لماذا فتح عقيلة أبواب مربوعة القبة امام قبول ملفات الترشح لحكومته المزعومة!؟
ليس هناك من جواب لهذا السؤال سوى محاولة عقيلة والقاهرة مواجهة رغبة الرجمة، والتي يبدو أنها قد انخرطت فيها فعلا، وهي تمكين البرلمان من إجراء انتخابات تجديد الرئاسة فيه، والتي إن تحققت ستكون وبكل تأكيد (رغم مجيئها متأخرة ولأكثر من عقد) أول عملية إصلاح سياسي حقيقي منذ تورط ما يسمى بالمؤتمر الوطني العام بخضوعه لأوامر الإنجلوسكسون بتفكيك الدولة الليبية، كما أن كثيرون لا بد وأنهم سينظُرون إلى هذه الخطوة باعتبارها الأقدر (حتى وإن لم تنته إلى حل أزمة البلاد) على إسدال الستار على واحد من أكثر العهود السياسية الليبية عفونة وفسادا (خلال المائة عام الجارية على الأقل) من تاريخ البلاد السياسي، وهي العملية التي يُتوقع – بحال أفلحت الرجمة بتنفيذها – أن يُصفق لها الناس حتى تلتهب أكفهم، بل وسينظر كثيرون لهذا التغيير باعتباره الإصلاح السياسي الجوهري الوحيد الذي تشهده البلاد، منذ أول لحظة اندلق فيها علينا مُخاط السنوات العجاف الجاريات منذ ما يقارب الخمسة عشر عاما، كما أن هذه الخطوة (إن تحققت) فستكون الخطوة الأكثر أهمية باستكمال خطوة تطهير مجلس الدولة أو خطوة التخلص من خالد المشري، الذي يُعد الوجه الأكثر تورطا بتمكين أجندات خارجية من إتمام صناعتهم للدولة الليبية الفاشلة وتمزيقهم لوحدة البلاد، والشخص الذي يمثل المعول الأشنع بإهدار كل فرص السلام ولم شمل البلاد بأوقات ثمينة، وصاحب المخالب الآثمة التي عملت بلا كلل على شق وتعميق الانقسام والعنف والفوضى والفساد، ورفع هذه الموبقات إلى درجاتها الرجيمة الحالية، بل والشخص الذي رفض نزع مخالبه من لحم السيادة الليبية إلا عقب انتهاءه من توريط البلاد بأرذل أشكال الاحتلال العسكري الهجين المشكل من خليط من المرتزقة والقوات الأجنبية الرسمية.
ولأن الرجمة قررت على ما يبدو تجاوز القاهرة باتخاذ قرارها بإرسال عقيلة إلى مقاعد المتفرجين البرلمانية، وهي المقاعد التي خلقها عقيلة بنفسه، بتحويله كل كراسي البرلمان، إلى كراسي نفر من الجن غير المرئيين، أو جماعة من المُجاملين في لمة مجهولة، لا يعرف أصحابها إن كانوا في مأتم، أم في عقد قران، أم في (طهور)، أم إنهم ملمومين حول عقيقة (مزيود)، حيث يبدو أنه قد حان الوقت لإذاقة عقيلة وبال أمره بإنزاله للجلوس على أحد هذه الكراسي، التي تورط هو بإجبار كل كرسي منها على استمراء التفاهة والتهميش حتى النخاع، وبقتله لكمُّها المهم حتى جعله كماً مُهملا لحساب الانتصار الدائم للمصالح الأجنبية التي تشكلت من خليط متخبط من المصالح العربية والعجمية.
ولأن القاهرة على أغلب الظن لم تكن معزومة لحضور حفلة إعلان نوايا غسل قبة البرلمان من أدرانها التي لحقت بها خلال ما يزيد عن العقد الكامل، ولأن “قصر القبة” قد أثبت طوال مرحلة ما بعد مرسي بأنه لا يرى أحدا في ليبيا سوى عقيلة، فقد كان من الطبيعي أن ترد القاهرة وبكل قوتها بمكافحة عملية الغسيل هذه، وهو ما دفعها إلى تجهيز “مبادرة لمة الـ 100 نائب” بديارها، ليقيم عليها عقيلة لاحقا مزادا علنيا لبيع حكومته المزعومة، وكان أن أشار عقيلة فعلا من بين حيثيات نيته بتشكيل حكومته إلى لقاء الاجتماع النيابي الأخير بالقاهرة، إضافة إلى دمجه لمخرجات استضافة أبو الغيط لـ”ثلاثي أضواء المسرح” الذين ابتلينا بهم، باعتبار أن هذه المخرجات هي الأخرى – بحسب عقيلة – من بين أهم الركائز الشرعية للخوض باستلام أوراق المترشحين لحكومته.
إن القاهرة وهي تتابع عن كثب حجم المكاسب التي يمكنها أن تُحصد من ليبيا من وراء لعب طيف واسع من الأدوار فيها، لا يمكنها أن تكون إلا مفتوحة الشهايا تجاه كل ما يجري في ليبيا، لا سيما وهي ترصد باهتمام بالغ حجم المكاسب الكبيرة التي يحققها أردوغان على التراب الليبي من خلال قفزاته المدروسة على الحبل المشدود بين واشنطن وموسكو، سواء بالتهامه للمليارات التي بات يبتلعها من على موائد طرفي الصراع، أو بتحقيقه لقفزاته الإقليمية الاستراتيجية من فوق هذا الحبل، والتي كانت آخرها القفزة التركية نحو دولة مالي، التي أضحت آخر فتوحات أردوغان التي بدأ العمل فيها جديا على تحقيق نفوذ سياسي وعسكري يُتوقع أن يضيف إلى أنقرة كرسيا جديدا على موائد الكبار وفوق صفحات أجندات تقاسم المصالح الإقليمية الأوسع، لقد باتت القاهرة اليوم أكثر إدراكا أو أكثر تجردا حيال فكرة اللعب في ليبيا، بعد أن أضحى هذا اللعب أكثر جاذبية وإغراء من ذي قبل، نتيجة تصاعد تسخينات الصراع الأمريكي الروسي الذي حول ليبيا عمليا إلى سوريا شمال أفريقيا وبدأ بفتح أبوابها أمام الحاجة الواسعة إلى خدمات السماسرة والمقاولين والوكلاء، ولا سيما وإن القاهرة لن تجد كبير عناء بتعظيم هذه المكاسب من خلال المراكمة على الدور الذي تلعبه اليوم فعليا قرين أردوغان لصالح واشنطن في ليبيا، وهو فرضهما سويا لما يسميه الإنجلوسكسون بتوازن الرعب، الذي خلقوه حول ما أسموه بخط الهدنة، الذي قطعوا به أوصال ليبيا وحولوها من خلاله إلى نموذج آخر للكوريتين والقبرصيتين، وعليه فلقد كان من الطبيعي جدا أن تقوم القاهرة بأقصى ما تستطيع من أجل إحباط عملية مكافحة (التخلص من عقيلة) بسبب حاجتها الاستراتيجية لاستمرار وجوده على رأس (برلمان الرأس الواحد)، سواء ليُغني هو بلسان القاهرة الكثير من المواويل التي تريد أن تغنيها في ليبيا، أو لكي يُمهد لها الظروف المناسبة لتغني هي مواويلها بنفسها.
إن ليبيا التي باتت غنية أشد الغنى بطرح فرص اللعب على حبال التناقض الإنجلوسكسوني الروسي فيها، في أعقاب تحولها إلى الضحية الأكثر ترشحا لإلحاقها بمصائر سوريا وأوكرانيا وغزة، كنتيجة لاشتعال الصراع الروسي الأمريكي المباشر فيها، لن تتغافل فيها القاهرة أبدا (ومهما كانت علاقتها بالرجمة) على ترك حليفها الاستثنائي عقيلة صالح يواجه معركة الإطاحة به منفردا، ومن هنا فإنه يظل السبب الحقيقي والوحيد وراء ظهور النبتة السفاحية لحكومة عقيلة، هو نية عقيلة وحلفاءه ابتزاز ومساومة الرجمة على التخلي على ترتيبات الإطاحة به، مقابل توقف هذا الأخير عن إتمام مشروع حكومته المزعومة، التي يتصور عقيلة وحلفاءه بأنه يمكن لإنتاجها أن يخلق (ليس تهديدا يُذكر للرجمة)، وإنما قدرا مُعتبرا من (دراه الكبد) الذي يمكنه أن يكون كافيا لإزعاج الرجمة، حد دفعها إلى مقايضة إبطال إجراءات اختلاق الحكومة المزعومة، مقابل قبول الرجمة بقاء عقيلة في منصبه، لا سيما وإن هذا الأخير وحلفاءه يعلمون بأهمية هذه التجربة (والتي هي خير من الاستسلام السهل للسقوط الذي يختزن لعقيلة فور وصوله إلى الأرض شرا لا يمكن تصوره) وذلك حتى وإن ظلت الحكومة التي يخطط عقيلة لإنتاجها، مجرد حكومة معلقة أو عديمة الحضور والحيويه خارج مربوعة القبة، حيث أن عقيلة وحلفاءه لا تنقصهم الدراية بأن وجود مثل هذه الحكومة، حتى ولو ظلت معلقة، ولا سيما بحال نيلها النصاب، أو حتى بحال أوهم عقيلة العالم كعادته بنيلها لهذا النصاب، كما سبق له وأن فعل مع قرار تحقيره للدينار وتمريره لقانون الميزانية الإنجلوسكسونية، أو حتى بحال اختلاقه لنزاع أو جدل سياسي أو إثارته لغبار دستوري فوضوي حول شرعية حكومة حماد، فإن هذا الوضع يمكنه أن يكون محرجا أشد الحرج لحكومة هذا الأخير ومن وراءها الرجمة، وذلك لجهة انتهاء قدرة حماد على ادعاء شرعية البرلمان، التي تعد سند حكومته الشرعي الوحيد بمواجهة شرعية غريمه الأجنبية في الحرب الجارية بينهما، ولعل ما جعل استنفار القاهرة وعقيلة يتسم بكل هذه العجلة والضغط والعناد، هو خطورة جدية إصرار الرجمة هذه المرة على الإطاحة بعقيلة لأربعة أسباب يُشكل كلا منها واعزا استراتيجيا للرجمة لم تعد بوارد مواصلة تجاهله.
ويقوم أول واعز استراتيجي منها على حقيقة أنه لم يسبق للرجمة وأن أتيحت لها فرصة بهذه الأهمية للتخلص من عقيلة، وذلك في ظل تحول واشنطن إلى قطة أليفة لا تملك غير التمسح بأقدام قائد الرجمة، لا سيما وإن هذه الواشنطن قد أعلنت رسميا وبلغة صريحة وعبر أعلى منابرها السياسية عن اضطرارها لهذا التمسح، وذلك خلال الإحاطة التقييمية التي قدمتها سفيرتها الجديدة في ليبيا جنيفير جافيتو أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ، والتي أفادت فيها بما معناه بأننا نحتاج إلى مغازلة الجنرال حفتر ومحاولة احتواءه بلا حدود حتى تحقيقنا (لهدفنا الأشد أهمية في ليبيا اليوم) وهو إبعاد الجنرال كليا عن موسكو، ويمكنني الشهادة هنا بأنني قد التقطت شخصيا العديد من صور ومظاهر هذا التمسح القططي الأمريكي بسيقان الجنرال، والذي لا بد وأن تكون أولى مظاهره (وهو ما حدث فعلا) هو تحول عين واشنطن إلى (عين كليلة) تجاه كل سياسات الرجمة مهما كانت مخالفة لسياساتها في ليبيا، بينما كانت هذه العين الأمريكية (وحتى وقت قريب) هي ذات العين بشعة الحُمرة تجاه كل سياسات الرجمة وخاصة تلك المعبرة عن غضب هذه الأخيرة من عقيلة صالح، حتى أنها تكاد لا تكون عينا بل مرجلا فلزيا من لهيب من نار، تعتليه روحا شريرة مناهضة ومتصدية أشد التصدي لكل سياسات الرجمة وتوجهاتها، والتي كان من بينها تدخل واشنطن (التهديدي) المتكرر بصورة مباشرة أو عبر وكلاءها الإقليميين لتوفير الحماية لعقيلة كلما ثارت حوله موجة من موجات غضب الرجمة عليه، بل ولقد تدخلت واشنطن لفرض عقيلة على الجنرال حفتر فرضا، بل وحد تهميش هذا الأخير كليا لحساب عقيلة، وإلى درجة تحويل الرجمة إلى كيان محرم على كل المسؤولين الإقليميين والدوليين ولمدة ليست بالقصيرة، وبمن فيهم مسؤولي القاهرة وأبوظبي بوقت كانا فيه من أهم حلفاء الرجمة، حد قيامهما خلال الفترة بتحويل كل لقاءاتهما مع ممثلي الرجمة إلى بلديهما، وهو العزل والتجاهل الذي بدأ فور انتهاء حرب 2019 (التي واجه فيها الجنرال منفردا ائتلافا حربيا من “ترامب وبوتين وأردوغان”)، واستمر (أي ذلك العزل) على شدته حتى أطرقت أولى أخبار التوسع الروسي في ليبيا مسامع واشنطن، ويبدو من الواضح جدا أن التمسح الأمريكي الأليف بقدمي الجنرال وربما بجزمته أيضا، والذي بدأ عمليا من لحظة إعلان جافيتو عن سياسة بلادها الجديدة تجاه الرجمة وحتى موعد تحقيقها المزعوم لطلاق الرجمة من موسكو الذي قد تقضي واشنطن عمرها كله في انتظاره، سيكون هو أفضل الأوقات للرجمة لتحويل صوتها بشرق البلاد إلى الصوت الأوحد الذي لا شريك ولا مُكدر له.
ولعل ما جعل عقيلة يُظهر كل هذا العناد بتشكيل حكومته المزعومة، هو أن بعض من مظاهر وصور هذا التمسح قد وصلت إليه فعلا، كما يبدو واضحا أن هذه الصور قد استطاعت توعيته بوضعه الجديد الذي يؤكد فرضية إشاحة واشنطن بوجهها عنه مهما علا صراخه لطلب النجدة حال أن تمسكه قبضات الرجمه من قدميه وطرف جلبابه لإنزاله من علياءه إلى حيث كراسي المهمشين التي صنعها بيديه، وعليه فإن الرجمة لن تجد أثمن من هذا الوقت لإرسال عقيلة إلى الظلال المعتمة التي أغرق فيها كل نواب الشعب ولما يقارب عن العقد من عمر الزمان.
ولعل ما يشجع الرجمة وبقوة على قطع هذه الخطوة هو أن استبدال الرجمة لعقيلة بشخصية من صنعها (وهي السنة الأكثر تفضيلا لدى قادة الكيانات الثورية وخاصة المسلحة منها) سيجعلها هي صاحبة الفضل على الرئيس الجديد وليس العكس، كما هو واقع الحال الذي جرت عليه العادة مع عقيلة، حيث أنه لطالما تباهى عقيلة بمجالسه الخاصة بفضله على الجنرال، ولطالما استخدم أيضا (هذا الذي يراه فضلا منه على الجنرال) بإبراز رذيلة نكران الجميل لدى الرجمة عبر توجيه لومه وانتقاده لها تلميحا وتصريحا، في إطار تقديمه الدائم لنفسه باعتباره (سنمَّار الرجمة)، الذي لم يلق منها غير تهديد مركزه بعد أن منحها الاعتراف ومنح لقوتها العسكرية الشرعية الدستورية، التي يصر عقيلة على أنها هي التي أحرجت غرماء الجنرال بغرب البلاد، كما أن عقيلة لطالما حرص على تذكير من حوله بأنه هو الذي رقى ووسم خليفة حفتر بنفسه، وواصل ترقيتة وتوسيمه حتى أوصله إلى أعلى المراتب العسكرية، بينما سيتحول هذا الحال جذريا مع رئيس جديد للبرلمان، لأنه لن يكون أمامه سوى أن يلهج دائما بحمد الله والرجمة (الذي لن يخالطه غضب أبدا) على ما هو فيه من فضل ونعمة.
وأما الواعز الاستراتيجي الثاني، فهو استنفاد الرجمة لكل صبرها أو دخيرتها حيال مرات تصالحها مع عقيلة، والذي لطالما كانت القاهرة نفسها شاهدة على الكثير من مراتها، حيث أنه من الواضح جدا أن الرجمة قد قررت الاستفادة من الظروف الراهنة لوضع حد لإصرار عقيلة على إزعاجها وابتزازها في كل مرة بممارسة دور الند أو حتى السيد الأول، وحد ذهابه بعدد من المرات إلى التحالف مع أعداءها من القوى المحلية والإقليمية والدولية دون تنسيق أو ترتيب معها، حد أن الغربيَّن (الليبي والعجمي)، لطالما وجدا في عقيلة المعول الملائم لعرقلة سياسات الرجمة بل وعزلها وتهمشيها هي نفسها، ولعل أخطر ما أفرزته السياسات التي مارسها عقيلة لسنوات تجاه الرجمة، هو إظهار هذه السياسات للأعداء والأصدقاء معا (و في كثير من الأحيان) لـ عمق الانقسام والتباعد بين موقفي السلطة السياسية والعسكرية بشرق البلاد، وهو ما اعتبرته الرجمة دائما ذنبا لا يغتفر، لكونه يعد تورطا متعمدا بكشف أخطر نقاط الضعف التي تؤمن الرجمة – كجهة عسكرية – بضرورة إخفاءها على الصديق قبل الغريم، بل ولقد بلغ إصرار عقيلة على فضح خلافاته مع الرجمة بقضايا محورية حد تقديمه الرجمة للعالم وبعديد المرات – بقصد أو بغيره – في صورة الجهة العسكرية الطاغية التي تريد الاستيلاء على الدور السياسي لبرلمان منتخب وتجاوز سلطته عليها، ورغم أن عقيلة لم يوفر إظهاره لتنافره مع الرجمة حتى خلال مرحلة ما قبل اتفاق برلين، التي كان إعلام الرجمة يصفه فيها بالقائد الأعلى للجيش، فإن حدة التنافر بين القبة والرجمة، بلغت خلال تفاعل مرحلة (برلين / جنيف) حد توجيه الرجمة لممثليها ببرلمان ستيفاني وليامز العرفي الموازي، للقيام بالتصويت لقائمة الدبيبة انتقاما من عقيلة ونكاية فيه.
وأما الواعز الاستراتيجي الثالث، فيعود إلى أن شدة معارضة عقيلة للكثير من سياسات وتوجهات الرجمة وإعطاءه انطباعا قويا للقوى الأجنبية بنديته لجنرالها القوي بكلا من القوة والنفوذ بمناطق شرق البلاد، بل وبتكرار إرساله لرسائل مباشرة وغير مباشرة للقوى الإقليمية والدولية بشأن قدرته على تخريب مشاريع الرجمة ومعاكسة سياساتها (وهو ما نجح ببعضه فعلا)، قد بلغ حد إغرائه لقوى أجنبية على استخدامه بمشاريع معادية للرجمة، وهو ما قد يرقى ذات يوم إلى درجة التآمر الكامل – وهو ما باتت تخشاه الرجمة جديا – لا سيما مع زيادة التدافع الأمريكي الروسي في ليبيا وتوقع تصاعد تدخل الوكلاء من القوى الإقليمية والدولية في ليبيا وزيادة مؤامراتهم فيها كنتيجة لهذا الصدام، ولعل من أكثر ما ازعج الرجمة مؤخرا، هو انطلاق عقيلة بممارسة ضغوط كبيرة فعلا لأجل مزاحمة الرجمة على حصادها الوفير الذي قام على نجاحها مؤخرا بالعمل على التناقض الروسي الأمريكي في ليبيا لتحقيق وصولها (الذي أضحى أمرا واقعا فعلا) لحيازة المعرفة اللازمة لصناعة الموارد، وهو ما حققت من وراءه ثروة كبيرة ومهمة بالشهور الأخيرة – وإن بآليات ما تزال مجهولة – سخرت جانبا مهما منها لإطلاق مشاريع إعمار ملفتة بشرق البلاد، وذلك بعد أن كان هذا الاتجاه التنموي مُحرما قطعيا على الرجمة بضغوط إنجلوسكسونية مرعبة، باعتبار أن الالتزام بهذا التحريم كان أداة واشنطن الرئيسة التي توفر لها سيطرتها المطلقة على الموارد الليبية، والتحكم بأوجه إنفاقها، وتوجيه طبيعة العلاقة بين الرعايا والقيادات بمناطق النفوذ الليبية، وهي العلاقة التي لطالما عملت واشنطن على توترها الدائم وتعمد تخفيض مستويات الثقة المتصلة بها إلى الحضيض ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، لكون هذا المثلث هو الأساس بإدارة واشنطن للتوحش في ليبيا الذي يقوم برمته على مركزية تحكمها بأطراف الصراع من خلال إدارتها للعبة توزيع الريوع مدا وجزرا، ولا سيما الرجمة التي لطالما كانت واشنطن تخشى من قدوم لحظة إفلاتها من بين يديها، والتي يبدو أنها قد جاءت فعلا.
بيد أن واشنطن قد اضطرت اليوم فعلا وهي صاغرة مكرهة على غض طرفها عن خوض الرجمة بالموارد الليبية يمينا وشمالا، وحد أنهم استقبلوا أو تحملوا مرغمين تواطؤ الرجمة مع الروس بطباعة أموالا ليبية، باستقبالها لهذا التطور بروح (قرصة ليهودي) على قولة المثل الليبي، وذلك تلبية لمخططها الجاري لإرضاء وتدليل الرجمة واستمالتها إليها حتى تحقيق إبعادها عن موسكو.
ولعل ما زاد من غيظ وغضب عقيلة وشعوره بالخيانة، الذي خلق تطور التباعد الأخير بين القبة والرجمة وزاد من غضب هذه الأخيرة عليه، هو أن عقيلة الذي لم يكتف فقط بفتح مغارة علاء الدين أمام الرجمة، ممثلة بصندوق الإعمار الملائكي، بل وإصداره قانونا لهذا الصندوق يجعل الله وحده لا شريك هو الذي يحاسب قائده على إنفاق موارده، قد اكتشف بتسبب هذا الصندوق – الذي لم ينل منه شيئا – بانحسار كل الأضواء من حوله، بتحولها برمتها لتضيء مرتفعات الرجمة حتى أضحت أكثر تلألأ من مهابط الطائرات، تاركة مربوعة القبة تغرق في التهميش والعزلة والظلام، وكان من بين أبرز مظاهر رحيل هذه الأضواء من حول عقيلة هو عودة الاتصالات السياسية والعسكرية الإقليمية والدولية وبقوة، ولا سيما الروسية والأمريكية منها مع الرجمة حصرا، وهو ما ضاعف من رغبة الرجمة – التي لطالما أزعجتها مناكفات عقيلة – بالتخطيط لإتمام إحكام سيطرتها على شرق البلاد لأجل توحيد السياسات وخلق التناغم المناسب واللازم بين الإرادتين العسكرية والسياسية بشرق البلاد، ويبدو أن هذا هو عينا ما دفع بالرجمة إلى التخطيط والسعي لتمكين شخصية موالية لها لقيادة البرلمان عبر فرض تجديد الانتخابات على رئاسته ضمن ظروف مناسبة ستحسب لها كل حسابها.
وأما الواعز الاستراتيجي الرابع، فهو وجود ظن قوي لدى الرجمة باستعداد موسكو عمليا للوقوف خلف أي جهود تستهدف اقتلاع عقيلة من رئاسة البرلمان، (وهذا ما لم تكن الرجمة قد تلقت تعبيرا صريحا فعلا من موسكو عن هذه الرغبة)، وذلك بسبب ما أظهره عقيلة مؤخرا من تماس جلدي خطير مع جلد واشنطن، بتنفيذه الدقيق ولمرتين متتاليتين ومتقاربتين، حد أن فارق العمر بين المرتين يمكنه أن يقاس بالساعات، لأوامر واشنطن وبروح الوكيل الأمريكي المخلص، وهما الأمرين الذي جاء أولهما بإصدار عقيلة وبصورة خاطفة وصادمة وفردية لقرار تحقير الدينار الليبي نزولا عند أوامر أمريكية تبغي وبإجراء عاجل رفع كلفة شراء الدولار على موسكو تحسبا لبقاء أموال ليبية بحوزتها بعد نجاحها بتنفيذ عمليتها المافيوزية بطباعة أموال ليبية حصدت من وراءها 200 مليون دولار، وأما المرة الثانية فكانت بخضوع عقيلة لأوامر أمريكية بإصدار قرار بإجازة قانون ميزانية تقليدية، لدولة هي نموذج لدولة النزاع المسلح، وبالذات التجاوز التشريعي الذي تورط فيه بإصداره لقرار تحقير قيمة الدينار الليبي، وهو القانون الذي أرادت منه واشنطن إجازة قانون ميزانية يجتذب الرجمة إلى خزائن بنك طرابلس المركزي الذي تهيمن عليه واشنطن، مقابل قطع صلتها النقدية أو الدينارية كليا مع موسكو، وتمويل فيلقها الأوروبي البالغ الخطورة على الاستقرار في ليبيا، والإنفاق إما: على تحرشات حروب الوكالة التمهيدية بموسكو، والتي بدأت إحداها تجري عمليا حول غدامس بهذه الايام، وأما بالإنفاق على وضع البنيات التحتية لهذه الحروب، من نوع تلك التدريبات التي اكتشفتها قوات الأمن بدولة جنوب أفريقيا حد إثارتها لذعر وحفيظة السلطات العسكرية والأمنية هناك واضطرارها لاعتقال أصحابها وتوسيع التحقيقات بشأنها.
ولعله من نافلة القول الإشارة هنا، إلى أنه من بين أهم أسباب إظهار عقيلة لهذه الطاعة العمياء بخدمة المصالح الأمريكية في ليبيا والتي تعني ضربه في المقابل وبلا تردد للمصالح الحيوية للمواطنيين الليبيين في مقتل، هو اعتقاد عقيلة بشدة النفوذ الأمريكي في ليبيا وظنه بمراعاة الرجمة أو خوفها من هذا النفوذ، إلى جانب إدراك عقيلة لشدة سيطرة واشنطن المطلقة على بعثة الوصاية الأممية في البلاد، ولربما قد ظن مع هذا الإدراك بقدرة بعثة الوصاية على مساندته بصراع البقاء الذي بات يغرق فيه، تقديرا لصحبته مع واشنطن، وأما ثاني هذه الأسباب فهو يقين عقيلة – الغالط كليا – بقدرة واشنطن على حماية بقاءه في منصبه، إلى جانب إيمانه بقدرتها على توفير الحماية له ضد بطش الرجمة الذي بات يظن بأنه قد بات أقرب إليه من حبل الوريد، ناسيا أو متناسيا، أو غير عالما بأن هذه الواشنطن قد تركت يوما أشد عملاءها إخلاصا لها – والذي لم يكن الوحيد – وهو شاه إيران أو رضا بهلوي المريض بالسرطان، وهو يجوب السماء بطائرته الفارة به من الثورة الإيرانية، باحثا عن ملجأ له بعد أن رفضت واشنطن منحه الملاذ الذي رجاه وانتظره منها، ولولا السادات لظل يجوب السماء حتى سقطت طائرته، كما أنه من غير المستبعد (إن لم تكن هذه هي الحقيقة فعلا) أن يكون عقيلة قد خالجه تصور حول نجاعة لجؤه لحماية مصالحه عبر خلق توازن رعب آخر في ليبيا، يكون ندا لتحالف الرجمة مع موسكو، وهو ما دفعه على الأغلب إلى الذهاب باتجاه عقد تحالف أو إعلان تبعية لواشنطن كان عربونه الخضوع دون شروط لإصدار قرار تحقير الدينار وقانون الميزانية المسموم، ولا سيما وأن عقيلة يعلم يقينا بشدة غضب واشنطن المعلن من علاقة الرجمة بموسكو، وبحثها هي الأخرى عن “مسمار جحا” يمكنها رشقه على جدار الرجمة، لاستخدامه من بين جملة الضغوط التي تخطط لاستخدامها للتفريق بين الرجمة والكرملين، ولكن يبدو أنه قد غاب عن عقيلة أن واشنطن على استعداد لا محدود اليوم، لبيع الرجمة كل رؤوس الليبيين، مقابل دحرجة رأس موسكو على تراب شرق البلاد.
متابعتكم شرف لنا.. فانتظروا الجزء الثاني.. ففيه النصف الآخر من حكاية الموت المبكر لجنين حكومة عقيلة المزعومة
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً