تقوم الانتخابات على فكرة اختيار الجموع لحكامهم بشكل (متعادل).. النموذج السياسي الغربي لممارسة الديمقراطية يتأسس بصورة محورية على إجراء الانتخابات كمنهجية وآلية للتداول السلمي على السلطة.. فالانتخابات ليست غاية (كما تحور المفهوم لدينا) بل وسيلة للاحتكام لبلوغ السلطة.. وهي أشبه ما تكون بعملية تجديد الدماء في جسد الدولة وإن أعادت انتخاب المترشح.
الانتخابات في الدول المتقدمة (فكرياً ومعرفياً) ترتكز على بيئة (نظيفة) ثقافياً وقانونياً.. يشترك الناخب والمُنتخَب في قواعد المواطنة.. ويشتبكون أمام القضاء للفصل.. ثم يقبل المتنافسون ما تفضي إليه عملية الاختيار.. ويظل مبدأ تحمل المسئولية القانونية والأخلاقية الرافد الحقيقي لنجاح العملية الانتخابية واللعبة السياسية برمتها.
خطأ المجتمعات (المتأخرة) سياسياً كالحال في ليبيا أنها ترى في الانتخابات بشكل مجتزأ و(منعزل) هي المفتاح لولوج عالم (الديمقراطية).. وفي ذات السياق تتلاعب النخب السياسية وبشكل متناقض وصارخ لتكييف وتطويع العملية الانتخابية وفق أهوائها.. فهي ليست على استعداد لقبول أو حتى تقبل نتائج الانتخابات إن لم تتوافق مع حساباتها.
هناك خلل بنيوي في ثقافة العقل الجمعي لمجتمعات التخلف الديمقراطي التي تفتقر للسلوك الديمقراطي القائم على التعددية وقبول الاختلاف في الرأي والعقيدة.. والرغبة والاستعداد للتعايش والمشاركة التوافقية لإدارة الدولة ذلك الغطاء الشامل للجميع. قبل أيام وفي بريطانيا (العظمى) تولى بكل سلاسة رئاسة الحكومة (وفق آلية انتخابية) متوافق عليها إنجليزي من أصل هندي وديانة هندوسية.. بينما صار أمر بعيد المنال نتيجة (فيتو) خبيث ليبي (شمالي) أن يتولى هرم السلطة ولو (انتخابياً) شخص من الجنوب عربياً كان أو تارقي أو تباوي.
في القصة الليبية (المحزنة) صارت مفردة (الانتخابات) هي (التريند) في الأزمة السياسية.. كل الساسة الأجانب المعنيون بشؤوننا.. و(أشباه) الساسة المحليون يلوكونها بألسنتهم على مدار الساعة.. الأمريكان والإنجليز والفرنسيس والطليان والألمان والأتراك والمصريين والخليجيين وحتى جارنا الغربي (الديمقراطي الجديد) (تبون) يدعون جميعهم لإجراء الانتخابات كحل وحيد لأزمة الشرعية في ليبيا.. لكن لا أحد قدم وصفة واضحة المعالم والآجال لإجرائها.. حتى صارت نوعاً من الترف واستهلاكاً للوقت وتقصيراً لأعمار شعب ليبيا التعيس.
كانت هناك مسرحية كوميدية ولكنها حقيقة (تراجيدية) تعرض قبل نحو عام على مسرح الحدث الليبي لإجراء أول انتخابات رئاسية ليبية غير مسبوقة متزامنة بانتخابات برلمانية وممزوجة بنكهة تاريخ 24 ديسمبر (اليتيم).. غير أن المُخرج الأميركي ووكلائه (ستيفاني ونورلاند) كانا يخدعان الجميع ويضحكان على الجميع وسط أهازيج وآمال ساذجة في أن انتخابات (شفافة) وديمقراطية ستفرز قادة جدد لليبيا ستجرى.. لكن الذي جرى مجرد جولات سياحية أو سياسية (سِيان).. وحلقة مفرغة من استهلاك أعمار أبناء البلد وثرواتها.
رئيس مفوضية الانتخابات ورئيس حكومة الوحدة تمكنا بدهاء من حيازة (براءة) تفويت فرصة الانتخابات الرئاسية الأولى على الإطلاق في ليبيا.. وتمكنا من خلق فرص عمل للإعلاميين في القنوات الليبية الهجينة الخِطاب والجنسية.. لتستضيف المهرجين والغوغائيين والسذج ليقدموا التحليلات لماذا أجهضت الانتخابات الليبية.. بينما الماكرون في إسطنبول والبالم سيتي بـ(جنزور) قرروا وأد التجربة وحلم الأمة الليبية في الاختيار بذريعة ظهور القوة القاهرة من سبها!.
المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.. هكذا يقول تراثنا.. وعلى هذا القياس لابد أننا كفرة.. حيث نحاول أن نصدق أن الانتخابا ستلد لنا ليبيين بمستوى عالي من (جينات) متفردة من النزاهة والشفافية.. فالمجلس الأعلى للدولة وهم النسخة المتحورة من المؤتمر الوطني العام المنتخب قبل أكثر من عشر سنوات.. و(غريمه) مجلس النواب (المنتخب) وقد دخل عامه التاسع يشتركان بكل ما يملكان من سلوك نرجسي جمعي في البقاء (مكرشين باللهجة الليبية) في السلطة.. ليقدما بذلك حالة سياسية جديدة فريدة من الدكتاتورية الجمعية إن جازت التسمية.. لأن الدكتاتورية ارتبطت بالفردية.
ماذا يعني إجراء انتخابات (ذات صدقية) على رأي الراحل عن بعثة الأمم المتحدة للدعم UNSMIL غسان سلامة؟.. ببساطة.. سيختفي من المشهد السياسي المستشار عقيلة ورفاقه النواب.. والسيد المشري وزملائه المستشارين.. والمهندس الدبيبة ووزرائه (الروبوتات) المتبقين ومن والاهم جميعاً.. وآخرين من دونهم لا نعلمهم الله يعلمهم.. وسيصبح محافظ المركزي ورؤساء مفوضية الانتخابات وديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية ومكافحة الفساد ومؤسسة الاستثمار في مرمى نيران التغيير والإزاحة الحتمية من المنتخَبين الجدد.. بإجراء انتخابات ستتوقف حنفية (سويفت) البنك المركزي عن الضخ في حسابات الشخصيات (المافيوزية) محلياً وإقليمياً ودولياً.. ولكن للأسف من هول الكارثة على ليبيا وقسوة الأقدار التي يعيشها (الناخب) الليبي أن كل الخصوم السياسيين المتفرقين بشدة تجتمع مصالحهم المتباينة حول تعطيل إجراء الانتخابات إلى أن يقضي (الأمريكان) أمراً كان مرسوماً يوماً ما عام 2011م.
الواقع أن ليبيا ليست استثناء في لفظ جسدها لعملية زرع الانتخابات.. فباستعراض سريع للمنطقة العربية.. الأمر يبدو ملتبس تجاه فلسفة الانتخابات ومغزاها.. ومقدار التشوه في فهم فكرة الدولة عميق جداً.. فـ(مبارك) مصر و(بشير) السودان و(زين) تونس و(عزيز) الجزائر.. كانوا يجرون انتخابات (مفصلة) ويفوزون بها مراراً.. ولا عزاء للديمقراطيين.. بالمقابل صارت التجربة (الديمقراطية) اللبنانية مسخرة.. حيث يلتصق رئيس مجلس النواب (نبيه بري) بكرسي البرلمان لأكثر من ثلاثين سنة كحاكم فعلي.. ويتبدل رؤساء الدولة كإجراء بروتوكولي (مضحك) لا معنى له.
في ظل هذه المتاهة (الليبية) تقفز أسئلة جوهرية وشرعية إلى الذهن.. من الذي يفكر للشعب الليبي حتى يتخلف بهذا الشكل؟ من الذي يقرر للشعب الليبي لكي يلقى هذا المصير البائس؟ هذا الذي يجري في ليبيا.. من يقف وراءه بالتحديد؟.. الأجوبة الكلاسيكية المتداولة منذ خمسينيات القرن الماضي من قبيل الدكتاتورية والمؤامرة والاستعمار لا معنى لها الآن.. نحتاج بيوت للتفكير والمراجعة والنقد.. نحتاج أن نفهم ونشخص واقعنا بوعي ومسئولية.. وإنتاج النموذج الملائم لنا ولثقافتنا وموروثنا الخاص.. لأن استنساخ عمل الغير بشكل انتقائي كـ(الانتخابات) على الطريقة الغربية سيكون مجرد هروب جماعي للأمام.
أنا لا أعلم من ذا الذي سيخرج ليبيا من ورطتها غير العلي القدير؟.. فلا أبنائها من أشباه الساسة المتحكمون في أمرها.. المحكومون) من وراء حدودها راغبون أو قادرون.. ولا طابور مبعوثو الأمم المتحدة مكترثون وجادون.. وسيظل أمر إجراء انتخابات رئاسية حقيقية مجرد “سراب” يحسبه المنتظرون حلاً.. وإن أُجريت فستكون نتاج صفقة إقليمية – دولية على
غرار (كرازاي) أفغانستان.. تقودنا للمجهول.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً