“في إيران.. لم تعد مسألة غياب أو تغيير رئيس الدولة أمر جلل.. فالدولة هي من يصنع الرئيس.. وليس الرئيس هو من يصنع الدولة”
اختفت عن السماء والأرض ظهر التاسع عشر من مايو 2024 طائرة الرئيس الإيراني الراحل (إبراهيم رئيسي) ورفاقه أثناء رحلة عمل قادته إلى أذربيجان ثم إلى رحلته الأبدية.. عاشت الدولة النووية (العصية) على سياسات الغرب 16 ساعة كاملة بدون رئيس بشكل غامض ومحير و(مخجل) دوليا.. حيث لم يعرف مصير للرئيس.. لكن الدولة (كمؤسسة) ظلت تعمل ولم ترتبك أو تتعطل أو تقاتل أبنائها.
إنتاج الرئيس في جمهورية إيران (العتيدة) برغم الرائحة (الثيوقراطية) يتم بعملية شديدة التعقيد والتراتبية.. تحتضن مراكز القوى وتمر عبر هياكل سياسية وأمنية واجتماعية وقضائية مترابطة بإحكام.. خارطة طريق متشعبة من المؤسسات السيادية تستوعب الهوية والتاريخ والتراث والمحاكاة لنظم التداول السلمي على السلطة.. مجلس لشئون الدستور وآخر لمتابعة وتقييم النظام السياسي ويوازيه مجلس لكبار الخبراء.. نفق طويل لكن نهايته تفضي إلى ضوء.
فمنذ (فبراير) 1979 صارت مسألة الجلوس على كرسي الرئاسة الإيرانية أمر روتيني (إداري) يحدث كل 4 أعوام.. خروج الرئيس من سدة الحكم لا يشكل معضلة فالدستور حسم المسألة مبكرا.. وبرغم أن رحيل الرئيس الثامن للجمهورية الإيرانية (رئيسي) مؤخرا يلفه كثير من الغموض والحيرة.. لكن إنتاج رئيس جديد منتخب لا يعترضه أمر ويسير بشكل دستوري تراتبي متفاهم عليه.
على عكس جيرانها على الضفة الغربية من الخليج من العرب (الأقحاح) أصحاب (الفخامة) والأنظمة السياسية العائلية (التوارثية)، تدار إيران بمنظومة سياسية بنيوية ذات تصميم وابتكار محلي قادرة على تجديد دمائها عبر الالتزام بتنظيم الاستحقاقات الانتخابية في حينها.. مع الإبقاء على نخاعها (الإيدولوجي) ذي الجذور الدينية ممثلا في المرجعية والمرشد.. هذه الخلطة العجيبة الصامدة والمستديمة منذ تغيير (فبراير) 1979 تمكنت بها دولة الثمانين مليون نسمة من مجابهة تحديات محلية وإقليمية ودولية كبرى من القلاقل والحروب والصراعات والعقوبات.. وصارت رقما لا يمكن تجاوزه في المعادلة الإقليمية والدولية.
يقطن طهران وحدها 15 مليون نسمة وهو أكثر من ضعف سكان ليبيا.. لكن (فبراير) إيران نجح في إنتاج دولة لها مشروع ورؤية.. بينما فشل (فبراير) ليبيا على مدى 13 عاما في إنتاج مشروع تلتف حوله الأمة الليبية الممزقة والمنهكة منذ 70 عاما.. كان أمام ليبيا (فبراير) فرصة لإطلاق مشروع تطوير أو إنقاذ أو المحافظة على ما هو قائم من بقايا دولة.. لكنها أخفقت بشكل مدوي في أن تتصالح مع ذاتها وتنطلق.. استل المنتصرون (سريعا) سيوف الانتقام وحرق الماضي على حساب التأسيس للجمهورية الليبية الثانية.. الدستور تم وأده مبكرا وبقي كبحث تخرج بأرفف المكتبة.. والانتخابات الوحيدة (المؤتمر الوطني) 2012 و(البرلمان) 2014 انتجت أجسام مضادة للانتخابات.. ومؤسسات الدولة انشطرت ما بين (أنانية) طرابلس و(مشاكسة) بنغازي و(سبات) سبها.. واقتصرت جهود مكافحة الفساد الضارب بأطنابه كل ثنايا الدولة على (هيئة) تتنازع الشرعية الشرقاوية والغرباوية.. وأصبح الحديث عن السيادة الوطنية أمر يثير الخجل والسخرية للشعب المغلوب على أمره.. ويحرج الساسة المتنافسين على تجيير العمالة.
كان بإمكان ليبيا (فبراير) تفادي هذه النتائج وهذا الواقع الذي صنعه اللاعبون الخارجيون (بقصد) والمحليون (ببلاهة).. شكَّل (فبراير) من ليبيا حالة متأخرة للتحول الديمقراطي ومأزومة غير قادرة على إفراز مشروع وطني لإعادة بناء دولة جامعة مستوعبة للتناقضات المحلية.. يقظة للتحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.. مضى عقد من الزمن ولا زالت ليبيا تتخبط في دوامة مجلسي النواب والدولة في إخراج قوانين تسرع من نزول الرئيس الليبي (المنتظر).
بعد 35 عاما من استسلام القيادة الإيرانية للواقع آنذاك بقبول قرار الأمم المتحدة بوقف حرب الخليج الأولى أو حرب الثمان سنوات مع العراق (1980 – 1988).. تحولت إيران اليوم إلى المرجعية واللاعب الأساسي في قرار أبرز العواصم العربية تاريخا وحضارة (الشام والعراق واليمن) وصارت المراسيم الرئاسية والمصيرية في بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء وحتى (غزة) تحال منها نسخ إلى طهران للمشورة.
بينما على الجانب الآخر المعاكس فلابد للدوحة وأبوظبي وأنقرة والقاهرة وغيرها مراجعة قرارات ليبيا المصيرية.. ليبيا (فبراير) استسلمت للسفراء وموظفي البعثة الأممية وسماسرة الأزمات السياسية.. وصارت نادي قمار للأمريكان الأوصياء على نفط وأموال الليبيين (الميزانية) وتبويب أوجه إنفاقها.. وانحدرت ليبيا إلى تابع لدول دونها دورا وتأثيرا ومواردا ومكانة.. وسط فتاوي (سياسية) لشرعنة التدخلات في الوطية ومصراتة ورأس إجدير والمجال البحري.. وإنشاء الفيلق (الليبي) المزعوم لإخراج الفيلق الروسي (المزعوم) من براك الشاطئ وسرت والجفرة والويغ وصحراء فزان.. وشتان ما بين فبراير الذي أرسى مشروع دولة.. وفبراير الذي أسس حالة اللادولة.. فهل صنعت ليبيا فبراير.. أم فبراير هو الذي صنعها؟
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً