لعل اهمية تونس لا تخفى عن العارفين بتاريخ وجغرافية المنطقة الشمالية للقارة الافريقية، لذلك تميزت باسم يدل على هذه الاهمية، فاسم تونس التاريخي الذي يتفق عليه البعض هو “تونست نيلل” وهو اسم امازيغي ترجمته الحرفية “مفتاح البحر” فكلمت “مفتاح” العربية يقابلها بالامازيغية لفظ “تونست” وقد اسقطت التاء لتصبح “تونس”، ولفظ “ايلل” يعني البحر، فهي مفتاح البحر الابيض وجوهرة من جواهره.
وقد كان البحر الابيض في سالف الازمان من اهم معابر التجارة العالمية، بل لا نتجاوز الصواب ان ذهبنا الى القول ان البحر الابيض من اهم بحار الدنيا في ازمان مضت، وربما لا زال. حيث نشأة على جانبية جل الحضارات التى عرفتها الانسانية، وكان منطقة نزاع وتعاون بكل ما تحمله الكلمتين من معان، تزاوجت فيه كل الحضارات التي عرفت قديما كالحضارة الفرعونية والاغريقية والرومانية والفينيقية، لذلك كان لابد ان تكون للدولة التي تمتلك مفتاح البحر اهمية مميزة، وقد تبؤت تونس هذه الاهمية لموقعها هذا.
انجبت تونس في ماضيها عملاق علم التاريخ والاجتماع، الذي اصبح علم عليها، لا تذكر تونس الا ويكون اسم ابن خلدون صنوان لها، كما انجبت تونس احدى اقطاب شعراء القرن الماضي، والذي تميز ليس بقدرته ونبوغه الشعري فحسب، بل بالمعاني التي تغنى بها، لذلك علا صيته وارتفعت قامته سامقة في السماء كنخل بلاده. وقد كان في قصائده محرضا على الحياة داعيا لها. في قصيدته ” أينَ يا شعبُ قلبُكَ الخَافقُ الحسَّاسُ؟ ” يقول فيها:
أينَ عَزْمُ الحياة ِ؟ لا شـــيءَ إلاّ الموتُ، والصَّمتُ، والأسى ، والظلامُ
عُمُــرٌ مَيِّتٌ، وَقَلْبٌ خَـــــــــواءٌ ودمٌ، لا تثــــــــــــــــــــــــــيره الآلامُ
وحياة ٌ، تنامُ في ظلمة ِ الوادي وتنْمـــــــــــــــو من فوقِـــــها الأوهام
ويستمر في قصيدته التحريضية على الحياة هذه فيقول:
قد مشتْ حولَك الفصولُ وغَنَّتْكَ فلم تبتــــــهـِجْ، ولمْ تـــــترنَّــــــــمْ
ودَوَتْ فوقَك العواصِفُ والأنواءُ حَتَّ أَوشَكْـــــتَ أن تتــــــــحـــطـَّمْ
وأطافَتْ بكَ الوُحوشُ وناشتْك فلم تضطـــــــرب، ولم تتـــــــــألمْ
يا إلهي! أما تحسُّ؟ أَمَا تشدو؟ أما تشــــــتكي؟ أما تتكلَّـــــــــــــمْ؟
يري الشابي ان كل عناصر الحياة غابت، وهو بقوة يهز الروح فينا لنحيا، يذكرنا ببهجة تعاقب الفصول حتى نتفاعل معها، وكذلك ينبهنا الى الوحوش التي تطوف حولنا، وهو بالتاكيد لا يقصد وحوش الغاب، وانما وحوش بني البشر من فصيلتنا، تفعل فينا الافاعيل فلا نتحرك، وكاننا خدرنا بمكرها او وجلا من سطوتها، بل اسواء من ذلك موتى لا يرتجى منا حراك، يقول:
ملَّ نهرُ الزّمانِ أيَّامَكَ الموتَى وأنقاضَ عُمــــــرِكَ المتــــــــهدِّمْ
أنتَ لا ميِّتٌ فيبلَى ، ولا حيٌّ فيمشي، بل كائنٌ، ليـــــس يُفْهَـــمْ
وختاما لهذه القصيدة التحريضية يقول:
أنتَ لا شيءَ في الوجودِ، فغادِرْهُ إلى المـــــــوت فَهْوَ عنك غَنِـــيُّ
ويستمر الشابي في تحريضه على الحياة بشدة اكبر في قصيدته التي عنونها ” أيْها الشعبُ! ليتني كنتُ حطَّاباً “:
ليتَ لي قوَّة َ العواصفِ، يا شعبي فأُلقي إليكَ ثَــوْرة َ نفـــــــــسي!
