لا يجب تحّميل الرجل أكثر مما يجب، ففي ذلك مجانبة للصواب، واستخفاف بالعقول، وبُعد عن العدالة المتوخاة. فهو ليس كصلاح نصر في زمن عبد الناصر، ولم يكن كإدريس البصري في مملكة الحسن الثاني. فهؤلاء رجال كانوا من ضمن كوادر دول تُدِيرُها مؤسسات ذات كيان تنظيمي محكم، ويُشكل مجمل هذه المؤسسات المتساندة في نهاية المطاف ما يسمى بالدولة، دولة عبد الناصر في مصر الخمسينات او مملكة الحسن الثاني في المغرب الشقيق.
وبقول آخر، ان هذه المؤسسات لها كوادرها البشرية، وجهازها اللوجستي وتصوراتها وخِططها، وخبرائها ومستشاريها، وجهازها التنفيذي وملاحِقه، وما إلى ذلك. وبهذا تتولى تلك المؤسسات كل المهام التي تسند اليها، وتتحمل تبعات ما تقوم به، وبصيغة اخرى، ستقوم هذه المؤسسات بدراسة كل المهام التي تكلف بها، عن طريق مُديريها وخُبرائها ومُستشاريها، وبهم تضع التصورات والخطط التنفيذية، التي بها تتعين تلك المهام على ارض الواقع في عمل ملموس، تتحمل تبعات نتائجه سلبا وايجابا تلك المؤسسة، ويكون لمديرها الحصة الاوفر في ذلك. أما ليبيا سبعينات القرن الفائت، فقد اٌريد لها، وجه اخر من الادارة، تُسيّر بها شئونها، اٌستدعيت آلياته من الماضي، وتحديدا من مٌخلفات ما قبل الدولة. وان شئتم، من المفردات التي تتشكل منها آلياته تلك الادارة العتيدة، خيمة يتوسطها شيخ القبيلة مُحاط بٍذويه واتباعه وحلٍيفه القًبَلي، وكل ما يتطلب هذا، من ملحقات تكتمل بها الصورة.
هذه التوّليفة الرجعية – في تقديري – هي من اتت (بالرجل) إلى الموقع الذي احتله في المشهد الليبي على امتداد اربعة عقود من الزمان، كرابط وحلقة وصل بين الشيخ والقبيلة وحلفائها واتباعه. فقد كان الامتداد الاجتماعي لهذا الشيخ في قبيلته، مُتماهى حتى الذوبان في الصف القبَلي الثلاثي التركيب الذي يضمه. ولضرف بنيوي هيكلي داخل هذا الصف القبلي، كان لزام على هذا الشيخ، ان يسلك اسلوب غير تقليدي في ادارة غير مباشرة، يسير بها هذا الصف القبلي ويوجهه، فكان بذلك الوسيط او الرابط، الذي يمتل حلقة الوصل التي من خلالها يمرر كل تعليماته في اوامره ونواهيه الى كيانه الاجتماعي هذا. خاصتا ادا علمنا بان هذا الصف القبلي الثلاثي التكوين، يخضع الى تراتبية صارمة. قمة. وسط. دنيا. شكلتها عقود من الزمن، طبعت بها – في تقديري – شخصية هذا الصف القبَلي على نحو أزلي، لا فكاك منها، الا بتصدّع هذا الصف او تشضّه. فعندما جاء انقلاب 69م بالعسكر مرحليا الى ادارة شئون البلاد، وكانت فيه تلك الاحذية الضخمة مطية للخيمة، حيت تمكنت بها هذه الاخيرة، من ضرب اطنابها على اتساع رقّعة ليبيا الجغرافية.
كان من الطبيعي، ان تطال تداعيات ذاك الانقلاب بعصّفة تنسف وعلى نحو تلقائي، تلك التراتبية الصارمة لذاك الصف القبلي. وتقّلبها رأس على عقب، فتجعل من اسافِله اعالِيه، من اعاليه اسافله. هذه العصفة، هي بعينها من استوجبت الابتعاد عن الادارة المباشرة لهذا الصف. والذهاب الى الوسيط الرابط. فلا خيار او بديل عن هذا الرابط الوسيط، لأنه لا خيار او بديل البتة عن هذا الصف. لأنه قُدِر لهذا الصف، ان يكون الركيزة والدراع والسند المستقبلي، الذي سيتكئ عليها رأس نظام الخيمة في ادارته للبلاد خلال العقود الاربعة المقبلة. من هنا جاءت الحاجة الى وسيط او رابط مُخّلصْ وامين. فكانت بذلك (الوظيفة) و(الموقع) فكان (الرجل) موضوع حديثنا. كنت احاول ان اقول، بان الرجل لم يكن في الاساس دراع تنفيذي، تحت قبضته وحدات من القوات الخاصة تأتمر بأمره، او يترأس جحفل امنى معدّ ومجهز لتنفيذ مهام استثنائية، بقدر ما كان الرجل ناقلا مُخّلص وامين للتعليمات والاوامر، الصادرة من رأس نظام الخيمة الى ادرعه التنفيذية القبَلية الباطشة لا غير. من هنا اقول لا يستطيع العقل ان يُصدق ويقبل تحّميل اوزار قتل الالف من البشر، لرجل ليس تحت يده اداة تنفيذية تأتمر بأمره، في شكل قوة خاصة، او مُجحفل امنى معدّ لتنفيذ مهام ما فوق العادة. فالمهمة -وللأسف الشديد- لم تقتصر على قتل فرد او اثنين بل تعدتها بكثير.
وهنا يأتي استفهامنا المشروع، الذي يقول: هل، ولكي ينجوا الفاعلين بفعّلتهم، وربما للحظوة التي ينالونها عند الاخرين في الداخل والخارج. دُفِعَ بالرجل الى المِحّرقة؟ ليسّتتر هؤلاء بدخانها، الذي قد يغّشى ويحجب بصر وبصيرة العدالة عنهم. ففي تقديري، ان جميع القضايا المتعلقة بمرحلة الاربعة عقود الماضية، والتي تُفّرش امام القضاة، يجب تقّليبها على وجوه عدة، والنظر في مُحتواها بعمق، ولا يجب النظر اليها على نحو تقليدي نمطي، كي نصل الى الالية التي بها نلج الى قاعة الحقيقة الفسيحة، التي وبالضرورة تفضي بنا كل ابوبها الى العدالة المُرّتجاة. كي لا يُظلم أحد، ولا يُحمل أحد اوزار غيره.
أقول هذا أولا، لأنه في تقديري، ما قدَمْته فيما سلف، هي القراءة الموضعية للرجل ووظيفته، من واقع المرحلة التي صُرفت بها امور البلاد بعقلية الشيخ ا القابع تحت خيمة، المحاط بِذويه وصفه وحليفه القبلي واتباعه. وثانيا فقد قرئت على شاشة (النت) ما قدمه الرجل الى هيئة المحكمة، ما يوضح فيه وبه، بأنه ليس بالقدر السيئ الذي يُصَوًر به، أثناء تعاطيه مع احداث انتفاضة فبراير المجيد. واستدل بأحداث كُلف بتنفيذها، وتجاهلها عن قصد لضِنّه، لو ثم تفّعيلها لتسببت في خسائر كبيرة، ويتضرر منها اناس كُثر. واعتقد بأنه كان صادقا في كل ما قاله، فقد كنت قريب وشاهد عيان من حادثه ذكرها في حديثه ذاك. والتي تناول فيها، تَلَقِيه امر وتَكّليف بالقبض واعتقال (جماعة الشنارات) بمنطقة سمنو بالجنوب الليبي، فتجاهل الرجل الامر واوقفه، فقد كنت قريب من هذه الجماعة التي تحدث عنها.
فمع الايام الاولى لانتفاضة فبراير، قامت المثابة الثورية بالمنطقة كما بقية المناطق، بتنظيم ملتقيات استنهاض. وَسيّرت مظاهرات ترهيب تجوب الشوارع، ولكن هذه الجماعة التي تحدث عنها الرجل. لم تُشارك وتتفاعل على نحو إيجابي مع هذه النشاطات، بل اعترض شباب هذه الجماعة أحد هذه المسيرات التي كانت تمر بالقرب من بيوتهم واشتبك معها بالأيادي، وتجاهلت هذه الجماعة كل الايعازات والتلميحات، التي تدعوهم الى نصب اعلام خضراء فوق سطوح بيوتهم، بل وعندما حاول بعض من اللجان الثورية نصب علم اخضر في وسط الحديقة العامة بمنطقة سكناهم، اعترضه الشباب ومنعوهم عن ذلك.
وقد عَمّتْ القرية مناشير تحرضيه، تستثير وتستحث الناس وتستنهضهم على اولئك المرتزقة الملونين، الذين اتى بهم النظام، من بلدان جنوب الصحراء، أثناء الانتفاضة، وتَعسّكرَ بهم داخل محطة الكهرباء بالمنطقة، وسيَرهم في دوريات تجوب القرية ومحيطها. وكان يُعتقد بان هذه الجماعة كانت من وراء هذه المناشير المُحَرِضة. كل هذه الأحداث التي ذكرتها سلفا. تؤكد وترجح صدور امر وتكليف بالقبض واعتقال هذه الجماعة، لآنه توجد مسببات علنية وخفية، تسّتوجب ذلك، وفى وقت عصيب، لا يجب ان يُسمح فيه بظهور ببوادر ارهاصات لعصيان او تمرد. وفى الخاتمة اقول وبإيجاز شديد، في اعتقادي بان الرجل قد حُمِلَ – وبخبث كبير- اوزار غيره، وفى ذلك ظلم يجب الا يكون، وتملّص لفاعلين، يجب الا يَمرْ..
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً