تعتبر الولايات المتحدة الوجود العسكري في جميع أنحاء العالم أحد الأدوات الرئيسية لضمان المصالح الوطنية. لدى البنتاغون شبكة القواعد العسكرية الضخمة بالخارج في أكثر من 30 دولة حول العالم. بالإضافة إلى ذلك، يقوم الخبراء والمستشارون الأمريكيون بتدريب تشكيلات مسلحة غير مشروعة في عشرات الدول الأجنبية. وأما القوات الخاصة الأمريكية فهي تنفذ مهامها في أكثر من 80 بلدا.
سيكلف دافع الضرائب الأمريكي 89 مليار دولار في عام 2018 على صيانة وتوسيع شبكة المنشآت العسكرية وتنفيذ العمليات بالخارج ويعتبر هذا المبلغ 23.2 مليار دولار أكثر مما كانت عليه في السابق. ومع ذلك، تمويل الوجود العسكري العالمي ليس المهمة الرئيسية التي تواجهها الإدارة العسكرية الأمريكية. لدى البنتاغون مهمة أكثر تعقيدا فهي إرسال الجنود في الصحة البدنية والعقلية الجيدة إلى الدول الأجنبية مع أخذ في اعتبار بأن بحلول سبتمبر 2018 يحتاج البنتاغون إلى تجنيد 80 ألف من المتطوعين. على الرغم من حقيقة أن أمريكا تمت تجنيد 69 المجندين بصعوبة بالغة في العام الماضي.
بعد الأحداث 11 سبتمبر 2001 المأساوية في نيويورك، كان الشعب الأمريكي مستعد لدعم أي مبادرة مكافحة الإرهاب التابعة للبيت الأبيض. انضم الشباب لصفوف الجيش الأمريكي بنشاط ويستعدون للمغادرة إلى بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى من أجل مكافحة المتطرفين. ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن في عام 2002 انضم شباب من المجتمعات الغنية الأمريكية للقوات المسلحة. كان لديهم مستوى التعليم الابتدائي عالي الجودة ونتائج أفضل في اختبارات القبول مقارنة مع الفترة قبل الأحداث 11 سبتمبر 2001. فقد تغيرت الحالة على نحو ملحوظ في عام 2005 بعد وصول جثث الجنود الأمريكيين من العراق. في هذا الوقت، واجه البنتاغون نقصا فادحا في المتطوعين. وأجبرت الأزمة المالية العالمية عام 2008 الأميركيين إلى ضرورة البحث عن مصادر دخل جديدة في صفوف القوات المسلحة من أجل التخلص من الفقر والجوع.
اليوم، لا يشعر سكان الولايات المتحدة بتهديد مباشر لأمنهم. وفي هذه الظروف، يواجه البنتاغون صعوبة في جذب المجندين والاحتفاظ بهم ضمن القوات المسلحة الأمريكية لأنهم يخوفون من احتمالات الموت السيئة السمعة في العراق أو سوريا أو أفغانستان أو أية قرية أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. ويجبر هذا الوضع المسؤولين العسكريين على اللجوء إلى الحيل المختلفة. قالت صحيفة “يو إس أي توداي” الأمريكية إن منذ أغسطس 2017 يمكن للأشخاص الذين لديهم تاريخ من “التشويه الذاتي” والاضطراب ثنائي القطب والاكتئاب وتعاطي المخدرات والكحول أن يسعوا الآن للانضمام إلى صفوف الجيش الأمريكي. فيشير صحفيون مجلة “نيوزويك” إلى مشاكل خطيرة مع الصحة البدنية للمجندين لا سيما من جنوب الولايات المتحدة. يعان عدد كبير من المرشحين وهم غير قادرون على الخضوع لدورة تدريبية بدنية أساسية. فيؤدي هذا الأمر إلى التدهور في التدريب على القتال للأفراد وتقليص القدرة القتالية للقوات وزيادة معدل الجرائم بين الجنود وأهم من ذلك زيادة الخسائر خلال الأعمال القتالية والعمليات الخاصة والأنشطة اليومية. ذكرت صحيفة “ميليتاري تايمز” أنه في عام 2017 تم ارتفاع عدد الجنود القتلى خارج الولايات المتحدة للمرة الأولى منذ ست سنوات. ووفقاً للتقارير الرسمية لوزارة الدفاع الأمريكية، قد ارتفع عدد القتلى من 26 إلى 31 شخصا باستثناء 17 بحار الذين قُتلوا نتيجة حوادث بحرية.
من الواضح أن في هذه الظروف واشنطن لا تهتم بكشف عن المعلومة حول خسائر العسكريين الأمريكيين وموظفي وزارة الدفاع داخل المجتمع الأمريكي. ولذلك تستخدم القيادة العسكرية التدابير الإدارية والقانونية. على وجه الخصوص، توظف وزارة الدفاع الأمريكية شركات عسكرية خاصة وفصائل متألفة من الأفراد الأجانب في مناطق أكثر خطورة. لدى البنتاغون الحق لعدم إدراج خسائر بين المرتزقة والأجانب في الإحصاءات الرسمية. وهذا يعطي شعورا بأن الجنود الأمريكيين لم يقتلوا في حين أن مئات المرتزقة قتلوا في مناطق الحرب. ووفقا لدراسة جديدة قام بها باحثون من جامعة جورج واشنطن، بين عامي 2001 و2010، قُتل 5531 فرد عسكري و2008 المرتزقة وأُصيب 16210 و44152 على التوالي خلال الأعمال القتالية في أفغانستان والعراق. وفي الواقع أصبحت الخسائر الإجمالية الأمريكية بالأرواح 7.5 ألف قتيلا و60 ألف جريحا.
وقد أصبح إخفاء المعلومات عن الخسائر ممارسة شائعة في أمريكا. يصدر ممثلو البنتاغون بيانا رسميا عادةً بعد نشر هذه المعلومات في المصادر الأخرى مثل الشبكات الاجتماعية ومنظمات المراقبة ووسائل الإعلام. ولذلك لا تستطيع وزارة الدفاع الأمريكية إخفاء خبر وفاة الأفراد العسكريين. في الوقت نفسه، نشهد مؤخرا ميل إلى تدخل في عمل المراقبين المستقلين. نشر نافيز أحمد، الخبير في الأمن الدولي والكاتب السابق لصحيفة جارديان البريطانية في عام 2015 تحقيقًا صحفيًا الذي يثبت روابط بين منظمة “ضحايا حرب العراق” المستقلة والإدارة الأمريكية. وذكرت صحيفة “ديلي كالير” في نهاية عام 2017 أن البنتاغون أمر وسائل الإعلام بإخفاء المعلومات حول مسار الحملة في أفغانستان.
إن عدم وجود نجاحات كبيرة في أفغانستان يفسر محاولة لتقييد وصول المجتمع المدني إلى تفاصيل العملية العسكرية في هذه الدولة. علاوة على ذلك، يواصل هناك مقتل المواطنين الأمريكيين. وفقا للإحصاءات الرسمية للبنتاغون، خلال فترة عملية “حارس الحرية” توفي 47 جندي القوات المسلحة الأمريكية. في الوقت نفسه، وفقا لموقع “آي كاجواليتيز دوت أورج“، قُتل 51 جندي أمريكي في أفغانستان خلال الفترة نفسها. فإن سبب الاعتراف الرسمي بالخسائر من قبل وزارة الدفاع هو تسرّب المعلومات عن الحادث في وسائل الإعلام. على سبيل مثال يوم 3 يناير 2018 أكد البنتاغون مقتل الرقيب الأول للقوات المسلحة الأمريكية ميخائيل جولين بولاية نانغرهار بأفغانستان، بعد نشرت صحيفة “ستارز آند سترايبس” هذه المعلومات يوم 2 يناير 2018.
فإن سعى الإدارة العسكرية الأمريكية إلى إخفاء الخسائر حتى آخر لحظة هو مؤشر إلى أنه أية جثة أمريكية مجهولة من خارج البلاد يرتبط بوزارة الدفاع. هذا هو الاستنتاج الذي يظهر بشأن المواطنين الأمريكيين الذين تعرضوا للهجوم الإرهابي في فندق إنتركونتيننتال في مدينة كابول بأفغانستان. هكذا قُتل جلين سيليج، المتحدث باسم ريك غيتس، المستشار السابق في الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. تم كشف عن هذه المعلومات من قبل موظفي “سيليج مالتي ميديا”. فلم يكشف البنتاغون عن أسماء ضحايا الأمريكيين الآخرين تحت ذريعة احترام مشاعر أفراد الأسرة. مع الأخذ في الاعتبار أن سيليج هو مسؤول الرفيع المستوى ومن الممكن قُتل معه مقاتلو قوات العمليات الخاصة أو ضباط وكالة استخبارات الدفاع أو عملاء وكالة المخابرات المركزية.
إذا فشل ممثلو وزارة الدفاع في إخفاء حقيقة الموت المسؤولين الأمريكيين بدأوا التلاعب بالإحصاءات لصالحهم بشكل مباشر. وعلى وجه الخصوص استبعد من قائمة الأشخاص المقتولين خسائر غير قتالية مثل حالات الانتحار والوفيات الناتجة عن الحوادث المرورية أو خلال المناورات العسكرية وكذلك الحوادث العرضية خلال تنفيذ المهام القتالية. فتعتبر هذه الخسائر غير قتالية حتى نهاية التحقيق الرسمي الذي يمكن استمراره أكثر من عام واحد.
يعتبر الكشف عن معلومات حول حوادث وفاة مواطنين أمريكيين وأفراد عسكريين في الخارج تهديدًا آخرا لوزارة الدفاع الأمريكية لأنه القوات المسلحة الأمريكية تنفذ العمليات في مختلف أنحاء العالم. وقال رئيس منظمة “القبعات الخضراء” الجنرال الأمريكي المتقاعد سيميون ترومبيتاس إن قوات العمليات الخاصة الأمريكية تنفذ المهام السرية منذ عام 1952.
من المحتمل أن يوم 4 أكتوبر 2017 تم نصب إلى كمين ومقتل أربعة الجنود الأمريكيين للقوات الخاصة بالقرب من قرية تونغو تونغو بالنيجر خلال العملية السرية المتشابهة. ذكرت وسائل الإعلام في هذا اليوم عن مقتل ثلاثة جنود وجرح جنديين من “القبعات الخضراء” خلال المهمة التدريبية المشتركة مع قوات الأمن النيجيرية. وبعد يومين تم العثور على جثة الجندي الرابع للقوات الخاصة الأمريكية وأفاد مصدر مجهول لوكالة “رويترز” عن صلة محتملة بين المهاجمين وتنظيم داعش الإرهابي.
وذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذا الحادث بعد 12 يوم فقط ووجد نفسه بوسط فضيحة بسبب عدم احترام مشاعر أفراد الأسرة للجندي المتوفي. لكن لم تصبح هذه المهزلة موضوعًا للمناقشة في وسائل الإعلام. وقد أثار الاهتمام المتزايد بالحادث نشر شريط فيديو من طرف تنظيم داعش على شبكة الإنترنت، والتي استندت إلى لقطات الكاميرا من الخوذة التابعة لأحد الجندي من “القبعات الخضراء”. في هذا الوقت بدأت نقاشات في المجتمع الأمريكي والأوساط السياسية بشأن طبيعة ونطاق التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية. ونتيجة لذلك ظهرت في وسائل الإعلام معلومات حول مشاركة “القبعات الخضراء” في العملية الخاصة تهدف مطاردة دوندو تشيفو، قائد محلي من قبيلة الفولاني المتحالفة مع تنظيم داعش.
بالإضافة إلى ذلك، كانت مهمة “القبعات الخضراء” في النيجر جزءاً من الحملة واسعة النطاق لمواجهة الإرهاب قام بها البنتاغون في القارة الأفريقية. ولم يعرف عنها معظم ممثلي المؤسسة السياسية الأمريكية. تتنشر القوات المسلحة الأمريكية في تشاد والصومال وليبيا والكاميرون والعديد من البلدان الأفريقية الأخرى.
إن إخفاء أعمال الاستخبارات في إطار المهام التدريبية هو أحد الأساليب المفضلة لدى واشنطن، لكنه هو ليس الوحيد. يستخدم عملاء الاستخبارات الأمريكية المنظمات غير الحكومية وغير الربحية كوسيلة الغطاء من أجل تجنب الاتهامات المباشرة بالتجسس والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وغيرها من الأنشطة غير القانونية. هكذا قُتلت يوم 20 ديسمبر 2015 المواطنة الأمريكية ليزا أكبري في مدينة كابول بأفغانستان. وفقاً للبيانات الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية، كانت ليزا أكبري موظفة منظمة “وورلد فيجن” غير حكومية مسيحية وعملت بموجب عقد مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). ومع ذلك، تتهم مخابرات إسرائيلية موظفي هذه المنظمة بأنشطة استخباراتية وتخريبية وتعاون مع حركة حماس الفلسطينية. علاوة على ذلك، من الجدير بالذكر أن مقتل ليزا أكبري أصبح حالة اعتداء الرابعة على ممثلي منظمة “وورلد فيجن” منذ عام 2010. فيشير تقرير رئيس قسم التحقيقات في إدارة شرطة كابول إلى أن وفاة مواطنة أمريكية لم تكن عرضية بل مخططة فتم إنجازه باستخدام سلاح كاتم الصوت.
ويُثير أيضا سقوط المروحية الأمريكية في غرب العراق يوم 15 مارس 2018 العديد من الأسئلة. وأفادت التقارير الأولى في الساعة الثانية بعد الظهر بالتوقيت المحلي على وسائط التواصل الاجتماعي العراقية التي تحدثت عن سقوط مروحية النقل العسكرية الأمريكية بوينغ سي إتش-47 شينوك. تبعت التعليقات غير الرسمية للبنتاغون في نفس اليوم. وأُوضحت وزارة الدفاع أن سقطت مروحية من طراز إتش.إتش-60 بايف هوك في منطقة مدينة القائم بالقرب من الحدود السورية. وشدد بوجه خاص على قام الطاقم بمهمة غير قتالية بنقل الجنود. وأفادت وسائل الإعلام عن وفاة جميع أفراد الطاقم السبعة يوم 16 مارس 2018 مشيرا إلى كبار المسؤولين العسكريين. وأشير أيضاً إلى أن المروحية لم تكن استهدافها. يعتبر الصحفيون النسخ المختلفة من بينها خطأ الطيار والعطل الاصطدام مع خطوط نقل الكهرباء لأن لا تزال الأسباب الحقيقية للكارثة موضوع التحقيق. ومع ذلك، وبالنظر إلى أن نفذت مروحيتان من طراز إتش.إتش-60 بايف هوك هذه المهمة. فيصبح من غير الواضح لماذا كان طاقم المروحية الثانية غير قادر على تحديد سبب سقوط المروحية الأولى. بالإضافة إلى ذلك لا تتطابق وقت ظهور المعلومات حول الحادث على الشبكات الاجتماعية ومعلومات صحيفة “يو أس أي تودي” وبيان صحفي رسمي لقيادة عملية العزم الصلب. وأخيراً، يبدو استخدام مروحية باهظة الثمن لنقل الموظفين غير معقول. وتُخصص هذه المروحية المزودة بالأجهزة إلكترونية اللاسلكية الحديثة لبحث وإنقاذ ونقل مجموعات استطلاع وتخريب خلال العمليات العسكرية ودعم بالنيران. يثبت عدد الجنود (أربعة أفراد الطاقم وثلاثة ركاب) على متن المروحية هذه النسخة. إذا شاركت المروحيات في العملية الخاصة، فمن المرجح أن تلتزم المروحية الصمت اللاسلكي ما يفسر صعوبة في معرفة سبب الكارثة.
في الختام، يمكننا القول إن البيت الأبيض يعتزم مواصلة توسيع نطاق التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة حول العالم بمشاركة القوات المسلحة. ومع ذلك، سيصبح من الصعب لواشنطن الحصول على أدوات لتنفيذ هذه الاستراتيجية. كما يظهر التاريخ، يمكن أن يحل مشكلة تجنيد مجندين بالصحة البدنية والعقلية الجيدة إلى صفوف القوات المسلحة الأمريكية بالعدوان الخارجي أو الانهيار المالي العالمي. خلاف ذلك، ستستمر ظهور التقارير حول وفاة الجنود الأمريكيين من جميع أنحاء العالم. فإن إخفاء هذه المعلومات في العصر الحالي هو أمر مستحيل.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً