هذه كلمات لعلها تكون أرضية للنقاش المثمر بعيدا عن التخوين والاصطفاف الحاد والنظرة الأحادية للأحداث.
أولا: يجمع العقلاء من أنصار الدولة المدنية والرافضين للإنقلاب وحكم العسكر، على أنّ الحليف التركي هو الرافد والداعم لهذا الهدف، وإذا ما قدر الله يتخلى الحليف التركي عن مناصرة فبراير ومشروع الدولة المدنية فهو بمثابة رصاصة الموت لهذا المشروع إلا أن يشاء الله شيئا آخر (أرجو أن تكون هذه القضية مُسلمة بين العقلاء من أنصار فبراير) مع احترامنا وتقديرنا الكبير لثوارنا الأبطال.
ثانيا: صحيح أن الحليف التركي أنقذ العاصمة من الوقوع في براثن الإنقلابيين، وهو عمل إنساني عظيم بغض النظر عن دوافعه. إلا أنّ الأتراك هدفهم الأستراتيجي في ليبيا هو مصالحهم بالدرجة الأولى، ومن أهم تلك المصالح وأعظمها (الإتفاقية المائية) بين تركيا وليبيا (وأرجو أن تكون هذه القضية أيضا مُسلمة بين العقلاء من أنصار فبراير).
ثالثا: مما هو مُسلم أيضا، بأنّ الاتفاقية البحرية بين ليبيا وتركيا هي في المنطقة الشرقية، وليست في المنطقة الغربية، وبناء عليه، مصالح تركيا الاستراتيجية في الشرق.
رابعا: حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة حدودها الجغرافية، من البحر شمالا، إلى الشويرف جنوبا، ومن رأس جدير غربا إلى سرت شرقا، وهذه الحكومة بهذه الجغرافيا لا تحقق أهداف تركيا الاستراتيجية (وهذا محل اجماع بين العقلاء أيضا).
خامسا: العقل والمنطق والسياسة تحتم على الحكومة التركية إيجاد طريقة ما للوصول الى المناطق الشرقية لتحقيق أهدافها، ومن هنا رأينا وفدا برلمانيا مؤيدا لحفتر يزور أنقرة ويستقبله أردوغان، ورأينا السفير التركي في ليبيا يزور بنغازي والقبة ويستقبله عقيلة صالح.
سادسا: التواصل التركي في المنطقة الشرقية، وزيارة وفد برلماني مؤيد لحفتر لأنقرة، لا يمكن له أن يكون بدون الضوء الأخضر المصري، إذ معلوم لكل عاقل أن النفوذ المصري في المنطقة الشرقية متغلغل إلى أبعد الحدود.
سابعا: ومما تقدم يتضح بما لا مجال للشك فيه، أنه قد تم تنسيق بين الجانب التركي والمصري في الملف الليبي، وهذا له شواهد أخرى رأيناها في غير الملف الليبي، كالتضييق على القنوات والمعارضة المصرية في تركيا، وتغيير لغة الإعلام المصري تجاه تركيا.
ثامنا: فإذا ثبت ما تقدم، فإنه لا يمكن لأحد الطرفين = التركي والمصري، أن ينفرد بأي طرح أو خارطة طريق جديدة في ليبيا دون اعتبار للطرف الآخر، وما جرى في مجلس النواب من تشكيل حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، لا يمكن أن تنفرد به مصر دون إقرار أو موافقة من تركيا، وهذا له شواهد أذكرها مختصرا:
- أهمها أن حكومة الدبيبة لن تحقق الأهداف الاستراتيجية التركية في ليبيا.
- أصلا قائمة (باشاغا – عقيلة) اختيار تركي مصري، وقائمة (الدبيبة ـ المنفي) اختيار إماراتي قطري، وهذا كلام من كان حاضرا في جنيف. وتعد الامارات من أكبر الداعميين لحكومة الدبيبة، وحسبك زيارة السفير الاماراتي لطرابلس في يناير الماضي. استمرت مصر في اصرارها على دعم قائمة (باشاغا ـ عقيلة) بينما دعمت تركيا قائمة الدبيبة باعتبار عائلة الدبيبة وعلاقتها بتركيا. ولكن تركيا لا ترفض قائمة (باشاغا ـ عقيلة) خاصة مع اصرار مصر على اقصاء الدبيبة، وحرمانه من بسط سيطرته على كل التراب الليبي.
- خالد المشري أجرى يوم الجمعة الماضي اتصالا هاتفيا بكل من (أردوغان، خلوصي، شاويش أوغلو = القيادة التركية كاملة) ثم أعلن موقفه في ذات اليوم، الداعم طبعا لحكومة باشاغا.
تاسعا: وبناء على ما تقدم، لا يهمنا كثيرا، أن باشاغا صافح حفتر، أو حفتر جلس أعلى من باشاغا، أو أن الذى تلا البيان باشاغا وخلفه حفتر… إلخ.
الذي يهمنا بالدرجة الأولى، كوننا من أنصار الدولة المدنية وضد الإنقلاب والدكتاتورية، ما هو موقف حليفي التركي من هذا الحدث؟ فإذا ثبت عندي أن هناك تقارب تركي مصري في الملف الليبي، فطبيعي جدا أن يكون هناك تقارب بين الحلفاء الليبيين = باشاغا، حفتر، عقيلة. بغض النظر عن شكل هذا التقارب واخراجه.
عاشرا: خروج سيف القذافي، وبروز تياره، افقد حفتر وانصار مشروع الكرامة الكثير من الاوراق، وجعل التحدي امامهم كبير جدا. إذ معلوم أن معظم أنصار النظام السابق، الاعلاميين، والسياسيين، والعسكريين…الخ كانوا مع مشروع الكرامة قبل خروج سيف القذافي، ولكن بعد خروجه انحاز معظمهم الى ولائه الاصلي والقديم، وهذا أشعر حفتر ومناصروه بالخطر. وفي ظني، أن هذا أحد الاسباب التي جعلت التقارب بين (فتحي – حفتر) لمواجهة تيار سيف القذافي، الذي هو خطر على الرجليين. ومن زاوية أخرى في ذات السياق، سيف القذافي مدعوم روسيا، وهو يحقق المصالح الروسية قبل المصالح المصرية، ومصر تدرك ذلك، فلابد لها من ايجاد تحالف قوي يواجه تيار سيف المتنامي، ولا يوجد تيار افضل من تيار (باشاغا، عقيلة، حفتر) ومن هنا كان هذا التقارب. ومعلوم ايضا، في ذات السياق، أن الدبيبة هو أقرب لتيار سيف القذافي، بل يعتبر هو وعمه حكومة الظل زمن النظام السابق، وهذا معلوم للمصريين وحفتر، ولذلك التحالف مع باشاغا الفبرايري، أولى لهم من الدبيبة القريب من سيف.
الحادي عشر: المصالح الليبية عموما تتحقق بالتقارب المصري التركي، ولا تتحقق بالتقارب الاماراتي القطري. باعتبار مصر وتركيا من أكبر الدول تاثيرا في الشرق الاوسط، وباعتبار ان مصر متداخلة جدا في الشأن الليبي بحكم التاريخ والجغرافيا والجيرة والتركيبة السكانية.
الثاني عشر: المواطن الليبي البسيط المؤيد لفبراير لن يرى المشهد الا من خلال زيارة باشاغا لبنغازي ومصافحته لحفتر، ولن يستوعب الموضوع إلا على أنه خيانة لدماء الشهداء. وحقيقة الأمر ليست كذلك، فمن المعيب ان تنغمس النخب في هذا الفهم ايضا، ولا يتجاوز تفكيرها ابعد من ذلك اللقاء ومن تلك المصافحة.
أخيرا: تركيا لن تقدم مصالح الليبيين على مصالحها، وقد تقاربت مع السيسي وتركت المعارضة المصرية ورائها، وتقاربت مع الإمارات الداعم الأساسي للثورات المضادة. فعلي انصار الدولة المدنية وفبراير تقدير هذه المسألة حق قدرها وأن لا يجعلوا انفسهم في موطن يفقدون فيه حليفهم ويضعفون به نقاط قوتهم، مما يجعلهم ضعفاء ولا يملكون تأثيرا في المشهد، فغيرهم أولى بالتحالف إن توفرت فيه شروط ذلك، ولو كان ذلك الغير قيادات من المنطقة الشرقية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً