بعث الله عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل نبياً ورسولاً، وقامت رسالته على توحيد الله وإفراد الألوهية والربوبية، ودعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده، ومطالبتهم بالإيمان بأنه عبد الله ورسوله، أرسل الله عيسى بكل البينات والحجج الشاهدة على صدق دعوته؛ من إحيائه للموتى، وإبرائه الأكمهَ والأبرص بإذن الله تعالى، ومع ذلك كفر بنو إسرائيل بدعوته وأنكروها وأصبح ذلك بارزًا وواضحًا وظاهراً، ولذلك أحسه عيسى عليه السلام ببدايته بعدما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر والتي تشهد بأن الله وراءها، وأن قوة الله تؤيدها وتؤيد من جاءت على يده، ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف عندئذ دعا دعوته.
هنا دعا عيسى عليه السلام أتباعه الحواريين إلى نصرته لما رأى كفر معظم بني إسرائيل قال الله تعالى:﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 52-53].
﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾: من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه؟ (قطب، في ظلال القران، 1/401).
أي من الذين رضوا أن يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين يحاربون دعوتي على أن يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى يبغون غير رضاه، وهذا التخيير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة:
المعنى الأول: أن الأكثرين لم يكونوا مؤمنين ولذلك عبر بقوله: فنسب الكفر إليهم وذلك ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلّة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح بقوله: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾.
المعنى الثاني: الذي يشير إليه النص الكريم: أن السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودًا بالأذى وأن الدعوة الحق أصبحت مهاجمة من تلك الكثرة الساحقة، ولذلك طلب أن يكون له نصراء يجعلون الحق منعة وقوّة من جهة، ويكونون مدرسة الدعاية له والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.
المعنى الثالث: الذي يشير إليه النص هو: أنّ النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله والاتجاه إليه وتفويض الأمور إليه، فإنهم إن كانوا قليلاً فهم بمعونة الله كثيرون: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾: الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام أخلصوا له، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده وكان الحواريون من خاصة عيسى عليه السلام، وقد صفت نفوسهم وخلصت من أدران الدنيا وأهوائها بفضل الله ثم صحبتهم لعيسى عليه السلام، وقد أجاب الحواريون عيسى عليه السلام عندما أخذ يبحث عن النصراء.
(نَحنُ أَنصارُ): وهم بذلك بيّنوا اهتداءهم لأمرين:
1 ـ الأمر الأول: أنهم علموا أنه يتكلم عن الله وأنه رسول أمين ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى ولذا قالوا: (نَحنُ أَنصارُ اللَّهِ) ولم يقولوا: أنصارك.
2 ـ الأمر الثاني: أنهم فهموا أن نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى حتى تكون خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى. (أبو زهرة، زهرة التفاسير، 3/1237).
﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *﴾: فهذا النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة الله تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه، قالوا أي: امنا بأنه الواحد الأحد الفرد ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ﴾، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه خلق الأشياء بإرادته المختارة وبقدرته الفعالة، ولم توجد عنه الأشياء وجودَ المعلول عن العلة والمسبب عن السبب، كما يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى وإخلاص نيتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *﴾ ، إنَّ الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى أن يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون، أي: مخلصون قد أسلموا وجوههم لله رب العالمين وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وإن ذلك فوق أنه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم، وقد خاطبوا بهذا الخطاب نبي الله تعالى مجيبين دعوته ملبيين نداءه معلنين نصرته. (أبو زهرة، زهرة التفاسير، 3/1237).
وقد جهروا بإيمانهم بالله وطلبوا من نبيهم عيسى عليه السلام أن يشهد لهم أمام الله بأنهم مؤمنون مسلمون أنصار الله، وقد طلبوا منه أن يشهد لأنهم يعلمون أن شهادته لهم عظيمة عند الله، ثقيلة في ميزان الله، لأن رسول الله الشاهد الشهيد عليهم وتصريحهم بأنهم مسلمون؛ لأنهم آمنوا بعيسى عليه السلام ودخلوا في دينه وبذلك يكونون قد استسلموا وخضعوا ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *﴾، لأن الإسلام ـ في معناه العام ـ هو الخضوع المطلق لله، واعتبارهم مسلمين دليل على أن كل نبي جاء بالإسلام، وأن دين كل نبي هو الإسلام، وأن أتباع كل نبي مسلمون، وهذه الآية صريحة بأن عيسى عليه السلام جاء بالإسلام، وأن دينه هو الإسلام، وأن أتباعه هم المسلمون فها هم الحواريون يصرّحون قائلين ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *﴾. (الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، 4/319).
ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى ضارعين إليه قائلين:
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾: وقد صدَّروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل، وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم، وتقديم شكر المنعم، ثم الاعتراف بالربوبية الحق يطوي في ثناياه الاعتراف بالألوهية الحق، لأن كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية، ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية، ثم بعد الضراعة بلفظ الربوبية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل، فقالوا َ؛ أي: صدَّقنا تصديق إذعان وتسليم هداية بما ﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ﴾، وما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات، فالإيمان الصادق يقتضي العمل، لأن العمل يدل على كمال الإيمان، ولأن المخالفة من غفوة الإيمان، وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما أنزل لهم بعد ذلك في ضراعتهم: وهو عيسى عليه ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾، واتباع الرسول يكون بالعمل بهديه والأخذ بسنّته. (أبو زهرة، زهرة التفاسير، 3/1239).
وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربّهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته أن يقوي الله سبحانه وتعالى إيمانه وأن ينقلهم من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الذي يصل إلى درجة تشبه المشاهدة، ولذا قالوا: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ *﴾ أي: إذا كنا قد امتلأت قلوبنا، وألوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي أن نكتب مع الشاهدين، ومن هم الشاهدون؟ هم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية، الذي قال في أمثالهم محمد (ﷺ): اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فهذه مرتبة من الإيمان والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان، وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأنقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل أن هؤلاء الأنقياء طلبوا أن يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم، وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.
أحسَّ عيسى عليه السلام بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم، ولذلك اتجه إلى أن يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون منهم مدرسة الحق، وأخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها واكامها هاديًا مرشدًا باعثًا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكنهم جحدوا بالحق بعد أن ظهرت أماراته وقامت بيناته، ثم أخذوا يحولون بينه وبين هدايته، ودعوة الحق التي يدعو بها، ولما رؤوا أن نور الحق يزداد انتشارًا، قرروا أنه لا بدَّ أن يقطعوا حركته نهائيًا بتدبير الشر لشخصه، ويستفاد من الإشارات القرآنية أنهم حاولوا قتله، ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم، ولذا قال تعالى بعد أن بلغت دعوة الحق أقصاها وأعلاها.
﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾: أي أن هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم، وراه عيانًا منهم بعد أن كوّن فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، وأخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه أو على دعوته، والمكر كما يظهر من عبارات القرآن: هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به، ولذا نسب المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يكون عمل لله تعالى إلا خيرًا، فمكر الفجار لإيذاء الأبرار لا يمكن أن يكون خيراً، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لا يتصور إلا أن يكون خيرًا. وقد دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام، والله دبر حمايته، وقد تمَّ ما أراد الله تعالى ولذا قال تعالى: والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار (أبو زهرة، زهرة التفاسير، 3/1241).
وفي قول الحواريين دعاء من الأعماق أن يكتبهم الله مع الشاهدين ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ*﴾، أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حياة لهذا الدين، وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة، وإقامته مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج ولو أدّوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من (الشهداء) على حق هذا الدين. وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام، فهذا هو الإسلام كما فهمه الحواريون وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقين. (قطب، في ظلال القرآن، /402).
لقد تحدثت الآيات الكريمة في القرآن الكريم عن أهم صفات الحواريين وهي:
- الإيمان بالله ورسوله.
- اعترفوا بالإسلام دينًا ورسالة إلى الناس.
- ثم أنهم كانوا مسلمين مستسلمين لله سبحانه مطيعين تعليماته مجيبين لنداءاته.
- ثم أنهم طلبوا من عيسى عليه السلام أن يكون لهم شاهدًا عند الله يوم تشخص فيه الأبصار ويقوم الناس ليوم الحساب.
إن هذه الصفوة تتلمذت على يد السيد المسيح وعرفت منه أحكام التوراة التي نزلت على موسى، وكذا تفاصيل ما جاء به الإنجيل، كما انتهلوا منه عليه السلام التقوى والزهد والجهاد والصبر والعزم، وانتشروا من بين الناس لنشر أحكام دين الله تعالى والتبليغ بشريعته الغراء.
إنَّ عيسى عليه السلام قد أعدّ هؤلاء النخبة ورعاهم بتربية خاصة، ومحّصهم وهيأهم للمهمات الدعوية، وجعلهم ذراعًا يتحرك بهم، وعينًا تسهر على رسالة الله سبحانه، ولسانًا يحاور ويجادل في سبيل الحق، ويدًا يضرب بها أعداءه، وإيمانا ورجالاً ربانيون يسيحون في الأرض ويتفقهون بحبل الله ومنهجه.
إنَّ بناء النخبة ضرورة رسالية وخاصّة عملية حركية وعدّة موضوعية لابد منها في كل زمان ومكان لقادة التغيير وأبطال الصراع من أجل المثل العليا، فهم نواة الحق، وخميرة الهدى، وعدّة أهل الإيمان، وهذا ما سبق أن اتّخذه موسى عليه السلام منهجًا من قبل عيسى، فقد كان الأصحاب في عهده، وكذلك رسول الهدى محمد (ﷺ)، فقد اتخذ الأنصار والأصحاب في عهده، ذلك أن الأبرار من النخب تعني المنتخبين من العامة وصفوتهم وعصارة المجتمع وأهل الرأي والتقوى والعزم والاجتهاد فيهم فضلاً عن الصلاح والاستقامة في كل المقاطع الدعوية، وتمثل النخب ذراع القيادة الرسالية وأداتها الضاربة في عملية التغيير والتبليغ، وحلقاتها الموصولة مع الأمة والعامة، ولذلك فإنها تشكل أداة فاعلة وعونًا أساسيًا لحملة مبادئ الحق في كافة المراحل ومختلف العصور.
إن من دواعي النجاح اعتمادُ هذا النهج قدوة، ونعني به الاقتداء بأنبياء الله ورسله واقتفاء بتجاربهم وتأسيًا بالقويم من الأساليب، وكل أساليب رسل الله قويمة تهدي إلى الرشد وإلى صراط مستقيم. (الراضي، في رحاب قصص الأنبياء والرسل، 2/556).
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب ” المسيح عيسى ابن مريم “، للدكتور علي الصلابي.
المراجع:
- في ظلال القرآن، سيد قطب، القاهرة: دار الشروق، ط 38، 1430هـ، 2009م.
- زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، القاهرة: دار الفكر العربي، 2008م.
- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الدين الخالدي.
- في رحاب قصص الأنبياء والرسل، عبود الراضي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1435هـ، 2014م.
- المسيح عيسى ابن مريم، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2019م.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً