.
ويستطيع القارئ في صفحات التاريخ المعاصر، أن يحصر هذه الوقفات المفّصلية ومن خلال وقائع التاريخ، التي رسمت خط مسيرة ماضيه، ويُفقطها في وقفتين جاءتا بعد نهاية الحربين العالميتين الأولى والثانية، ووقفة ثالثة جاءت مع تداعي جدار برلين وانهيار المنظومة السوفيتية، التي عُرفت بنهاية الحرب الباردة، وها هو العالم يمر بمرحلة مخاض قد تنتهى بوقفة رابعة، قد يُعيد فيها صياغة جديد للنظام الدولي.
ونستطيع حصر الترتيبات الدولية التي مر بها العالم مند نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا، والتي صاغت وتبلور على يدها النظام الدولي، الذي نُعايشه ويضبط إيقاع الحياة في خطوطها العريضة على جغرافية هذا العالم البائس، في ثلاث نماذج رئيسية، قد صاغت وشكلت الإطار الرئيسي لِما تعارفنا عليه بمُسمى النظام الدولي، فقد نجحا اثنين من النماذج الثلاث في ما جاء من أجل تحقيقه وتحققه كواقع ملموس على الفضاء الجغرافي للعالم، الذي مثل رقعة الركح، لما كان كل نموذج من النماذج الثلاث، يسعى ويجتهد بكل قدراته نحو إخراجها في مشاهد حيّة عاشها العالم، ولازال يعيشها في بعض من جغرافياته.
أول هذه الترتيبات الدولية، التي نجحت على نحو إيجابي في ما جاءت من أجله، هي تلك الترتيبات تولت معالجة جغرافية غرب ـوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد كانت في صيغة حملت مُسمى مشروع إعمار أوروبا، وكان ذلك الإعمار قد تحقق على أيادى ما سُمى بمشروع مارشال بصيغته الأمريكية، فقد تمكن به الغرب الأوروبى من النهوض من تحت ركام الحرب، ومن ثم شرع في الاندماج كمفردة رئيسية من مفردات العالم، التي شكّلت وتُشكل الحياة وتدفع بها نحو الأمام نحو التقدم، ومن الشواهد الساطعة على ما تقدم، تظهر في ما ناله أبناء القارة الأوروبية من التكريم وفي جميع المجالات العلمية على يد الأكاديمية الملكية السويدية، المشرفة على إعداد وإدارة مراسم جائزة نوبل.
وقد نضيف إلى ذلك أيضا، ما نعتبره المخاض إلى جاء من رحم الغرب الأوروبي في هيئة ثورة 68م الطلبية، التي جاءت احتجاجا وسعيا نحو صياغة منظومة قيميّة جديد، فكرية، ثقافية، سياسية إلخ.. غير تلك المنظومة التي كانت سائدة حينها، والتي جرّت العالم وانتهت به إلى حرب كالحرب الفيتنامية، وقد نضيف إلى هذا النجاح الذي جاء نتيجة لتلك الترتيبات الدولية التي تولت جغرافية الغرب الأوروبي بعد نهاية الحرب الثانية، ما ظهر في ذلك النضج الإنساني الذي دفع بالغرب الأوروبي نحو عدم القبول بالانجرار إلى الحرب التي طالت دمرت العراق، واشترط الغرب الأوروبي على الغرب الأطلسي المُتصدر والداعي لتلك الحرب، إصدار تفويض من الهيئة الأممية يُقر تلك الحرب ويؤكد شرعيتها.
وعلى المستوى الداخلي للغرب الأوروبي، جاءت ترتيبات الإعمار وأثمرت نضج أوروبي، سعى نحو التأسيس لقاعدة اقتصادية موحدة للقارة، من خلال إنشاء شركة الفحم والحديد والصلب، التي انتهت وتوّجت ببناء سوق أوروبية مشتركة، ونهض على إثرها الاتحاد الأوروبي والعملة الأوروبية المشتركة، ومن ثم انفتحت القارة على كياناتها عبر اتفاقية شنجن، وفي تقديري، إن هذا النجاح الإيجابي للغرب الأوروبي، يرجع إلى عدم تجاهل الواقع الجغرافي الديمغرافي للقارة، واعتماده أحد الأسس التي نهضت عليها الترتيبات الدولية، التي تولت معالجة الفضاء الجغرافي للغرب الأوروبى بعد الحرب العالمية الثانية.