ليت لي قوة َ الأعاصيرِ! إن ضجَّتْ فأدعوكَ للحيــــــــاة ِ بنبـــــسي
الى ان يقول:
ســوف أتلو على الطُّيور أناشيدي، وأُفضــي لها بأشـــــواق نَفْسي
فَهْي تدري معنى الحياة ، وتــدري أنّ مجدَ النُّفوسِ يَقْظَـة ُ حِـــسِّ
هكذا تغنى شاعرنا بالحياة وللحياة، والحياة لا تكتمل الا بنصابها من الحرية والكرامة، فكانت اشهر قصائده تلك التي غنى فيها الحرية والكرامة الانسانسة، وقلما وجد من يتحدث لغة الضاد ولا يحفظ عن ظهر قلب بيت الشعر الذي يقول:
إذا الشــــعـب يوما اراد الحيــــاة فلابد ان يستــجيـــب القــــدر
ولابد لليــــــــــــــل ان ينجــــلي ولابد للقيــــد ان ينكــــــــسر
والذي يحفظ هذا البيت من عموم الناس ربما لا يعرف من قاله، لكنه يتغنى بالمعاني الجميلة فيه، تلك المعاني التي تذهب الى ان القدر طيع والليل قصير والقيد لين اذا اردنا الحياة. وكما نعرف فهو مطلع قصيدة الشابي الرائعة التي نعجز على ان نختار فيها بيتا بعينه، فنقرأها كلها او نتركها كلها، يقول الشابي في هذه القصيدة:
ومن لم يعانقه شوقُ الحياة تبخَّرَ في جوِّها، واندثر
فويلٌ لمن لم تَشــقُهُ الحياة ُ منْ لعنة ِ العَدَمِ المنتصرْ
ولا نعجز على ان ندرك المعنى الذي يتضمنه البيت، فاما الحياة وام العدم، هذا ما “وشوشة به الكائنات” وهذا ما “تحدث به روحها المستتر” لشاعر الحياة ابوالقاسم الشابي رحمه الله.
وارادة الحياة لا تعني الركون الى الامل والحلم، بل الى العمل من اجل غرسها واقع في حياتنا، وقد تنبه الشاعر لهذه الحقيقة حيث قال:
إذا ما طَمحْتُ إلى غَايــــــة ٍ ركبت المنى ، ونسيتُ الحذر
وَمَنْ لا يحبُّ صُعُودَ الجبالِ يَعِــــشْ أبَدَ الدَّهْرِ بينَ الحُفَرْ
فَعَجَّتْ بقلبي دماءُ الشَّبابِ وضجَّت بصدري رياحٌ أُخَرْ..
عندما كنت تلميذا في اولى اعوام الثانوية العامة بمدينة طرابلس، تعرفت على قصيدة من قصائد المعارضات الشعرية لقصيدة الشابي يقول مطلعها:
أبا القاسم قد أردنا الحيــــــــاة فثرنا لها واستجاب القــــــدر
وها ليلنا قد بدا ينجلــــــــــــي وها قيدنا قد هوى وانكســــر
وها فجرنا قد أطلّ علينــــــــــا يُطارد ظلما توارى اندحــــــر
كان واقع ليبيا حينها قد بدى مراحل انتكاساته على يد نظام معمر، فقد تقلص افق الحرية فيها، واصبحت صورة الاستبداد تهيمن على مخيلة العارفين ببواطن الامور، ولم اكن على درجة من الوعي اقدر فيها حجم المأساة التي ستمر بها ليبيا، الا ان الكلمات كانت تستهوينا في سن المراهقة، ومع جهلي وحداثة سني الا اني لم استوعب هذه المعارضة الشعرية، فواقع الحال يقول اننا بعيدين كل البعد عن الواقع الذي ترسمه هذه الابيات، اذ بدئنا دخول ليل كنا نخشى طوله، ومعاصمنا اصبحت تتحسس ضيق القيد، والظلام يزحف صوبنا من كل حدب.
لا ادري لماذا ارتبطت هذه القصيدة في مخيلتي باستاذي الشاعر الفاضل السيد نور الدين صمود الذي كان يعمل حينها في مدينة طرابلس معلما لمادة اللغة العربية والنصوص الادبية، وقد كنت احد تلاميذ فصله. كنت اعتقد انه هو من كتب هذه القصيدة، ربما لارتباطه الجغرافي بالشابي فكليهما من تونس.
تونس تدعون الى الحياة مرة اخرى عبر هذه المعارضة الرائعة في معانيها لقصيدة الشابي، ولا تكتفي القصيدة بالحت على الحياة، بل سردت الاسباب التي يتخدها محبي الحياة لتحقيق الحياة، تستمر القصيدة فتقول ابياتها:
أبا القاسم قد صعدنا الجبــــال ولم نرض بالعيش بين الحفر
ولم نرض غير البلاد بديـــــلا نمـوت ونحــيا هنا كالشّــــجر
ولكن كيف، هنا تدكرنا القصيدة بحكمة امير الشعراء شوقي التي سطرها شعر، بان ابواب الحرية لا تطرق الا للايادي المظرجة بالدم، تسترسل بنا القصيدة فيقول الشاعر:
هنا قد أُريقت دمانا وسالـــــت تُروّي البطـاح وتَروي الحـجر
هنا مات يحيى هنا مات حــامد هنا مــات زيـن الشّباب عمــر
هنا مات ساسي هنا مات قاسم بعُمْرالرّبيع ، ربـيع الـــــعُمُر
هنا أمســـنا ،يومنا ،غدنـــــــا هنا الأرض والأصل و المستقرّ
ومازال شــعبي يفُــــكّ القيـود فنــــحن نموت لكي ننتــصــــر
من تونس “مفتاح البحر”، طلت علينا تونس بدعوتنا الى الحياة على لسان شاعرها المرهف ابوالقاسم الشابي رحمه الله، ومن تونس مرة اخرى هبة اول نسمات الحرية والانعتاق من ربقة الاستبداد القاتل، حين ارتفعت روح المرحوم محمد البوعزيزي من تلك المدينة القصية المنسية من ولاية سيد ابو زيد. ومع تصاعد روح البوعزيزي، انتثر في الافق عبير الحرية، وقد كتبت حينها مقال بعنوان “لريح الحرية نكهة” نشرته بموقع ليبيا وطننا في الثاني من فبراير 2011 كتبت فيه “ان النار التي اوقدها البوعزيزي ستلهم المتعطشين للابداع ان يرسموا صورة المستقبل الذي حلموا به طويلا، و آن للنار التي اوقدها البوعزيزي ان تُلهب وتحرق الغاصبين الذين سرقوا كل شيء جميل في حياتنا”. وفعلا كان احتراق جسد البوعزيزي ملهم للتغير، كان المدفع الذي دكا معاقل الاستبداد فتساقط رؤوسه المتداعية.
وتخرج علينا الان تونس مرة اخرى، من ازمة كادت ان تعصف بها، وتبعث بانعدم التقة في التغيير، خرجت علينا مرة ثالثة بوفاق رائع بين الفرقاء، تنازلت فيه اكبر القوى السياسية عن السلطة طواعية، فقد عرف التونسيين ان حل الازمات لا يتم الا تحت سقف التوافق، وان تونس اغلى واثمن من المصالح الانية التي تتحقق للتكتلات السياسية المختلفة. لقد وعى فرقاء تونس أن ما يجمعهم من منافع اكبر مما يفرقهم من مصالح. فتقدمت اربع منظمات وطنية بمبادرة لحل الازمة السياسية في تونس، كونت هذه المنظمات الاربع، وهي الاتحاد التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان لجنة رباعية لرعاية الحوار الوطني، وتقدمت بخارطة طريق واضحة احتوت على بنود رئيسية هي:
1) حل حكومة النهضة وتعويضها بحكومة كفاءات وطنية غير متحزبة، وقد قيدت الحكومة المراد انشائها بمهام محددة وجدول زمني لتنفيد هذه المهام.
2) المحافظة على المجلس الوطني التأسيسي وتمديد فترته، مع تحديد مهامه وتحديد مدة زمنية لانهاء مهامه.
لقد افرز المجتمع التونسي قوى اجتماعية خيرة ووسطية متمثلة في اللجنة الرباعية استطاعت ان تفرض خارطة طريق واضحة وتجمع عليها الفرقاء السياسيين، وهذا يضاف لرصيد تونس الحضاري كما يضاف الى رصيد هذه اللجنة الخيرة، على انه يجب ان نعترف بان اللجنة لم تكن وحدها بقادرة على فرض خارطة الطريق هذه وجمع الفرقاء لولا حيوية الشارع الذي انجب البوعزيزي، فقد تحرك الشعب التونسي في مسيرات سلمية يوم 26 سبتمبر 2013 في عدد من المدن التونسية مطالبا فيها الحكومة والاحزاب السياسية بقبول خارطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية. واخيرا، اسفر الحوار الوطني في الاتفاق على تكليف السيد المهدي جمعة لتشكيل الحكومة البديلة. على التونسيين ان يثمنوا تجربتهم عاليا ويبنوا على هذا التوافق ليضربوا امثالة جديدة على حضاريتهم ومدنيتهم، وكما كانو قدوة للثورات فليكونوا استاذة للوفاق.
هكذا قدمت لنا تونس درسا في الحياة، ودرسا في الثورة ودرسا في التوافق الاجتماعي، فهنيئا لتونس الامل وتحية لتونس المثل. ونرجوا ان تفرز الحالة الليبية لجنة وفاق وطني تعمل على رعاية حوار جاد يخرج بليبيا من ازمتها الى بر الامان.
والله من وراء القصد
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً