عند الحديث عن الإباضية ورأي علماء الفرق الإسلامية فيها نستنتج أن معظم هؤلاء العلماء قد اعتبرها ضمن فرق الخوارج، لكننا هنا نعرض لهذه الآراء مع إعطاء فرصة الرد لعالم من علماء الإباضية المعاصرين، هو الشيخ علي يحيى معمر.
البغدادي والإباضية في كتابه “الفَرْق بين الفِرَق”:
بعد أبي الحسن الأشعري بنحو قرن تقريبًا، جاء مؤلفٌ آخر اهتم بالحديث عن الفرق والمقالات الإسلامية، هذا المؤلف هو: عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي، وقد اشتهر بنسبته الأخيرة بين المؤلفين. فقد قال الشيخ علي يحي معمر: وقد كتب البغدادي عن الإباضية فيمن كتب عن الفِرَق، ومن المؤسف أن هذا المؤلف لم يهتم مطلقاً بأن يتصل بأئمة الإباضية الحقيقين ولا علمائهم ولا بأن يطلع على عقائدهم ومقالاتهم في كتبهم وإنما رجع إلى ما كتبه وقاله عنهم غيرهم، ويبدو أنه اعتمد على كتاب أبي الحسن الأشعري كثيراً فنقل ما قاله عنهم تارة بنفس العبارة، وتارة يتصرف قليل. على أنه أن لم يذكر أنه نقل عنه أو اعتمد عليه.
وقد اعتمد البغدادي كل الاعتماد على الأشعري ورغم حرصه على التصرف القليل فإن عبارة الأشعري بحروفها كثيراً ما تطل من هنا أوهناك.
والذي يدعو إلى التأمُّل هو أنَّ البغداديَّ قد اعتبر الإبـَاضِـية من الخوارج، وأنـَّهُم لذلك فرقة ضالَّة ويجب أن يقال عنها فضائح ويلتمس لها شنائع، وذهب يورد تلك الفضائح أو الشنائع حينـًا بدعوى أنـَّها مقالة الإباضـيَّة جميعـًا وحينـًا آخر بدعوى أنـَّها قول بعضهم أو قوم منهم.
عاش البغداديَّ في القرنين الرابـع والخامـس، وفي هذا العصر كان الإبـَاضِـيَّة قد عرفوا في أغلب البلاد الإسلامـيَّة من خراسان إلى الأندلس، واشتهرت لهم مؤلَّفات في أغلب فروع الثقافة الإسلامـيَّة -لا سيما علم الكلام-ودوِّنت تواريخهم وسيرهم، وعرف علماؤهم وأئمَّتهم في طبقات يأخذ بعضها عن بعض إلى أصحاب رسول الله (ﷺ).
كما أنَّ أكثر المذاهب الإسلامـيَّة قد تميـَّز بعضها عن بعض في أصولها وفروعها، وآرائها ومقالاتها وأئمَّتها وعلمائها، ومع ذلك فإنَّ أولئك الذين ذكرهم البغداديُّ هم أولئك الذين ذكرهم الأشعريُّ من قبله حاشرين إيـَّاهم في الإبـَاضِـيـَّة، والإبـَاضِـيـَّة لا يعرفون عنهم شيـئًا لم يذكروهم لا في كتبهم ولا في طبقات علمائهم.
وقد زعم كما زعم غيره أن الإباضية من الخوارج وأن هذه الفرقة من الفرق التي لا يجوز للسني أن يصلي عليها ولا أن يصلي وراءها وأنه لا يجوز للسني حسب زعمه أن يتزوج منها ولا أن يأكل من ذبائحها وقد ردد هذ الكلام في مقدمة الكتاب وفي الفصول الختامية منه أورد هذه الأحكام بشيء من التفصيل وزاد عليها ونسب بعض هذه الأحكام إلى أئمة عظام.
وعلق الشيخ علي يحيى معمر على كلام البغدادي ذلك، فقال: “وأحسب أنه لا دعوة أشد إيقادًا لنار الفتنة وشقًا لصفوف الأمة، وتفريقًا لوحدة الكلمة وتمزيقًا لشمل المسلمين من هذه الدعوة”. وعلى كل حال فقد طوى التاريخ البغدادي فيما طوى كثيرًا من تلك الفرق التي كانت تملأ فراغًا كبيرًا في حياة المسلمين، وبقي كتابه يحمل آراء شاذًة كما تحمل كثير من الكتب في المذاهب الأخرى.
ابن حزم والإباضية:
تحدث علي يحيى معمر على كتاب الفصل في الملل والنحل لابن حزم الأندلسي الذي عاش في القرن الخامس الهجري وقد عنى هو الآخر بالمذاهب الإسلامية وكتب عنها ثم قال: ويؤسفني أن أقول إن العالِم الكبير لم يوفق فيما كتب عن الإباضية، بل لقد تجنَّى عليهم في بعض الأحيان-وكلامه أحيانـًا يهدم بعضه بعضـًا، كما أنَّ بعض دعاويه لا يمكن أن تصدَّق.
وفي كتاب الفصل في المِلل والنِّحل للإمام ابن حزم الظاهري نقول عن إباضية الأندلس في وقته في غاية السخف حتى أنه يصفها بالحماقات، وهذه الأقوال ينكرها الإباضية المعاصرون، وينكرها مؤرخو الإباضية بعد ابن حزم بسنين قلائل ولكن بعض الباحثين يرى أن ابن حزم ربما يكون قد رأى فرقة ضالة تنسب نفسها إلى الإباضية وليست منهم ونقل عنهم هذا الكلام، لأن ابن حزم لم يخرج من الأندلس ولم ير الإباضية في خارج الأندلس لكننا لا نستطيع أن نحمل هذا كله على مذهب الإباضية، فالذي يقرأ ابن حزم في الفصل في الملل والنحل لا يجوز أن يحول على كلامه عن الإباضية، فهو إما أنه مكذوب عليهم وهذا ما يقوله الإباضية، وإما أنه كلام فرقة ضالة نسبت نفسها إلى الإباضية وليست منهم.
وأيًا ما كان الأمر فإننا إذا أردنا أن نعرف آراء الإباضية وهم يعيشون بيننا ويكتبون ويخطبون ويؤلفون، فإن من واجبنا أن نرجع إلى ما يكتبونه بأنفسهم لنتعرف إلى حقيقة آرائهم.
أبو المظفر الاسفراييني والإباضية:
من علماء القرن الخامس الذين كتبوا عن فرق الأمة الإسلامية: أبو المظفر الاسفراييني وقد كتب عن الإباضية فيمن كتب عنه من الفرق، والقارئ الكريم حين يقرأ كتاب أبي المظفر بجدة صورة أخرى باهتة للبغدادي، فهو يدخل الموضوع كما يدخل محارب متحمس إلى ساحة معركة حربية حاسمّة يتقابل فيها خصمان عنيدان وهو يعد قبل ذلك كل ما يستطيع من أسلحة أو كل ما أوتي من قوة لينتصر الفريق الذي يريده ويحطم خصمه تحطيما لا يقوم من بعده بهذا الروح يبدأ أبو المظفر كتابه “التبصير” وفي المقدمة قسم الأمة الأئمة الإسلامية إلى قسمين:
حُكم بالهدى والاستقامة، ثم الجنة لقسم، وحُكم بالزيغ والضلال، ثم النار للقسم الآخر. وهي صورة تكاد تكون طبق الأصل مما عند أستاذه البغدادي، وليس يهمنا في هذا الفصل –بطبيعة الحال-إلا حديثه عن الإباضية. إذ قال في كتابه التبصير ما يلي:
“الفرقة السادسة الإباضية وهم أتباع عبد الله بن إباض ثم هم فيما بينهم فرق وكلهم يقولون إلى مخالفيهم من فرق هذه الأمة كفار لا مشركون ولا مؤمنون، ويجوزون شهاداتهم، ويحرمون دماءهم في السر، ويستبيحونها في العلانية ويجوزون مناكحتهم ويثبتون التوارث بينهم، ويحرمون بعض غنائمهم ويحللون بعضها ويحللون ما كان من جملة الأسلاب والسلاح ويحرمون ما كان من ذهب أو فضة ويردونها إلى أربابها”.
بعد هذه المقدمة القصيرة التي سبقه إليها البغدادي وأبو الحسن انتقل إلى ذكر الفرق السابقة التي ذكرها من قبله أبو الحسن والبغدادي والعبارة في الغالب عبارة البغدادي مع تصرف بسيط واضح التصنع، ولم يبذل هو الآخر أي مجهود لمعرفة أي شيء حقيقي عن الإباضية وإنما انساق مع تيار من سبقه ممن كتب عنهم من غيرهم فاعتبرهم فرقة من فوق الخوارج كما فعل الأشعري والبغدادي وابن حزم من قبله ثم نسب إليهم تلك المقالات التي ذكرناها في مقال سابق الأشعري ورأيه في الإباضية، وجعل من أئمتهم أولئك الأشخاص الذين نسبهم إليهم من سبق دون تحقيق أو تمحيص أو تعليق، و كل ما امتاز به عن سابقيه أنه تتملكه –أثناء كتابته- من حين إلى آخر ثورة غضب عارمة فيصب على تلك الفرق وأصحابها سيلًا من الشتائم واللعنات .
أبو الفتح الشهرستاني والإباضية:
اشتهر أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في النصف الأول من القرن السادس الهجرة، وقد ذاع صيته بين كتاب المقالات في العقائد، ويعتبر كتابة “الملل والنحل” من أهم المراجع في هذه المواضيع وكثير من كتاب اليوم يعتمدون عليه كمصدر محقق ثابت لا يناقش، وقد رافق الشيخ علي يحي معمر هذا المؤلف الكبير وسجل ملاحظاته على أبي الفتح الشهرستاني، فقال: – ذكر أن عبد الله بن إباض خرج أيام مروان بن محمد وقتل بتبالة وهذا خطأ سرب إلى أبي الفتح وإلى جملة ممن كتب عن الموضوع لأن عبد الله بن إباض لم يعش إلى زمن مروان، وإنما توفى في أواخر أيام عبد الملك، ولعل الذين ذكروا هذا القول اشتبه عليهم بأحد الرجلين: المختار بن عوف، أو بلج بن عقبة من أصحاب عبد الله بن يحي طالب الحق وهم جميعًا من الإباضية.
– المقالات التي نسبها إلى الإباضية هي بعض ما نسبه لهم من تحدثنا عنهم سابقًا.
– ذكر جملة من المقالات المنسوبة إلى الإباضية، ونص على أن الكعبي حكاها عنهم وهذا موقف سليم من أبي الفتح حين تخلص من عهدة تلك الأقوال ونسبها إلى من حكاها بما فيها من صدق أو غيره.
– اعتبر الحفصية والحارثية واليزيدية فرقًا مستقلة، ولم يدخلها في الإباضية، وهو موقف فيه تمحيص وتحقيق خالف فيه السابقين ممن كتبوا في الموضوع.
– لم يذكر قصة ثعلبة ولا قصة بيع الأمة وما بنى على ذلك، فسلم كتابه من تلك النزاعات الفارغة والأباطيل الجوفاء .
ثم قال الشيخ علي يحي معمر: وبالنسبة إلى الإباضية فبدل أن يرجع إلى علمائهم أو كتبهم التجأ إلى الكعبي وغيره ممن لم يذكره فوقع في أخطاء كان حريا ألا يقع فيها، وأما خطؤه في تاريخ عبد الله بن إباض فهذا خطأ قد لا يسلم من مثله الكثير من الكتاب.
وعلى كل حال فأبو الفتح عندما كتب عن الإباضية لم يأخذ مقالاتهم من مصادرهم وإنما أخذها من مصادر غيرهم، ولكن ذكره لتلك المقالات كان يتسم بدقة الملاحظة والمعرفة لآراء الفرق ولذلك فقد نسب ما قيل له عن الإباضية إلى رواته وجعل بعض ما كان يحسب على الإباضية وليس منهم فرقاً مستقلة، وهذا وحده يعتبر منه نقداً وردّاً على كُتّاب المقالات السابقين، وهي خطوة تستحق الثناء والتقدير.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً