مع غزو روسيا للأراضي الأوكرانية انقسم العالم إلى مؤيد أو صامت عن الغزو مثل الصين والهند وحكومات الاستبداد العربية والإسلامية وآخر مدافع عن استقلال الشعوب ومؤيد للحريات العامة بل داعم لمقاومة الأوكرانيين، وعلى رأس هذه المجموعة دول الغرب الليبرالي ودروة سنامها أمريكا وبريطانيا، هذا الغرب كان له مواقف ثابته حيال الحكومات الشمولية حول العالم؛ منها الحصار على القذافي في الثمانينات وإسقاطه في سنة 2011م إلى إسقاط صدام ثم هزيمة داعش في العراق وسوريا وليبيا، إلى وضع عقوبات على فنزويلا وإيران.
في الحقيقة هذا التضامن الكبير من الدول الغربية لدعم اختيارات الشعوب في التحرر والاستقرار او مقاومة الاستبداد هو احتفال بنهاية التاريخ كما عبر عنها فرنسيس فوكوياما بأن العالم اختار له نهج متفوق، تطور عبر القرون الأربعة الماضية؛ بدء من الحكومة القومية النازية الى الحداثة والديموقراطية ثم العولمة التي تضمن حريات الافراد ضمن دساتير وقوانين واضحة يحترمها الجميع، بذلك يتم المحافظة على الامن والوصول الى مجتمع الرفاه، وقد نتج عن كذلك ترسيخ لنظام القطب الواحد الليبرالي الغربي بقيادة أمريكا.
هذا التفوق الاقتصادي ضمن نهج سياسي متطور أوجد له أعداء كثيرون رافضون للنظام الغربي مثل روسيا والصين والدول القومية العربية والإسلامية، وجميعها تقريبا تعيش على تراث بائد كان له شأن عندما توفرت له ظروف سابقة لا أمل في تكرارها. هذه المجموعات تشترك في انها ذات نظم استبدادية شمولية، وأنها رفضت الديموقراطية وشروطها والحداثة وما بعدها خلال القرن الماضي أو فشلت في تبني ذلك لأسباب أيديولوجية.
الانقسام الأيديولوجي تسبب في انقسام الشعوب والحكومات ليس في القضية الأوكرانية فقط بل في معظم قضايا الخلاف مثل إسقاط صدام والقذافي وبشار وتنصيب السيسي وحكم العسكر في السودان والانقلاب في تونس، وهي قضايا اوجدت شرخ مجتمعي عند الكثير من شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
قاومت الصين التفوق السياسي الليبرالي بالانغلاق السياسي والقبضة الحديدية من جهة والتحديث الاقتصادي من ناحية أخرى، أما روسيا فلقد اتجهت إلى النظام الغربي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وفشلت عندما فشل مشروع التحديث والشفافية (البرويسترويكا)، وتيقنت أنها لن تكون ضمن النظام الغربي فهي سلافية شرقية الثقافة لها قيم دينية مختلفة عن الغرب؛ مما دعا بها الى تبني فلسفة محلية نتجت من مخاض عسير بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ومواجهة السلطة والشعب الروسي لمهانة كبيرة جراء التحول من منافس عنيد لأمريكا والغرب الى تابع خانع للشروط الغربية ذات سياسة استبدادية واقتصاد أحادي المصدر، لم تشفع له امتلاكه للقوة النووية.
كرد فعل لسقوط الاتحاد السوفيتي برز فلاديمير بوتن خريج الاستخبارات السوفيتية (KGB) بديل للمخمور يلسن ليعيد لروسيا مجدها. على التوازي من ذلك برز عدة مفكرين روس على راسهم في هذا المجال اليكسندر دروغين مؤسس النظرية الرابعة وهو العقل المدبر لسياسات بوتن. دروغين ينطلق من مبدا إقامة دولة روسية عظمى عن طريق التكافل بين الجمهوريات السوفيتية السابقة الناطقة بالروسية على أسس ليبرالية قومية؛ أي نظام داخلي قومي لا علاقة له بالحداثة وهو في الحقيقة نظام الرجل القوي أو المستبد العادل، في عالم متعدد الأقطاب، مع إعادة القيم الأخلاقية المسيحية الأرثوذكسية، ومن خلال كل ذلك يتم مواجهة الهيمنة الامريكية والمعسكر الغربي.
من الواضح ان الغرب لن يسمح لروسيا بالعودة الى زمن القطبين رغم مناداة الأخيرة بذلك بعد دخولها في مستنقع أوكرانيا، ومن الواضح أن الغرب عازم على قص أجنحة الروس الاقتصادية وإرجاعها إلى زمن القياصرة لتعيش منكفئة على نفسها لعقود قادمة، وتقل قدرتها التنافسية كثيرا عما هي في الحرب الباردة أو في السنوات العشرة الماضية، التي عملت فيها على تخريب سوريا وليبيا والتدخل في عشرة دول إفريقية.
وهذه الرؤية الشمولية لا تختلف عن رفض القوميين العرب والملوك والامراء العرب والمسلمين للحداثة منذ قرن من الزمان، القوميون العرب اهتموا ببناء الدولة القومية قوامها سلطة العسكر والاستبداد وصناعة الخطر الخارجي الوهمي مثل الامبريالية أو تبني قضايا خاسرة مثل قضية فلسطين أو الساقية الحمراء، أما الملوك والامراء فبنوا لهم إيديولوجية دينية للحكم مدى الحياة لهم ولأبنائهم باسم الدين، وأن الملوك والامراء ظل الله على الأرض، وأن الشعب له أن يتنازل عن حريته وحقه في تسيير أموره مقابل ضمان مستوى معين من المعيشة.
على المستوى الوطني الليبي ينقسم الشعب تبعا للأيديولوجيات السابقة، فانصار القوميين العرب هم أنصار النظام السابق وأنصار حفتر والسيسي وحتى بوتن في حربه على أوكرانيا، أما المجموعات السلفية الدينية فهم أنصار الامراء والملوك الخليجيين وإن كانوا مواطنين لدولة أخرى، بالمقابل المجموعات الوطنية المتحررة ترى رفض النهج القومي الاستبدادي المحلي او الإقليمي او العالمي فهي مع الخيارات الوطنية في حرية والديموقراطية والتناوب السلمي على السلطة، وفي هذا هم الأقرب الى الغرب الليبرالي من المستبد القومي العربي او الروسي او حتى الصيني.
صراع الحضارات في أطروحة “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي” لمؤلفه العالم السياسي الأمريكي صامويل هنتنجتون نشرها عام 1993م؛ جاء كرد فعل لكتاب تلميذه فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ” وهو يتنبأ بالصراع بين الحضارات الغربية والروسية واليابانية والصينية والإسلامية بعد انتهاء الحرب الباردة ويخلص إلى أن التكتل الإسلامي هو الأكثر قربا للصراع مع النظام الغربي بسبب الاختلاف الثقافي الكبير، ولا يستبعد نشوب الحروب بين الرأسمالية الليبرالية الغربية والمجموعات الأخرى كما شاهدنا الصراع المسلح في أوكرانيا والصراع الاقتصادي مع الصين.
التاريخ يؤكد لنا أن الحروب عادة ما تكون ما بين دول ذات حكم شمولي استبدادي أو بينها والحكومات الديموقراطية وليس بين حكومات ديموقراطية منتخبة، ولهذا السبب لا نرى حروب بين دول الغرب الليبرالي رغم التنافس الكبير على الموارد والعوائد الاقتصادية، وهو المبرر لدعم الغرب للتحول السياسي في شرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ومنها بولندا والمجر وتشيكا ولاتفيا، في حين أن دول شمال افريقيا والشرق الأوسط الرافضة للتحديث السياسي وقعت في حروب بينية وتخلف اقتصادي يحتاج إلى تغيير ثقافي كبير للخروج منه.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً