الأداة الفعالة لاختراق الأمن القومي لأي دولة تصنعه الكراهية فيوظف أي اختلاف عرقي أو لغوي أو مذهبي-ديني أو حتى اجتماعي-طبقي لزعزعة الأمن والاستقرار. ونتيجة لغياب الهوية الجامعة، ونمو سياسات الهوية إزاء تفاقم تهميش قطاعات واسعة من المجتمع على حد تعبير فوكوياما، ورفض أسنة الدين حسب رؤية د.محمد أركون رحمه الله، وغياب العمل بالخطاب القرآني:”ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكركم عند الله أتقاكم” سورة الحجرات آية 13، فيستمر عبث الكراهية بلا هوادة. وقد نجحت بعض الدول الغربية-الديموقراطية في توظيف الحرية لانتهاك حرمات البشر الأخلاقية والاجتماعية والدينية وما يروج له الإعلام مؤخراً، أو ربما يدفع له، للدفاع عن مراسم انحلال وانحطاط في إيران، باسم الحرية، لحرق العفة والحشمة والوقار، ضمن طقوس شيطانية وتظاهرات شاركت فيها زهرا صديقي همداني، الكاتب على قناعة بأن حقها في الحياة يفترض مصون وليس من حق أحد المساس به. الأخطبوط الدولي تتسلل أذرعه خارج حدوده وما يحصل خارج حدود روسيا وأمريكا اليوم متصل وغير منفصل عما يحصل في ليبيا، ولا نبالغ لو ضُمت إليهم الصين. وتستمر جدلية القانون الطبيعي لتقاسم المنافع ونقيضه ما بعد النفعية والاستفراد بها.  

صناعة الكراهية:

من أتجع الوسائل الفعالة اليوم في خلق أي بلبلة اجتماعية-سياسية هو تحريك الدهماء واستدعاء الاختلافات في الدولة الواحدة بشتى أنواعها العرقية واللغوية وحتى الفكرية والاجتماعية والسياسية. الاختلاف سنة كونية يمكن أن تكون قيمة مضافة كما نجحت أمريكا وكندا وأستراليا، وكذلك بريطانيا، في توظيفها مع بروز اليمين-المسيحي المتطرف من حين لأخر. إلا أنه في المقابل يوظف هذا الاختلاف بدول العالم الثالث، وحتى أوكرانيا اليوم، لزعزعة الاستقرار وصناعة دكتاتوريات معتمدين على توظيف الاختلاف لصناعة الكراهية. وفي ليبيا يتم توظف الاختلافات التالية في صناعة الكراهية:

• تلعب فرنسا، المناصرة للانحلال والغزو الثقافي، على توظيف الأمازيغية بأنها نقيض للعربية ولذلك يجب كراهية الإسلام الذي احتل أرض الأمازيغ وهذه كارثة
• لعبت بريطانيا على صناعة كراهية البداوة العربية والوهابية التكفيرية العنصرية للمدنية والتحضر والتسامح المذهبي، وتحريك القبلية المقيتة التي دورها التعارف وليس التنافر
• جميع الدول المتدخلة في ليبيا توظف مصطلح التهميش لتخترق الحواز الأمنية بالمدن الليبية وصحاريها كما تصرح مؤخراً الوكالة الأمريكية للتنمية.  ونرى اليوم كيف حركت روسيا بتاريخ 19 سبتمبر 2022 عميلها حفتر، وهو متأزم بعد تخلي فريق المحاماة عن الدفاع عنه، للاستعراض بأقصى الجنوب بالكفرة وغات، وبراك أخيراً، ويستعطف الشعب للتحرك ضد الحكومة تحت حامية الجيش!!!

في المقاطعات الأوكرانية المشتركة في حدودها مع روسيا تستدعي روسيا الإثنيات من أصول روسية لتعبئها بالكراهية، ولتحمل السلاح ضد حكومتها، وتحركها لتنفصل على حكومة، وسيادة دولة أوكرانيا.

أوكرانيا وليبيا بين روسيا وأمريكا وأوروبا:

ما يحصل في ليبيا لا يمكن فصله عما يحصل في أوكرانيا. فالخطوات الجريئة التي يحاول فيها السيد بوتن إعادة سيناريو القرم عام 2019 مشابه، إلا أن اختلاف المعطيات مع القرم وباقي المقاطعات الحدودية مع روسيا: دونباس، ولوغانسك، ودونيتسك، وزابوروجيا قد يُصعب من طموحات بوتن في ضم أرضي أوكرانية جديدة. فالسيد بوتن ماضي في تنفيذ مخططاته بفرض سياسة الأمر الواقع على الأراضي التي يسيطر عليها الجيش الروسي بعد أن تمكنت روسيا من بسط سيطرتها على أجزاء حدودية من الأراضي الأوكرانية. بل وتطالب روسيا بالاستفتاء وطرح رغبة سكانها، الناطقة بالروسية، في الانضمام إلى روسيا. وتصعد في طموحها بالتهديد واستخدام السلاح النووي ضد أوكرانيا-أوروبا لو وقفت ومعها أمريكا ضد رغبتها في استفتاء سكان الأراضي التي تفرض سيطرتها عليها.

وتظل ليبيا الساحة الخلفية للصراع فمع استخدام روسيا لسلاح الغاز والنفط ضد أوروبا وللإمعان في محاصرة أوروبا تحرك حفتر بمرتزقته لتلوح روسيا بما تملكه من مفاتيح للطاقة يمكن أن تسلمها لأوروبا لو تنازلت عن الأراضي التي تتربع عليها روسيا بجيشها المجند حديثاً!

في حسابات ما بعد النفعية لا توجد أي اخلاق أو مبادئ تحكم تصرفات الدول “العظمى” بل تتحرك وفق نهم مصالحها، ومع شراهة الدول العظمي للطاقة فعلى دول العالم الثالث مثل ليبيا أن تراهن على المُرواغ الفائز في سباق السيطرة على مصادر الطاقة، مع فتح باب الشراكة.

هل سيناريو القرم يتكرر اليوم؟

في 14 فبراير 2014 حركت روسيا، عميلها حفتر ليمهد لها الطريق بإعلان انقلابه على حكومة علي زيدان، ويقتحم الجيش الروسي بعد 13 يوماً مقر البرلمان القرمي ومطارات حساسة بتاريخ 27 فبراير 2022، ولتشتيت الانتباه والإمعان في العمالة أعلن الداعشي حفتر حربه على ثوار فبراير، واستغل دس بعض المتطرفين بينهم وربما بالتنسيق مع بعض دول مجلس الأمن، ليدعي الحرب على الإرهاب، واستغلته روسيا في خلق أزمات نفط للضغط على أوروبا بالدرجة الأولى فالنفط الليبي هو الأجود والأقرب لها.

ونجحت روسيا في ضم القرم بعد التعبئة لكراهية السلطة الأوكرانية بحكم أن الغالبية أصولهم من الروس، وربما عرفت كيف تساوم روسيا وتضغط على الدول الغربية بقبول سيطرتها على القرم.  بل تطور الأمر في 2019 لقبول أمريكا لروسيا كدولة مسيحية، بعد أن كانت عدوة، لوضع قدم لها على أرض ليبيا أملاً في وقف تمدد التنين الصيني في أفريقيا. إلا أن الطمع الروسي تجاوز الحدود ففكرت روسيا في أن تتغذى بأروبا قبل أن تتعشى بها أمريكا التي نصبت موالي لها على أوكرانيا موافق على الانضمام إلى حلف النيتو وفي تهديد سافر ومباشر لروسيا.

اليوم المعطيات مختلفة فمع أن هناك بعض المقاطعات التي سكانها أصولهم روسية إلا أنه وبعد تهديد روسيا والوقوف في طريق انضمام أوكرانيا إلى حلف النيتو الذي يراه المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، بأن “توسيع الحلف لن يجلب مزيدًا من الأمن إلى أوروبا، فإن الناتو يتمتع بطابع عدواني”، إلا أن هذه الحرب وحدة أوروبا في التصدي لروسيا كما توحدت أزمتها في الطاقة!.

وهذا يُأزم الوضع ويدفع روسيا بالضغط على مصادر النفط، التي ستكون رأس حربة لروسيا في الشتاء الأوروبي القادم، في ليبيا فرأينا تحركات مرتزقة حفتر في غات بعدها بأسبوع وصولاً من بعد إلى براك كع رفض شعبي لحفتر. ورأينا أيضاً كيف الوكالة الأمريكية للتنمية تصرح وحسب ما نشرته عين ليبيا بأنها تركز “على إشراك السكان المهمشين والشباب والنساء، وزيادة فرص الاستماع إلى أصواتهم ومراعاة مصالحهم في عملية صنع القرار التي ستشكل مستقبل ليبيا.” وهذا بهدف مزاحمة روسيا في الجنوب والشرق وافشال توسلات حفتر لانضمام الشعب له.

خاتمة:

معطيات ليبيا وأكرانيا في 2014 مختلفة عن 2022 لذلك كان ضم القرم أسهل، أما اليوم وبعد الخسارة التي مُني بها بوتن فيمكن أن تكون جزء من الأراضي الحدودية باستقلالية ذاتية وتحقيق بعض المصالح بليبيا في المقابل انضمام أوكرانيا لحلف النتيو فالعالم ليس مستعداً لحرب نووية!  ويظل الجنوب اليوم هو الذي يمثل نقطة عبور للهجرة غير الشريعة ومصدر الطاقة لتدفئة الشعوب الأوروبية، ومحرك لترسانتهم الصناعية لذا ستعمل أوروبا على تجنب حرب نووية عالمية على أرضها، وستقوم بتهدئة الصراع بين أمريكا وروسيا المتصارعتان على كسب ود الجنوب وعلى الساسة في ليبيا تحريك عقولهم ووطنيتهم لخدمة ليبيا والشعب الليبي بالدفع للاستقرار والانتخابات وبموازنة مصالح الدول العظمى ومشاركتها بدون خسارة الشعب الليبي.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.