لا شك أن الحراك الشعبي الذي يرفض الظلم والاستبداد ويرنوا إلى حياة كريمة، والذي كثيرا ما يأخذ منحى الثورة العارمة التي تهز عروش الحكام الطغاة، هو حراك طبيعي عند جميع الشعوب الحرة، والتي لها أدنى مستوى في فهم حقوقها والدفاع عن مكتسباتها، وهذه الشعوب المتنورة المنفتحة على العالم هي الحاضنة والمدافعة عن النخبة الحاملة لشعلة التغيير والمتقدمة لصفوفها.
وأن يكون هناك طغاة مستبدين مردة متعطشين للسلطة والشهرة على حساب تقدم ونمو الشعوب، لا يتورعون عن القيام بكل ما هو مخزئ ومهين؛ من سفك الدماء وتشريد البشر وتخريب المدن وسرقة الأموال وزج الشرفاء في السجون، والذي سطر لهم التاريخ صفحات من سواد؛ بداية من عقبة إلى حفتر مرورا بهولاكو وقراقوش وعلى برغل والقدافي والأسد والسيسى أخبرا البرهان وسعييد، فهو أمر علمنا التاريخ أنه واقع اخر عند الشعوب المتأخرة، وهو مسار الشخصيات غير سوية تدفعها نوازع وهوس السلطة والشهرة.
والذي لم يتم اعمال البحث فيه كثيراً عند شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: مينا (MENA) هو الحاضنة الشعبية لهؤلاء الطغاة المستبدين، هؤلاء المصفقين وإن كان عددهم قليل فهم على مر التاريخ شاهد الزور الذي يرجح كفة الظالم؛ في العصر الأموي والعباسي كانت بطانة الأمير ومشايخ السلطان هم المصفقين، واستمر مشايخ السلطان في القيام بهذا العمل المضلل إلى يومنا هذا، لحق بهم في العصر الحديث النفعيين القبليين والصحافة المؤجرة وأبواق الخارج.درس مالك بن نبى أذناب الاستعمار والجهالة المجتمعية وتوصل أن “القابلية للاستعمار” هي التي تجعل الشعوب مستعمرة، وفي هذه الحالة أن أذناب دول الاستبداد القبليين والنفعيين هم من يقوم بتعريب الانقلابات وتجنيد العوام ككومبارس لاعطاء الشرعية لهم.
تاريخيا عند اندلاع الثورة الفرنسية ودخول الثوار لحصن الباستيل يوم 14 يوليو 1789م، فر 5279 من المساجين أغلبهم من السياسيين والأدباء ورجال الدين، منهم من التحق بالثورة وأصبح رافدا لها، والبعض الأخر واجه أعباء ومسئوليات الحياة التي لم يألفها، فطلب الرجوع إلى السجن، وهو حال الكثير من المقهورين والمغيبين نفسيا والمشوشين فكريا، وهم من يمثل جزء كبير من حاضنة الانقلابات.
في مصر تبنت القوى الخليجية مطالب العسكر باستمراره في السلطة وتم خلق حاضنة شعبية من الفنانين والممثلين إضافة إلى أتباع النهج السلفي وبطانة العسكر، وصنع لهم شعار “محاربة الإخوان والإرهاب”، بالمقابل هناك أكثر من 30 مليون فلاح مصري لم يعنيهم الأمر ولم يكن لهم دور في ثورة 25 يناير، بسبب تدني الوعي الحقوقي لهذه الطبقة؛ رغم أنهم الأكثر تضررنا من عودة العسكر.
في ليبيا تم تجنيد حفتر ومده بالخطط والسلاح والمرتزقة وإعانته على تزوير العملة، وربطه بالمجموعات القبلية وأزلام النظام السابق كحاضنة شعبية للانقلاب بشعار “مقاومة التهميش ومحاربة الإرهاب”، وجندت دول الاستبداد الإقليمية أبواق تتحدث عن قصة محاربة الإرهاب. بعد سبعة سنوات من الحروب والقتل والتشريد وغلق الحقول وخسائر بشرية فادحة، أيقن أهلنا في برقة البيضاء أنهم كانوا مغيبين وأنهم يرفضون خزعبلات الاستبداد، بالمثل أيقن أهالي برقة الحمراء أنهم مختطفون من العسكر وأنهم رهينة لقوى إقليمية ولا حقيقة للإرهاب في الواقع.
أما في الجزائر فلقد تم تمكين العسكر بعد شق صفوف الثوار المحتجين لأكثر من سنة وإخافتهم بالعشرية السوداء، وفرضت انتخابات صورية لإعادة تدوير النظام. ولكي يستمر العسكر ويحظى بالقبول تم فتح ملفات ساخنة مثل نقص مياه الشرب في العاصمة وافتعال حرائق الغابات، وخلق مشكلات مع الجارة المغرب مع إيقاف خط الغاز المار على أراضيها، ونبش التاريخ للدخول في مناكفات صورية مع فرنسا، كل ذلك من أجل تصدير الاحتقان الداخلي إلى الخارج.
بالمثل تم التخطيط لانقلاب تونس منذ زمن؛ فتفتيت البرلمان الى دكاكين بخلق عشرات الأحزاب من المال الخارجي الفاسد وتجنيد رؤساء تلك الأحزاب كأبواق للإذاعات الإقليمية أوقف الحياة السياسية وشل عمل البرلمان وفاقم المشاكل الاقتصادية، واوجد ظروف للتخلص من النهج الديموقراطي، فوضع لبرنامج الانقلاب شعار “محاربة الفساد”، والجميع يعلم أن الفساد في تونس له جذور منذ السبعينات من القرن الماضي حين استحوذت مجموعة من الشركات على النشاط الاقتصادي للدولة.
أما الأحدث في برنامج الانقلابات فهو المشهد السوداني الذي بني من البداية على العودة للنظام العسكري تدريجيا بتصميم الدول الإقليمية، فمشاركة قادة مليشيات الجنجويد ورجالا البشير في السلطة هو الفخ الأول، وإلزام قوى الثورة والتغيير على التنازل عن الكثير من ثوابتها وسيلة لترويض الجماهير، وأخيرا زعزعة أركان الدولة بتشجيع قبائل البجا على قفل بورت سودان وهو أخر الفصول لاستلاء العسكر على السلطة. فكان الانقلاب وكان استلاء العسكر على الحكم رغم المظاهرات العارمة التي تعم معظم المدن السودانية.
إن الحاضنة الشعبية للانقلابات لا شك أنها صغيرة ومفككة وهو مصداق لقول النبي عليه السلام “لا تجتمع أمتي على ضلاله” ولكن استغلال هذه المجموعة من القوى الإقليمية والدولية كبير، وهذا الاستغلال يهدف إلى أمرين؛ أولها أن دول الاستبداد العربية في سباق مع الزمن لمنع تأسيس أي نموذج ديموقراطي في المنطقة، والذي سينتقل إليها حتما ويصيبها ويهز أركانها ويسقط عروشها عاجلا غير آجل، كما حدث في الخمسينات والستينات عندما سقطت الكثير من الملكيات والحكومات، وفي سبيل ذلك تبنت وصنعت حاضنة للانقلابين وضخت مليارات الدولارات لهم، وفتحت لهم منابر وأبواق تؤيدهم، ووفرت لهم السلاح ووقفت معهم في المحافل الدولية. هذه الدول الإقليمية وخاصة الإمارات أصبحت تستعمل كواجهة للأعمال القذرة في المنطقة بمعرفة وربما بتشجيع من أمريكا بعد أن اتخذ أوباما قرار عدم التدخل المباشر في منطقة مينا مند سنة 2012 م وأعقبه من بعده في نفس السياسة.
الأمر الأخر أن ما يسمى بالمجتمع الدولي في كثير من الأحيان يكون منقسما بسبب تعدد الجبهات واختلاف المصالح بينهم، وهم جميعا متفقون أن الاستقرار أهم من الحرية والديموقراطية لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فالاستقرار يوفر لهم سبل تحقيق مصالحهم ولا يهم ذلك وجود حاكم مستبد لبلاده أم حكومة رشيدة. في الاجتماع الأخير لمجلس الأمن بخصوص الانقلاب في السودان عجز المجلس عن إصدار بيان يندد فيه بالانقلاب عقب معارضة الصين، ورد روسيا على الأعضاء بأن التغيير خارج المؤسسات الدستورية في الشرق الأوسط حدث في الكثير من الدول (ويعزي به مصر وليبيا وتونس ومالي) ولم يصفها أحد بالانقلاب، فلماذا إدانة ذلك في حالة السودان فقط؟.
من ذلك نرى أن النكسات كثيرة ومحبطة ولكن لن تغير مجرى التاريخ ومقتضيات العصر، فالحراك الجماهيري والثورات العارمة لن تتوقف، ولن يكبح جماحها ثلة من العسكر أو مجموعة من القبليين النفعيين، ولا حكومات مستبدة تنازع الموت خوفا من وصول التغيير إليها، فحركة التغيير وقودها الشعوب الهادرة يتقدمها النخبة المستنيرة، وهي باقية ومستمرة وإن أصابها نكسات الدهر، وهي الظاهرة على غيرها ولو بعد حين.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً