في زمن العولمة أصبح الخبر في غاية السرعة، وينتقل بلا تدبٌر في معظم الأحيان، إلا أن صناعة الخبر والتسويق والتحشيد له تقوم به مؤسسات محدودة لها إمكانيات دعائية عالية، وبذلك يتم خلق رأيٌ عام واسع، يتبنى فكرة أو موضوع ما وإن كان مزيفا أو كاذباً. الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى فمثلاً كان غزو العراق بناء على فكرة تم تسويقها بأن العراق يمتلك أسلحة نووية وسيقوم بإستعمالها في أي لحظة، وأكاذيب تضخيم قوة القاعدة وشبكة تواجدها في العالم، ولا يختلف عن ذلك الإيهام بأن الإيدز والإيبولا الآتيين من أفريقيا سينهيان العالم في عدة سنوات، واليوم قوة داعش التي لا تقهر. هذه الأخبار المبالغ فيها كثيراً ما تخاطب الرأي العام الغربي ومنه إلى العالم الأخر بأن الخطر الداهم يأتي من دول الجنوب، وذلك من أجل تبرير التدخل في تلك الدول من ناحية، وتقوية أواصر الجبهة الداخلية لدول الشمال من ناحية أخرى، ولكن من المؤسف أن العديد من المؤسسات الإعلامية العربية أصبحت معاول التزييف الإعلامي الممنهج ورأس حربة لتنفيذ تلك ألمخططات.
داعش أو الدولة الإسلامية تاريخها معروف، وهي نتاج إندماج (لم يتم) بين تنظيم القاعدة الذي تأسس على يد أبومصعب الزرقاوي في العراق في سنة 2006 والمجموعة الإسلامية المتشددة في سوريا جبهة النصرة، وكان ذلك في شهر ابريل سنة 2013م. كلا الفريقين ينتمي إلى الفكر السلفي الجهادي مع إختلافات ظاهرية طفيفة، وتدل التقارير الدولية أن القاعدة وجبهة النصرة لها مناصرون في الخليج وداعمون لها بل وممولون كثيرون من أجل مواجهة التمدد الإيراني في العراق وسوريا. لسنوات كثيرة لم تفكر هذه المجموعات في تكوين دولة، ولكن همها الوحيد قلب النظام في بغداد وإلغاء العملية السياسية والحكومة الطائفية من أجل بناء دولة جديدة تتبنى مشروع الخلافة الإسلامية، ولا يختلف ذلك عن النصرة في سوريا.
بعد حدوت الإنتفاضات العربية في تونس وليبيا ومصر واليمن في سنة 2011م ساعد ذلك على ظهور إنتفاضة أخرى في شمال العراق من أهل السنة في الأنبار، وتعاونت هذه المجموعات مع رجالات البعث من العهد السابق وإشتدت قوتهم حتى أغلقوا المنافذ البرية بين العراق وكل من سوريا والأردن، بل طردوا المليشيات المسلحة التابعة للحكومة المركزية، وبداء تحركهم نحو الجنوب صوب بغداد. في هذه الأثناء من بدايات 1913 ظهرت داعش للوجود كطرف ثالث، وبداء مسلسل تشويه الثوار بإحتجاز الرهائن وقطع الرؤس، والإستلاء على 420 مليون دولار من البنك المركزي بالموصل، والإستلاء على الحقول النفطية وغيرها.
بالمثل عندما كان الجيش الحر يدك معاقل قوات الأسد في كل يوم وعلى كل الجبهات حتى كان قاب قوسين أو أدنى من دمشق، مع إكتساح الجزء الجنوب والشرقي من سوريا وجزءا كبيرا من الشمال، مع مؤازرة جبهة النصرة في الحرب ورفضها الإنضمام إلى دولة العراق والشام برأسة البغدادي، كان الزج بداعش ضروريا لإنقاذ حكم الأسد وإضعاف الجيش الحر، وهو ما جعل مأسي الشعب السوري تستمر إلى الآن. وتم الترويج بأن داعش ستقوم بالإستلاء على العراق وسوريا ولبنان وقد تتحرك إلى الأردن والخليج لاحقاً. وبذلك رُسمت أسطورة داعش التي لا تقهر، وعمل صانعوها على إيجاد تحالف جديد مشابه لتحالف حرب الخليج الأولى والثانية.
لم نرى داعش في سيناء في زمن محمد مرسي، ولم يكن هناك تفجيرات بالجملة على الجيش كما نراها الآن، وما إن قام السيسي بتضيق الخناق على المعارضين لحُكمه والزج بهم في السجون أو الحُكم عليهم بالإعدام وهدم بيوت (الغلابا) في سيناء وتهجيرهم، وبداية الضربات الموجعة للقوات الأمنية من المضطهدين حتى تم إستدعاء قصة داعش في مصر وكيف أن الإخوان تحولوا إلى داعش لزعزعة الإستقرار والأمن، وكان طلب العون من دول الخليج للقضاء على هذا البعبع، أملا أن تكون هذه الفزاعة سبيلاً لتفويض الحكومة المصرية لتصفية أعدائها من الإخوان والمتعاطفين معهم، وسيستمر إستغلال فزاعة داعش من أجل إستجلاب الأموال الخليجية لتمويل الفساد المالي الداخلي بمصر.
في ليبيا لا يختلف المشهد كثيراً، فعندما قامت قوات فجر ليبيا الممثلة للثوار بالتخلص من الكتائب الأمنية للنظام السابق في الغرب الليبي والحكومة العميلة لهم، وإندحار القوة الإنقلابية في بنغازي بقيادة حفتر وخروجهم منها، ومع بداية تحرير المواني النفطية من قبضة العصابات الخارجة عن القانون برأسة إبراهيم جضران، كان سيناريوا داعش جاهزاً للتسويق كطرف ثالت، حيث تم إسناد الكثير من الجرائم إلى هذا التنظيم مثل السطو على حقل المبروك وحقل الباهي النفطيين، وتصفية حرس محطة الكهرباء بسرت، وتصفية أفراد البوابة في طريق سبها وتفجير مجلس النواب بطبرق وفندق كورنتيا بطرابلس، وأخيرا مديرية الأمن بالقبة وقتل 21 قبطيا في سرت. ورغم أنه لم يتم القبض حتى الآن على أي متهم في القضايا السابقة ولا يوجد أي وثائق تؤكد وجود تنظيم يسمى داعش في ليبيا إلا أن الإذاعات الموجهة مثل العربية الحدث وسكاي نيوز ما إنفكت تمطر المشاهدون بأخبار لا تنقطع عن داعش والدواعش.
لن أتحدث عن أفلام داعش الهزلية الهوليودية التي روجلت لها وسائل الإعلام الموجهة، وضحضها معظم المتخصصين في الإرهاب والأجهزة الأمنية، أخرها فوكس نيوز الدائعة الصيت، ونائب مدير الإستخبارات المصري السابق وهم أشد عداوة للإتجاه الإسلامي. ولا عن زعم دخول داعش إلى بعض الحقول النفطية الليبية وخروجها بعد سرقة بعض السيارات منها، ولا على إستلاء داعش على جامعة في سرت ثم خروجها طواعية، ولكن على الأرواح التي زهقت في بنغازي والقبة ومحطة سرت البخارية وهي لا تختلف عن قتل الجنود في سيناء والموصل وكوباني أو القامشلي.
من الواضح أن سياسة الدواعش المستخدمة هي السياسة القديمة/الحديثة في تصفية الخصوم، فالهدف لم يكن يوما مكافحة الإرهاب بقدر وأد الخصوم السياسيين وإخراجهم من حلبة الصراع. في السبعينات من القرن الماضي أوجدت الحكومة الإيطالية رديف لها من المجرمين والمافيا لتنفيذ المهام القذرة والخارجة عن القانون ولقد إستطاعت أن تدير دوامة العنف لسنوات طويلة وتقوم بتصفية ألد أعدائها السياسيين ولم تخرج إيطاليا من ذلك إلا بمساعدة الجهاز القضائي العتيد بها. عربياً قام جنرالات الجزائر بدور بارز في عشرية العنف، عندما قاموا بتخويل القوات الخاصة لتنفيذ أبشع الجرائم في حق المدنيين وخصومهم في الجبهة الإسلامية من أجل معاقبة الشعب على إنتخابهم، وتصفية الحزب الإسلامي الوحيد الذي قارع السلطة وكاد أن يسقطها ديموقراطيا لولا إدخال دوامة العنف من الإستخبارات والقوات الخاصة (التي تمثل داعش اليوم). وبذلك قضي نحب أكثر من 120 ألف مواطن جلهم لا علاقة له بالسياسة، ولكن السلطة إستطاعت أن تجعل الشعب الجزائري لا يفكر في التمرد عليها أو المطالبة بالديموقراطية مثل شعوب العالم (راجع كتاب الحرب القذرة للضابط السابق في القوات الخاصة الجزائرية حبيب سويدية)، وهذا واضح من الدعوة إلى التظاهر في سنة 2012 التي لم يستجيب لها أحد، ومن إنتخاب بوتفليقة رغم أنه عاجز حتى عن الحركة.
من ذلك يمكن الوصول إلى أن داعش هي الطرف الخفي/ المنظور لحكومة بغداد ووكلائها من الدول الغربية، وهي ليست بعيدة عن بشار الأسد وأجهزة مخابراته، وهي جزء من الإستخبارات المصرية في سيناء وفي ليبيا. وبسبب ضعف الدولة والأجهزة الأمنية الرسمية فإن العقيد المتقاعد خليفة حفتر ومن تبعه من إستخبارات النظام السابق قد تم إتهامهم من العديد من الجهات بأنهم وراء الإغتيالات في الشرق الليبي، وما يؤكد ذلك عودة الأجهزة الأمنية السابقة برموزها للعمل في مدن الشرق الليبي مثل بنغازي والبيضاء والمرج، بل أن أحد أهم رموز العهد السابق أحمد قذاف الدم المتواجد بمصر يقول ” أنا داعش أنا مع داعش “. هذا لا ينفي وقوع فوضى أمنية وجرائم جنائية وعصابات إجرامية ترعرعت في ظل غياب القوة الرادعة التي تلجم هذه المجموعات والأفراد، وتصون للدولة هيبتها وللمواطن أمنه.
بالمثل لا يمكن إستبعاد المخابرات الغربية من الضلوع جزئياً في سيناريو داعش من ناحيتين، إحداهما تجنيد الشباب المسلم في أوروبا والزج به لعمل الأعمال المشينة مثل شخصية جون(محمد الموازي) الذي يظهر في أفلام داعش، وهو بريطاني الجنسية كويتي الأصل، أو ما شاهده الكثير من سكان الفلوجة ومدينة كنعان من رصد طائرات يعتقد أنها أمريكية تزود المقاتلين بالأسلحة. ومن ناحية أخرى تقديم المساعدات للحكومات ووضع الخطط العسكرية للتخلص من المقاتلين المعارضين لهذه الدول أو القادمين من الدول الغربية، ويهدف ذلك إلى نقل الصراع إلى داخل الدول العربية والإسلامية والنأي بأنفسهم من شرور مجموعات العنف والمتشددين الإسلاميين، وهذه السياسة تقي الدول الغربية هجمات المتشددين كما حدث في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. بل أن من مزايا الحروب لهم فتح أسواق جديدة للسلاح، والحصول على عقود إصلاح لما تم هدمه وتخريبه جراء الأعمال العسكرية المتواترة. وفي جميع الأحيان لا يلام التدخل الغربي فهذا جزء من عملهم، حيث تقول مديرة الإستخبارات البريطانية عن حرب لبنان بأننا كنا نعمل على جعلهم يتقاتلون (We set them to fight each other)، ولكن المضحك المبكي أن تتزعم حكومات عربية نشر الفوضى في أوطانها وينطلي ذلك على الكثير من الساسة والنخب قبل العامة.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً