تسييس القضاء لن يضر بهيبة القضاء ومكانته في نفوس الناس فقط ، بل سيزعزع أركان الدولة ، وربما يدمرها من أساسها ؛ باعتبار القضاء أهم ضمان لحفظ الاجتماع المدني السلمي.
يكاد لا يختلف سياسيان في أن حكم المحكمة الدستورية العليا الأخير بخصوص إلغاء مجلس الشعب هو حكم سياسي لا قضائي ، ونحن هنا سنثبت لكم بالقانون أيضاً أن هذا الحكم مسيس. ولا يمكن أن يكون بحال حكم قضائي ، فاحترام الأحكام القضائية يكون بقدر احترامها هي لبديهيات القانون ومسلماته التي لا يُختلف حولها . كما أننا سنطرح الحل القانوني والقضائي لهذا الحكم ، وهو حل لا يمكن ألا أن يتأتي إلا عن طريق القضاء.
وسنقوم بتناول ذلك من خلال نقاط متتابعة وبلغة قانونية مبسطة مراعاة للقراء غير المتخصصين وفقاُ للتالي:
1- ربما من المصادفة أن يكون رئيس لجنة الانتخابات العليا بمصر هو عينه رئيس المحكمة الدستورية العليا. وهي لجنة قضائية . إلى هذا الحد والأمر طبيعي . ولكن الغريب والمستهجن لكل دارس قانون أن يُقدم رئيس هذه اللجنة وهو رئيس المحكمة الدستورية العليا على كارثة قانونية لا يرتكبها طالب في السنة الرابعة في كلية الحقوق!!!
فمن من بديهيات ومسلمات القانون والقضاء أن أي قانون يصدر عن السلطة التشريعية يصبح نافذاً واجب التطبيق بمجرد نشره في الجريدة الرسمية . وليس هناك طريقة لإعاقة هذا القانون . ولا يوقف هذا التنفيذ أي دعوى أو طعن على هذا القانون ولو كان بعدم الدستورية.
فالقانون يطبق بمجرد صدروه، ولا يُمتنع عن تنفيذه إلا في حال قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية ذلك القانون.
المضحك المبكي أن رئيس اللجنة العليا للانتخابات المصرية والذي هو رئيس المحكمة الدستورية العليا أوقف العمل بقانون العزل السياسي بمجرد أن طعن عليه أحمد شفيق بعدم الدستورية ، وهذا من الكوارث القانونية لهذه اللجنة ، والتي لا تنبع إلا من دافع سياسي واضح.
2- قبل ذلك أقام أحد المترشحين عن نظام الفردي دعوى أمام القضاء الإداري المصري بخصوص الثلث المخصص لنظام الفردي في انتخابات مجلس الشعب المصري. ودفع أثناء نظر الدعوى بعدم دستورية المادة التي سمحت للمنتمين للأحزاب بالاشتراك في الثلث المخصص لنظام الفردي . والمحكمة الإدارية العليا المصرية أحالت الطعن إلى المحكمة الدستورية العليا للنظر للفصل فيه.
ومن المتفق عليه فقهاً وقانوناً وقضاءً أن رقابة المحكمة الدستورية العليا المصرية على القوانين هي رقابة لاحقة ، وهي ليست محكمة موضوع ، فمحكمة الموضوع هي المحكمة التي أحالت الطعن إلى المحكمة ، وهي هنا مجلس الدولة المصري ( المحكمة العليا الإدارية ).
أي أن المحكمة الدستورية العليا ينحصر اختصاصها في نظر موضوع الطعن والقضاء بدستورية المادة أو مواد القانون المطعون عليها بعدم الدستورية فقط.
فالمحكمة الدستورية ليس من اختصاصها القضاء ببطلان مجلس الشعب من عدمه ، أو القول ببطلان الانتخابات ، فمن المتفق عليه في نطاق القانون والفقه والقضاء أن ذلك ليس من اختصاصها . فذلك من اختصاص محاكم الموضوع ، وهو هنا القضاء الإداري المصري ، والذي له أن يقضي بإلغاء نتائج الانتخابات لأنها قامت على أساس قانون ثبت عدم دستوريته بالكامل ، أو بطلان نتائج الانتخابات لنظام الثلث المخصص لنظام الفردي ؛ لأنها قامت على أساس مادة ثبت عدم دستوريتها.
3- الفضيحة والطامة القانونية والسياسية والقضائية تجلت عندما تناولت المحكمة الدستورية مفهوم القوائم والفردي طبقاً للمادة 38 من الإعلان الدستوري والتي تنص على أنه : ” ينظم القانون حق الترشيح لمجلسي الشعب والشورى وفقا لنظام انتخابي يجمع بين القوائم الحزبية المغلقة والنظام الفردى بنسبة الثلثين للأولى والثلث الباقي للثاني”.
الفردي ليس المقصود به من لا ينتمي إلى حزب ، وكذا القوائم لا يقصد بها الحزبيين فقط . فقد تضم القائمة أشخاص متحالفين مع أحزاب وهم غير حزبيين ، وقد يترشح على نظام الفردي من هو عضو في حزب . العبرة والغاية والمقصد هو طريقة حساب الفائز والتي تختلف في نظام القوائم عنها في نظام الفردي . فتفسير المحكمة الدستورية العليا للفردي على أنه من لا ينتمي لحزب تفسير تعسفي يجافي العقل والمنطق . الفردي أي منفرداً ، أي بدون قائمة.
إن إضافة المحكمة الدستورية في حكمها ل (( …..جملة المستقلين غير المنتمين إلى أحزاب سياسية …. ))) بعد كلمة الفردي ليس لها أصل في الإعلان الدستوري ، وهي قامت بذلك لتصادر على المطلوب فقفزت من ذلك إلى عدم دستورية اشتراك المنتمين للأحزاب في نظام الثلث المخصص للفردي ، وهو ما لا يقول به إلا من كانت لديه مآرب سياسية وأهداف لا تمت للقضاء بصلة.
4- الكارثة القانونية الممزوجة بالنكهة السياسية الفاضحة ، أن المحكمة الدستورية المصرية خرجت عن موضوع الدعوى الأساسي ، وهو القضاء بعدم دستورية اشتراك مرشحي الأحزاب في الثلث المخصص للنظام الفردي !!!! بأن استطالت فتناولت نظام الثلثين المخصص لنظام القوائم . و المبدأ القانوني الذي يعرفه أي مبتدئ قانوني ، أن من شروط قبول الدعوى مصلحة رافعها مصلحة شخصية مباشرة . وبما أن الطاعن كان من نظام الفردي و لم يتناول في طعنه إلا تداخل مرشحي الأحزاب ومزاحمتهم لهم في الثلث المخصص للفردي . وبالتالي فإن تناول الثلثين المخصص لنظام القوائم يصبح تناولاً خارجاً عن موضوع الدعوى فضلاً عن ألا وجود لمصلحة شخصية مباشرة للطاعن ،على فرض طعنه على نظام الثلثين وهو ما لم يفعله.
كيف استطاعت المحكمة الدستورية العليا أن تنتقل فجأة في الحكم إلى نظام الثلثين المخصص للقوائم ، وبالتالي نسف شرعية مجلس الشعب ، والذي هو لب القصيد ومربط الفرس في كل هذه المهزلة السياسية المسماة زوراً وافتئاتاً حكم قضائي؟
القضاء المسيس يأبى ألا أن يجد تخريجات متهافتة ، لا لون ولا طعم و لا رائحة قانونية وقضائية وعقلية ومنطقية لها. بتسبيب المحكمة الدستورية بأنه لو لم يشترك من أشتركوا من الأحزاب في الثلث المخصص للفردي لكانت النتيجة ستتغير في الثلثين المخصص للقوائم لأنهم ربما ترشحوا فيها !!!!!!! بالله عليكم أهذا قانون وقضاء ؟!!! وما دخل تغيير نتيجة الأحزاب والمرشحين في الثلثين المخصص للقوائم المغلقة حصراً بموضوع الدعوى وطلبات الطاعن ؟ ليس له دخل أو علاقة من قريب أو بعيد ، ولكن له علاقة بما تريده المحكمة والمجلس العسكري وكل من له غايات سياسية ضد من يملك الأغلبية في مجلس الشعب. والتبرير القضائي المتهافت لا يمكن أن يمر على أي سياسي أو قانوني أو قضائي كأحكام القضاء الأتاتوركي في تركيا زمن تغول العسكر واستغلاله للقضاء وبالأخص المحكمة الدستورية العليا التركية في لعبتة السياسية القذرة المفضوحة حتى للعمى والأصم.
رغم ذلك فإن الحل والمخرج الوحيد لكل هذه المهزلة القضائية والقانونية هو بيد القضاء ، وبالأخص المحكمة الإدارية العليا ، باعتبارها محكمة الموضوع وهي من أحالت الدعوى إلى المحكمة الدستورية . ولكن ما هو الحل القانوني والقضائي لذلك؟
من المتفق عليه فقهاً وقضاء في نطاق القانون أنه إذا تجاوزت محكمة حدود اختصاصاتها أو تجاوزت موضوع الدعوى المحال لها ، فإن ذلك لا ينتج آثراً قانونياً ملزماً للمحكمة المختصة أصلاً. ومثال ذلك أن تقضي محكمة مدنية في جريمة جنائية بالبراءة أو الإدانة فإن ذلك الحكم لا يلزم المحكمة الجنائية ؛ لأن المحكمة المدنية تجاوزت اختصاصها في ذلك، ومن ثم يكون حكمها في هذا الجزء والعدم سواء . أو أن تُحيل محكمة جنائية موضوعاً يتوقف القضاء فيه على الفصل في جزئية من اختصاص محكمة الأحوال الشخصية ، فتتجاوز محكمة الأحوال الشخصية موضوع الدعوى المُحال إليها ، فذلك لا يُلزم المحكمة الجنائية ، ولا تلتزم وتتقيد إلا بما قضت به محكمة الأحوال الشخصية فيما أحالته لها المحكمة الجنائية.
وبما أن المحكمة الدستورية العليا المصرية خرجت عن موضوع الدعوى وعن اختصاصها ، بأن تناولت موضوعاً لم يُحل لها أصلاً من محكمة الموضوع ، وهو انتخابات نظام القائمة المغلقة ( الثلثين ) وتجاوزت اختصاصاتها بأن قضت ببطلان مجلس الشعب ، فإن للمحكمة الإدارية العليا أن تلتزم بحكم المحكمة الدستورية العليا فيما خص نظام الثلث المخصص للفردي فقط ، وتمتنع عن الأخذ بما قضت به فيما خص نظام الثلثين المخصص للقوائم المغلقة ومجلس الشعب ؛ بحيثية أن ذلك خارج عن موضوع الدعوى ، وخارج عن نطاق اختصاص المحكمة الدستورية أساساً.
وقضاة المحكمة الإدارية العليا المصرية لا تنقصهم لا الثقافة ولا الكفاءة ولا الحنكة والذكاء والخبرة القانونية والقضائية في ذلك.
للتواصل مع الكاتب:
alnaas1980@yahoo.com
saadalnaas@yahoo.com
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً