قاربت مدينة سرت من التحرير، وفر منها الجزء الأمني والداعمين لهم من رجالات العهد السابق إلى القرى والمدن المجاورة وربما إلى الجنوب الليبي، وبقي الجزء المؤدلج صاحب قناعة بأن الدولة الإسلامية باقية وتتمدد، وأنها الخيار الوحيد لإنقاذ الأمة وإعلاء كلمتها، ليلاقي مصيره إما مقتولاَ أو أسيرا دليلاً.
بالتأكيد لا خوف من عملاء المخابرات ولا من مُتيموا العهد السابق فهم لا كتاب لهم ولا منابر، وسيماهم السيئة في وجوههم، ولكل الخوف كل الخوف من استمرار وانتشار الفكر الديني المتشدد، الذي يستخدم فهمه القاصر للدين مطية لنشر العنف والفُرقة والتشظي والضياع في بلد ألف قبيلة جاهزة لتبني المثالب السابقة.
لقد نمت وترعرعت الفرق الدينية وأعيد تقويتها بدعم الدول المصدرة للمذاهب، من أجل إحداث صبغة دينية تابعة يمكن استثمارها في التبعية السياسية، وفي هذا المضمار يلتقي المذهبين السلفي والشيعي مع أساليب الدول المعادية للعرب كإسرائيل، والتي شجعت على تنامي وتعدد الفرق الإسلامية، تقول گولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل (سابقا) علينا تشجيع تنامي الحركات الإسلامية من أجل القضاء على النزعة القومية للدول العربية، وبذلك وقع أنصاف المتعلمين في حبال تلك الدول وأصبحوا أبواق يرددون ما يتلى عليهم من تعابير قد لا يفهمون معانيها، أو يساقوا لخدمة مخططات تلك الدول دون علم لهم بذلك.
ليس غريبا أن نرى احتقان كبير على صفحات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي والإذاعات الموجهة حول فتاوي ودعاوي المجموعات الإسلامية المتشددة، والتي يمكن تقسيمها إلى مجموعتين رئيسيتين، أهل النقل (ويمثلون بالسلفية بأنواعها: العلمية والمدخلية والجهادية والوهابية) وينعتون الآخر بالظلال والتبديع والتكفير وأنهم أشاعرة وخوارج عن الملة، وأهل النقل والعقل (ويمثلون من أصحاب المذاهب التقليدية مثل الحنفية والشافعية والمالكية بتفريعاتهم)، وهم يوصفون المجموعة الأولى بالجهل والتخلف والعيش في الماضي، وفقدان الحس بالواقع المعاش، وأنهم أبواق السلطان، ولكل منهما خطاباً إعلاميا إقصائيا يدعي امتلاك الحكمة الربانية والتفويض الإلهي للتخلص من الآخر والبقاء وحيداً على الساحة الإسلامية.
هذا الواقع الفكري المتردي أفرز كل الحركات المتشددة في العالم الإسلامي دون غيره، حتى أصبح الإسلام مرادف للإرهاب والقتل والتهجير والتفجير، وما نتج عنه من الفساد والفقر والنزوح والهجرة غير الشرعية، وحيث أن الشعوب الإسلامية متدينة بطبعها، فإن الخطاب الديني السيء كان سبباً رئيسا لوصول معظم الدول العربية إلى الصورة القاتمة السابقة، ولا يتم إنتشال الأمة من أوحالها إلا بنهج خطاب إعلامي جديد يعمل على خلق ثقافة حداثية جديدة ضمن المنطلقات الأساسية للقرآن والسنة، ويُزيل الران الذي وضعه تاريخ المسلمين على الدين القويم.
تجديد الخطاب الديني موضوع قديم حديث، ترجع جذوره إلى المصلحين الأوائل مثل جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبدة ورشيد رضاء، ولقد تبنت هذا المنحى الكثير من الحركات الإصلاحية الإسلامية المعاصرة ومنها جماعة الإخوان المسلمون، ومن الملاحظ أن موضوع التجديد يخبوا أحيانا ليطرق من جديد، فلقد أشبع بحثا في زمن الاستعمار للتخلص من أفكار الشعوذة البالية، وفي زمن الدكتاتوريات القومية بسم الصحوة للتخلص من الطاغوت، ثم زمن انتشار الحركات المتطرفة مثل داعش والقاعدة لوقف الإرهاب. إلا أن العامل الأساسي والسبب الرئيسي للمطالبة بالتجديد هو ما أل إليه تعطيل العقل وتجميد الاجتهاد عند مذاهب النقل وأهمها المذهب السلفي الحنبلي، مما يجعل هوة كبيرة بين الإسلام وواقع المسلمين.
بسبب الضرر الكبير الذي لحق بالدول العربية والغربية من نشاط الحركات المتطرفة الإسلامية، وتجلى ذلك في أحداث 11 سبتمبر بنيويورك، وتفجيرات لندن وباريس، وانتشار العنف في الجزائر والعراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا، أصبح الجميع يطالب بمراجعة منطلقات الخطاب الديني من خلال تعديل المناهج الدراسية وخُطب المساجد، والمادة الدينية في الفضائيات الموجهة، والتي تحتوي على الكثير من التحريض بالقتل والعنف من خلال التكفير والتبديع.
في سنة 2003م عقد مؤتمر مهم في المركز الإسلامي بباريس عن “تجديد الخطاب الديني” ولقد اتفق الحاضرون على ما يأتي:
أن لا خطاب ديني جديد بلا إصلاح سياسي، وهو تنبؤ ضمني لانتشار حركات التطرف الديني في ظل الحكومات الدكتاتورية السابقة، وهو ما تعانيه الدول العربية حاليا.
يجب التمييز بين الإسلام النقي المُنَزل على الرسول الكريم، وتاريخ المسلمين المليء بالأهواء والنكسات، والفتاوي السلطانية، أي أن لا قدسية للتاريخ الإسلامي. للأسف معظم الخطباء والوعاظ الآن يستندون في نهجهم إلى استحضار التاريخ الإسلامي المشوش، وبعيدين عن القاعدة الفقهية الأساسية التي تجمع المسلمين في معظم المسائل الخلافية أن يكون الحديث “قاطع الثبوت قاطع الدلالة” وإلا لن يكون ملزما.
يجب أن تكون هناك جهود كبيرة لبحث موضوع علاقة المسلمين بالآخر وهو موضوع لم يكن ذو أهمية كما هو الآن، كما إن تقسيم البلاد إلى دار حرب ودار إسلام على النمط القديم لن يكون عمليا في الوقت الحاضر، فالفارون بدينهم من حكومات الدول الإسلامية لم يجدوا من يأويهم ويقدم لهم يد المساعدة سوى الدول النصرانية (الكافرة)، والمسلمون يقومون بشعائر دينهم في الدول الأوروبية أفضل بكثير مما هو في الدول العربية.
والجدير بالذكر أن الكثير من دول شرق أسيا الإسلامية مثل إندونيسيا وماليزيا قد وصلت إلى إيجاد صيغ تعايش جيدة بين أبنائها المسلمين وغير المسلمين، وعلاقات متوازنة مع الشريك الأجنبي، وهو ما لم تستطيع معظم الدول العربية الوصول إليه.
التجديد ليس مهمة رجال الدين المستنيرين وحدهم، بل هو مهمة المفكرين والمثقفين كذلك.
المشكلة الأساسية المعيقة لتجديد الخطاب الديني على مدي عقود طويلة هو توظيف الحكومات العربية والإسلامية للدين، بحيث يصبح الدين مبررا شرعيا لتنفيذ رغبات الملك أو الأمير أو الحاكم.
إن نظرية المؤامرة أصبحت شماعة جاهزة لدي المسلمين يعلقون عليها فشلهم وعجزهم عن أن يكون لهم دور حضاري مقابل للحضارات الأخرى.
تجديد الخطاب الديني ليس له علاقة بالأصول الاعتقادية للدين، بل هو تبديد للظلمات التي احتلت العقول بسبب التفسير العقيم أو النقل المعيب لتعاليم الإسلام، وهو جزء من فقه الواقع الذي يتغير بمرور الزمن والذي قال فيه الرسول الكريم “أن يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد دينها”.
بالإضافة إلى الأهداف والملاحظات السابقة لتجديد الخطاب الديني، يوجد هناك أليات يجب إتباعها من أجل الوصول إلى الأهداف السابقة منها:
الخطاب يجب أن يتصف بالصدق والموضوعية بعيداً عن الخرافات والفرعيات التي لا سند لها، ويجب أن يخاطب العقول والقلوب معاً، فمثلا ترفَع الله سبحانه وتعالى عن وصف مشاهد القيامة وعذاب القبر، وعن وصف الدجال والتابوت، وأورد من القصص ما هو ذو عبرة دون الدخول في تفاصيها، ولم يكن القرآن قاطعا في مسائل كثيرة منها أسلوب الحكم (الإمامة العظمى)، ومسائل ثانوية كثيرة مثل زيارة القبور وحلاقة الدقن والغناء، حتى يكون التنزيل صالحا لكل مكان وزمان، في حين أجهد الدعاة أنفسهم في سرد القصص بعضها من الأحاديث الأحادية أو المنقطعة والكثير منها من الكتب المقدسة الأخرى أو من الإسرائيليات، وبذلك تم إلها المسلم بأمور ثانوية تشغله عن قضاياه اليومية الأساسية، وتبعده عن القضايا الدينية الجوهرية. فمثلا ما أهمية أن يكون طول ما بين أذني دابة الدجال 40 دراعا، وما مغزى سماع أصوات ورؤية نيران وتخيل أفاعي ضخمة في القبور، وهي غيبيات لم يختص الله بها أحد، وما فائدة ترديد الكثير من الدعاة لحديث “تنقسم أمتي إلى 73 فرقة” غير الفُرقة، وحديث “سافروا تصحوا وأغزو تستغنوا”، فهناك ألف طريق حضاري للغنى غير الغزو.
بالمثل أشغل الشيعة أتباعهم بالتطبير وجلد النفس والبكاء والنواح على أهل البيت، ولم يتوقف الصوفية عن ضرب الدفوف وتحضير الجن واعمال الشعودة.
الابتعاد عن الغلو والتطرف، وهو التزام التشديد وإلزام الناس به مع وجود دواعي للتيسير، والتعصب للرأي ومصادرة الرأي الأخر، فمثلا ترفع الله سبحانه عن تحديد المغضوب عليهم والضالين في سورة الفاتحة، وجعل الوصف مطلقاً، في حين أن دعاة السلفية مصرون على تحديد هذه الفئة بالنصارى واليهود، وما ينتج عن ذلك من الولاء والبراءة، بل واعتبارهم كفرة يجب محاربتهم وغنم أموالهم وسبي نسائهم.
في نهاية شهر رمضان من كل عام تُصدر دار الإفتاء مرسوم عن وقت ومقدار زكاة الفطر، ومقدار الزكاة العيني من الحبوب، كما أجازت دفع القيمة نقداً، من الغلو نرى الكثير من خطباء المساجد السلفية قد حذروا من دفع الزكاة نقداً وأفتوا بعدم جوازها، رغم أن المساكين لا يبحثون عن حبات القمح أو الأرز بل عن شراء إحتياجاتهم المنزلية مثل الخضار والملابس ومتطلبات الأطفال، وخلال السنوات السابقة أودعت الحبوب في مكاتب الزكاة حتى أكلها السوس وأطعمت للخيول، ومن المكاتب من باعها بأرخص من قيمتها الأصلية لأجل صرف قيمتها على المحتاجين، وبذلك فإن الغلو يبخس الناس زكاتهم. بالمثل الاحتفال بالمولد النبوي ويوم عاشور، وما يرافق ذلك من ضيق النفس من بعض المتأسلمين بسبب عادات الطعام أو اللباس أو الترويح عن النفس “ساعة بساعة”.
خطاب الغلو والتطرف على المنابر تعاني منه الكثير من المدن بحيث أصبح للسلفية مساجد وللمالكية مساجد أخرى، وأصبح تخطي المساجد وشد الرحال إلى بعضها في صلوات الجمعة عادة شائعة، حتى لا يسمع المتلقي دعوات متطرفة وفتاوى مستوردة أو يرجع إلى بيته شاحبا قد أرتفع ضغط شرايينه مما لا يتقبله من هراء.
عدم الانعزال عن الأحداث والعمل على المشاركة في بناء الدولة والمجتمع وتوفير احتياجاته. الكثير من الدعاة يشجعون على الانعزال والنأي بالنفس عن الآخرين، منها الاهتمام المفرط بالمسائل التعبدية الشخصية وترك الواجبات نحو المجتمع، ترك خدمة الآخر في حين أن الله تعالي يربط الإيمان بالعمل الصالح، فمثلا عند القول “بأنها فتنة، وما عليك إلا أن تلزم بيتك” لو عمل كل الناس ذلك لتوقفت حركة المدن بسبب توقف الماء والكهرباء وانتشار الجريمة والأمراض. بالمثل إذا صلى الجميع صلاتهم وتوقفوا ينتظرون الصلاة القادمة في المساجد، أو تهجدوا وتوقفوا عن أداء وجباتهم اليومية، وهذا هو التفسير الضيق للعبادة أي إتيان الطقوس الدينية الشخصية، ومحاولة دخول الجنة بصورة فردية أنانية. سئل تاجر تركي عن العمل فقال العمل عبادة، وهذا لا يحتاج إلى تفكير أو تفسير، فالقرآن ملئ بالآيات المحتوية على مفردة “الذين أمنوا وعملوا الصالحات”، “قل اعملوا”، “من عمل عملا صالحا منكم”، “يجزون بما كانوا يعملون”، بل التصرف قد لا يكون صالحا؛ ففي الوقت التي تعاني فيه الدولة وبيوت المجتمع نقصا شديدا في الكهرباء لا يأبه قيموا المساجد من الإسراف في الاستهلاك، بدعوى أنها بيوت الله، فهل الله يريد أن يحول بيوته في الصيف إلى شتا قارصا على حساب مئات البيوت التي يخيم عليها الظلام؟
من الواضح أن المشكلة ثقافية أكثر من أن تكون دينية مذهبية، وهي مقصورة عند أنصاف المتعلمين الذين تم استغلالهم سياسيا ليصبحوا أبواق تنفذ سياسات تلك الدول، فهل لهؤلاء من مراجعة لأنفسهم قبل المزيد من الانقسام والتشظي وسفك الدماء بلا مبرر مقنع أو هدف سامي نبيل.
بالمقابل يجب على الدولة وخاصة الإدارات المختصة بالإعلام والمساجد اتخاذ الإجراءات الأتية:
فرض قانون الحصول على تصاريح للبث على الموجة إف إم، وإيقاف الإذاعات العربية الممولة من البث إذا كانت لا تحترم الإختيارات الوطنية وتستمر في زرع الشك والتشجيع على العنف والإرتباط بالخارج، مع توضيح الذمة المالية لها، فالكثير من الإذاعات العربية المذهبية الموجهة تنفذ أجندات تخدم مصالحها الإقليمية وتزيد من التشظي بين أفراد المجتمع، فمثلا لن تجد إذاعات الشافعية أو الحنفية أو الشيعية تبث على إف إم في السعودية.
تشجيع وتمكين خريجوا الشريعة من المعاهد والكليات الليبية مثل كلية الشريعة بالبيضاء وزليتن ومعهد الخطابة بطرابلس وغيرها الكليات المعتبرة، من إعتلاء منابر المساجد، حتى لا يكون هناك نقص في أئمة وخطباء المساجد يشجع أنصاف المتعلمين من خريجوا الأشرطة والأقراص الليزرية على إقتناصه.
زيادة الوعي المجتمعي عن طريق البرامج الهادفة في الإذاعات المسموعة والمرئية من أجل توضيح مقاصد الشريعة، والفرق بين ما هو من الدين بالضرورة وما هو من السنة أو من العادات والتقاليد، وما هو متفق عليه عند جميع المذاهب، وما وجه التشدد عند بعض المذاهب.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
شكرآ. على هذا التوضيح المهم في وقتنا هذا الموضوع يحتاج جدية النشر ليصل إلى أصحاب الكراسي العليا في كل البلاد ليتفهموا حقيقة ما حدث وما سوف يحدث.