والصيغة أو النموذج الثاني للترتيبات الدولية الناجحة في تحقيق الغرض الذي أتت من أجله، هو النموذج أو الصيغة التي تولت معالجة الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب المتوسط، وقد جاءت على يد إنجليزية تحت مُسمى مشروع سايس – بيكو، فقد نجحت هذه الترتيبات على المحافظة على ديمومة واستمرار المشروع، الذي قارب عمره قرن من الزمان ولا يزال بكامل حيويته، فالتخلف الذي جثم ولازال على هذا الفضاء الجغرافي الواسع، والحروب التي عصفت به وتخطت العشرة في تعدادها، ناهيك عن القلاقل وعدم الاستقرار التي ضربت وعصفت ولا تزال بفضاء شرق وجنوب المتوسط، والتي كانت وَبَالا على الحياة في جميع أبعادها الإنسانية والإنمائية على جغرافيات هذا الفضاء، وهذه لا تعتبر أو تعدْ وتُحسب كنقاط سالبة في حصاد الترتيبات الدولية، التي جاءت على يد الإنجليز لترّسيخ وتجذير مشروع سايس – بيكو في هيئة منظومة وظيفيه عميقة في هذا الفضاء الحيوي، بل يحسب كل ما عددناه له وليس عليه، فمُجمل ما عددناه لا يخرج عن المواد والأدوات والمفردات، التي تتشكل منها الطاقة التي تحتاجها وتحيى وتدار بها عجلات مشروع سايس- بيكو حتى يومنا هذا.
وقد يكون من أحد الشواهد الساطعة في وقتنا الحاضر على ما ذكرّته سلفا والتي نحسها نلمسها من على الجغرافية الليبية تحديدا، إصرار هذه المنظومة العميقة على التشبث بثنائية شرق البلاد غرب البلاد من طرف عرّبها من بيده إدارة شئون الملف الليبي داخل مجلس الأمن، والتي وبهذه الثنائية تستمر ديمومة وحيوية التأزم العابث والمُسفِه لحيثيات حياة الناس بليبيا، فالمهم في هذه الترتيبات الدولية استمرارية وديمومة المشروع التي جاءت من أجله، وليس غير ترسيخ مفهوم النفوذ ومناطق النفوذ، حتى وإن جاء هذا على حساب البُعد الإنسانى الإنمائى للحياة وتكريمها لآدمية الإنسان الذي يسعى في جنباتها فى هذا الفضاء الجغرافي الحيوي وفي غيره.
أما الصيغة أو النموذج الثالث فقد جاء على يد المنظومة السوفيتية وتناولت جغرافية الشرق الأوروبي، الذي استطيع القول عن هذا النموذج، بأنه عجز عن الصمود في مُشاغلته لمعّترك الحياة، وفي تقديري يرجع ذلك إلى طرحه الطوباوي الذي يتعارض مع جوهر الحياة في مُجملها، وقد ينّعكس ذلك، في ما جاء في بعض من سرديات ـدبيتها كقولها (كُل حسب جهده ولكل حسب حاجته)، وهذا لا يتوفق مع السرديات العملية للحياة الدنيا، وقد ينسجم مع الحياة في عدن، ولكن وفي كل الأحوال ليست عدن اليمن السعيد.
كنت أحاول الوصول إلى القول من كل ما تقدم، على العالم المتجه نحو إعادة النظر في صياغة جديد لنظامه الدولي، أن يستدعى إلى طاولة الدولية، أثناء تناولها تداول التأسيس للنظام القادم، الترتيبات الدولية، التي تولت بمعالجاتها جغرافية الغرب الأوروبي، لتكون حاضرة وبقوة في أجواء النقاش والحوارات المكتوبة والمتلفزة وفي داخل المنتديات وبالقاعات وخارجها إلخ.. هذا إذا كان العالم جاد ويسعى إلى مقاربة تؤسس للآمن وسلم الدوليين، ويكون استدعاء المقاربة الدولية لإعمار غرب أوروبا، مقرونة ومصحوبة بالمقاربة الإنجليزية التي جاءت إثر الحرب العالمية الأولى لفضاء شرق وجنوب المتوسط عبر صيغة سايس- بيكو لكي يستفيد من هذا التضاد الذي ظهر على وفي مخرجات المشروعين، فاحدهما أُسس على قاعدة الإعمار، فأثمر نهوض ونمو وتقدم، فشارك بذلك في الدفع بعجلة الحياة إلى الأمام، وجدر أمن وسلم دوليين ساد هذا الفضاء الجغرافي، والآخر نهض على قاعدة التأسيس للنفوذ ومناطق النفوذ، فأثمر تسّفيه للحياة في بُعّديّها الإنساني والإنمائي، فكان حصادها حروب وقلاقل وتطرّف، عصف ولايزال بالحياة سلبا في المحلي والإقليمي والدولي.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً