بدأت مهنة التمريض الحديثة بالظهور في منتصف القرن التاسع عشر بفضل جهود “فلورنس نايتينجيل” التي عرفت ب “السيدة حاملة المصباح”، لأنها كانت تحمله عند تفقدها الجرحى والمرضى تحت جناح الليل أثناء الحرب، وبدعم كبير من مجتمعها، قامت بتأسيس أول مدرسة متخصّصة بالتمريض في “لندن” عام 1853، تقوم بالإعداد والتعليم والتدريب والتقييم وفق قواعد علمية محددة، لذلك تعد هذه السيدة على نطاق واسع مؤسسة التمريض الحديث، ولهذا اعتمد العالم يوم ميلادها الثاني عشر من مايو/أيار يوما عالميا للتمريض يحتفل به سنوياً في كل أنحاء العالم تقديراً لإسهامات العاملين في هذه المهنة النبيلة في حياة المجتمع.
نعم، بفضل التعليم والتدريب والتأهيل ازدهرت مهنة التمريض في كل أنحاء العالم، وأصبحت ركناً حيوياً في النظام الصحي المعاصر، لذلك تأسست مدارس ومعاهد وكليات التمريض وجمعياتها المهنية حتى قبل عشرات وعشرات السنين من ظهور كليات الطب في البلاد العربية، ولأهمية هذه المهنة، وتزايد الحاجة إلى خدماتها التخصصية العديدة، تأسس في عام 1899 “المجلس الدولي للتمريض” في مدينة “جنيف”، وأصبح بذلك أول اتحاد عالمي للمنظمات المهنية العاملة في الرعاية الصحية، عمل ويعمل على وضع معايير عالية المستوى لممارسة مهنة التمريض، ومواكبة التقدم التعليمي والمهني للعاملين فيها، وهكذا نجد الآن أكثر معاهد وكليات التمريض شهرة في أكثر الدول المتقدمة صحياً.
في كل عام يطلق “المجلس الدولي للتمريض” شعاراً يحمله هذا اليوم العالمي، ويجري تسليط الضوء عليه خلال فعاليات هذه المناسبة، ففي العام الماضي 2018، حمل شعار “التمريض صوت للقيادة – الصحة حق للإنسان”، أما هذا العام فيحمل شعار “التمريض صوت للقيادة – الصحة للجميع”، لأهمية دور العاملين في التمريض في تحقيق الصحة للجميع، وهو هدف طالما تطلعت إليه شعوب العالم في كل مكان.
يظل إعلان “ألما آتا” عام 1978 محطة تاريخية في سعي المجتمع الدولي لتوسيع نطاق الوصول إلى الخدمات الصحية، وتحسينها، فقد أكد الإعلان أن الصحة، التي هي حالة من اكتمال السلامة بدنيا ً وعقليا ً واجتماعيا ً لا مجرد انعدام المرض أو العجز, ما هي إلا حق أساسي من حقوق الإنسان، وأن بلوغ أرفع مستوى صحي أمر ممكن، و تحقيق هذا الهدف يتطلب بذل جهود من جانب العديد من القطاعات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى بالإضافة الى القطاع الصحي.
لقد مهدت مباديء ذلك الإعلان الطموح إلى ظهور حركات عالمية تضع على رأس أولوياتها حق كل فرد في الحصول على الخدمات الصحية الأساسية، وضرورة توسيع نطاق وصول هذه الخدمات إلى كافة شرائح المجتمع، وعلى الرغم من إحراز بلاد العالم بعض التقدم في هذا المجال، لايزال حوالي نصف السكان لا يحصلون على الخدمات الصحية الأساسية، وأصبحت هذه الحركات تؤمن أن الرعاية الصحية ليست حقأ لكل انسان فحسب، بل إنها مسؤولية كل إنسان أيضاً، وأن الرعاية الصحية المبنية على المعرفة يجب أن تكون الهدف الرئيس لأي نشاط أو برنامج صحي.
“الصحة للجميع” تعني إزالة العقبات التي تعترض وصول الخدمات الصحية – مما يعني ضرورة القضاء على سوء التغذية والجهل ومياه الشرب الملوثة والمساكن غير الصحية – تماما بقدر ما يجري عمله في حل المشاكل الطبية البحتة مثل نقص الأطباء، والمستشفيات والأدوية واللقاحات، وغيرها.
للعاملين في التمريض دور مهم في نشر المعرفة والتعريف بالصحة للجميع، والعمل على تزويد المجتمع بالمعارف والمهارات اللازمة لتحقيق ذلك، والإسهام في النهوض بالبرامج والسياسات الصحية التي تكفل تحقيق الجودة والمساواة والشفافية وإتاحة وصول الخدمات لجميع أفراد المجتمع، وكذلك الإسهام في الحفاظ على بيئة آمنة مستدامة في المؤسسة الصحية، ومناصرة “التغطية الصحية الشاملة” والتي تعني بكل بساطة العمل المجتمعي من أجل ضمان حصول جميع الناس على الخدمات الصحية التي يحتاجونها بما فيها الخدمات الصحية التعزيزية والوقائية والعلاجية والتأهيلية والملطفة، ذات جودة تكفي لأن تكون فعّالة، دون أن يتسبب ذلك في حدوث عجز مالي لديهم. وهكذا يؤكد هذا الشعار على تأهيل العاملين في التمريض ومنظماتهم المهنية للعمل كشركاء في المجتمع على طريق تحقيق الصحة للجميع من أجل مستقبل أفضل.
في هذه العجالة، تزداد الحاجة أيضاً إلى تفعيل وتمكين المنظمات المهنية للتمريض، ودعمها للقيام بدورها المنشود في تطوير معايير هذه المهنة والدفاع عن حقوق أعضائها وحقوق المرضى في آن واحد، كذلك السعي إلى تحقيق الإنصاف في أجور العاملين في هذه المهنة الإنسانية، لأنها وبكل بساطة مهنة العلم والفن والأخلاق.
أخيراً وليس آخراً، وكما في مقالاتي السابقة، لا يسعني ونحن نقدم باقات الاحترام والتقدير، لكل العاملين في مهنة التمريض، أستذكر ما كتبته في مناسبة سابقة:
“عندما تساعد شخصاَ وتغير حياته، فأنت إنسان غير عادي، وعندما تنقذ حياة شخص ما، فأنت بطل، أما إذا كنت تساعد الناس وتنقذ حياتهم كل يوم، فأنت تعمل في التمريض”.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً