لقد ذهبت في الجزء الاول من هذا المقال، بالقول، بأن الغرب الدولي، ليس غرب واحد، كما درج الاعلام بجميع وجوهه، تسّويقه لنا، بل يصير غربين اثنين، ويتمايز بعضه عن بعض عند اقترابه ومقاربته وتفاعله مع هذه البقعة، التي تحتوينا وتضمنا جغرافياتها بالشمال الأفريقي والشرق الاوسط.
وارّجعنا ذلك لعاملين اثنين.. اولهما خارجي، يتمثل في المشترك الجغرافي والثقافي للبحر المتوسط، الذى يجمع الغرب الأوربي، بهذه البقعة الشمال افريقية الشرق الاوسطية.
ويفتقد هذه الخاصية وجهه الاخر، الذى اسّمينه بالغرب الأطلسي، وتناولنا ذلك في الجزء الاول بقليل من التوضيح.
وتمت في تقديري عامل ثاني يُشارك في صناعة هذا التمايز، وهو ذاتي، يتغلغل في كيان هذا الغرب الدولي، ناتج عن متراكمات تاريخية عبر سنين طويلة من صارع وتدافع انتهى بالحرب العالمية الثانية، ليُرسخ ويجعل للغرب الدولي، وجهين اثنين، ولكن ليس لعُملة واحدة.
وانتج هذا الصراع والتدافع الذاتي خلال حقبته التاريخية، قرائن دالة على ذلك، نستطيع ملامستها في أدبيات ومقولات تلك المرحلة. منها ما صكه جناحه الإنجليزي في (نحن في انتظاركم والحيتان)، او في مسمى (القارة العجوز)، الذي صاغه وجهه الأمريكي في الامس القريب، غامزا بذلك في قناة القارة الاوربية، عندما لم تجاريه في الذهاب نحو حرب لتدمير العراق، واشترطت لذلك ضرورة المرور عبر الهيئة الاممية.
ناهيك عن الاوربيين، فهم دائما يرون في من لا يقف على تراب قارتهم، ليس بالأوربي. وهذا العامل الذاتي رسخ حالت التوجس بين الطرفين، الغرب الأوربي والغرب الأطلسي وخاصتا الوجه الانجليزى لهذا الاخير الذي في تقديرى دفعه توجسه هذا، إلى إدراج هذا الأوربي، على قائمة الاعداء، وهو ذاته -أعني هذا الانجليزي- من شبّه خِصمه هذا، بالتمساح الضخم، ولكى تُشاغل هذا المفترس، وبنجاح، يجب ان تكون ودائما، قبالة بطنه الرخو، الذى يضم جنوب القارة الاوربية.
وفى تقديري، هذا ما جعل الغرب الأطلسي في الوجه الانجليزى منه تحديدا، شديد التمسك بتواجده داخل هذا الحوض المائي في بُقع جغرافية، كانت بحوزته زمن الحرب العالمية الثانية، ليكون قبالة كعب (اخيل) الأوربي، حتى لو جاء تواجده هذا، على حساب مصالح وحياة ساكني هذه البقع الجغرافية، بل وحتى اذا ذهب الاستقرار والسلم العالميين بذلك الى المجهول. فهو لا يتعامل مع هذه البقع الجغرافية كدول مستقلة، بل كأدوات يوظفها لقضى حاجاته، ثم يرّميها، لا غير. فمن مُستعمرة جبل طارق على الارض الاسبانية، مرورا بجزيرة مالطة العتيدة، وليس انتهائنا بجزيرة قبرص، الشغُوفة بمُحاكة لندن، ليس فقط في حركة سيرها على الجانب الايسر من الطريق، بل وفى اشياء اخرى كثيرة.
تمتد سلسلة قلاعه هذه، في وسط المتوسط وعلى طول امتداد ضفتيّه. لتكون عين وادن له، ترّقب حوض المتوسط وتراقبه، ويشاغل منها عدوه. بل وليُعكّر بها صفو مياهه، وليجعله مضطربا وبعيدا ومُتشاغلا عن التعاطي مع مفردات السلم والاستقرار والتعاون الإيجابي البناء ما بين ضفتيّه.
كنت احاول ان اقول وفى المُجّمل بان العامل الخارجي، والذي يُعتبر احد ركائز هذا التمايز ما بين الغربين الاوربي والأطلسي. جعل من الغرب الأوربي -في تقديري- اكثر ايجابية في تعاطيه وتفاعله مع جغرافية الشرق الاوسط وشمال افريقيا، ويرجع ذلك الى المشترك الجغرافي الثقافي، الذى يجمعهما عند حوض المتوسط. وفى المقابل نجد في العامل الذاتي، والذى يُعتبر الركيزة الاخرى، التي ينهض عليها هذا التمايز ما بين الغربين، قد حمّل هذا التمايز بينهما بنزعة عدوانية ذات منحى استعماري، صبغت سلوك الغرب الأطلسي، في مُقارباته وتفاعلاته مع جغرافيا الشرق الاوسط وشمال افريقيا.
فهو من زرع وشتل (المُشكل) ورعاها في ارض فلسطين بيد جناحه الانجليزي، وهو من حاول جر العالم لحرب على العراق، وعندما لم يستجب، ذهب وبمفّرده على ضهر سفنه وغواصاته وحاملات طائراته. مستندا في ذلك على معلومات استخبارية كاذبة، القمها جناحه الانجليرى للأخر الأمريكي فابتلعها هذا الاخير. فكانت الحرب والدمار للعراق. واعتقد ايضا واستناد على ما سبق، ان ما نعانيه في الشمال الأفريقي وحوض المتوسط من اضطرابات وعدم استقرار، يُعيق تقدمنا للوصول الى تأسيس دول مسّتقلة تتكئ وتنهض على دستور ومؤسسات. يرجع في غالبه الى هذا التمايز. فالغرب الأوربي واستناد للواقع الموضوعي الجغرافي الثقافي الذى يؤمنه حوض المتوسط، يذهب به نحو جعل المتوسط مُشترك لتواصل إيجابي بناء ما بين ضفتيّه. في حين ينزع الغرب الأطلسي لجعل المتوسط بضفته الجنوبية شوكة في خاصرة الغرب الأوربي، حتى ولو جاء ذلك على حساب هذه الجغرافيا وما فيها من بشر وحجر..
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً