قد يصبح الانهزام ثقافة يتبناها الفرد الذي لا يملك ثقة في نفسه وغالبا ما يكون هذا الشعور مرتبطا إلى حد كبير بالتخلف العام الذي يعيشه المجتمع ويشمل ذلك جميع مناحي الحياة من تدني التعليم والخدمات الصحية وخدمات المواصلات والاتصالات وغيرها من الخدمات التي تمس حياة المواطن خاصة اليومية والمباشرة منها فيبحث المواطن في نفسه وفيما حوله عن شيء يتعلق به ويثبّت به نفسه ويُذهب قلقه ويلبي حاجاته فلا يكاد يجد شيئا حينها يتجه عن البحث عن شيء آخر لعله يعوّض به النقص الذي يعانيه والانهزام الذي يتولد لديه ويسيطر على نفسه وعقله ويختلف ذلك من فرد لآخر كلٌّ حسب تكوينه الديني والاجتماعي.
نحن الآن أمة مهزومة يشعر أغلبنا باستصغارِ أمام المجتمعات الغربية المتقدمة مادّيا وهذا الانهزام والتدني ليس وليد اليوم ولكنه وليد عشرات السنين ولكي تتماسك الأمة لابد من المحافظة على الدين واللغة فهما مصدر الثقة بالنفس ومصدر عزة قوة الفرد والمجتمع وقبل كل هذا وذاك لا بد من أن يثق الفرد بأن بناء القوة على المستوى الفردي خاصة وعلى مستوى المجتمعات والدول ينبثق ويرتكز على الإيمان بأن القوة مكمنها الفرد نفسه، فإذا آمن وصدّق بأن لديه القدرة الكافية ليكون قويا واثقا وأن المصدر الأساسي والمرتكز لذلك هو الدين (أيا كان هذا الدين) وبالنسبة لنا هو الدين الكامل التام الإسلامي واللغة العربية التي نزل بها فهذان هما مصدري الغلبة والتقدم.
إن الانهزام اللغوي الذي نراه في مجتمعاتنا العربية ورائه انهزام ثقافي فالانهزام الثقافي يساوي انهزام لُغوي فكلاهما يرتبط بالآخر، أما أمثلة الانهزام اللغوي في مجتمعاتنا كثيرة تجدها عند المتعلمين والجهّال على حد سواء فالفرد منا ليبرهن أنه متعلم، أو متمدن، أو حضاري، أو مثقف لا بد من أن يدخل بعض الكلمات الأجنبية وخاصة الإنجليزية منها أثناء حديثه! بالرغم من أن الحقيقة غير ذلك فليست هناك علاقة بين إدخال بعض الكلمات الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية والتلفظ بها وبين التمدن والتقدم وغيرها، فعلى سبيل المثال التقدم لن يأتي ولن تصبح متقدما إلا إذا تقدمت في كيفية تقديم عملك أي في درجة إتقان العمل الذي تقوم به والذي يشمل كيفية أداء العمل وتقديمه للآخرين ليستفيد المقدِّم والمقدَّم له لتصل الاستفادة لذوي العلاقة بالمجتمع كافة، فهل المجتمعات تتقدم بكلمة أو مجموعة كلمات إنجليزية يلقيها الفرد عشوائيا أثناء كلامه؟.
من مظاهر الانهزام اللغوي والحضاري هي كثرة اللافتات المكتوبة باللغات الأجنبية وأكثرها الإنجليزية التي تتصدر واجهات المحلات التجارية والرسمية في بلادنا العربية! أريد أن اسأل أصحاب هذه المحلات هل أغلب الزبائن عرب أم إنجليز؟ هل المحلات في بلد عربي أو في بلد أجنبي؟ هل أهل البلاد (الزبائن أو المشترين) عرب أو أجانب؟ أسئلة أراها مهمة وسنقول تجاوزا (في الظاهر) إن هذه الأسئلة طبيعية لنجاح التسويق في أي مجال، ولكنها أيضا مرتبطة بالثقافة الطبيعية لأي مجتمع سليم ولنضرب أمثلة لنقترب إلى الأذهان ولتوضيح العبارات.
نعيد تذكير أنفسنا أننا ننطلق في الواقع من أننا أمة مهزومة ولذلك سنضرب أمثلة من الدول المتقدمة ماديا والتي نشعر بالانهزام أمامها ونقوم بتقليدها بالكلية فهل تجد في الدول الأوروبية وأمريكا أو اليابان الكتابة باللغة العربية فوق أبواب محلاتهم للدعاية؟ قد يكون السؤال غريبا لأول وهلة وهذا مدعاة للتفكر فهو يذكرنا بأننا نحن الغرباء حتى في أنفسنا وداخل بلداننا، فإذا كان ذلك السؤال غريبا فلماذا إذا لا نستغرب ولا نستهجن ولا نرفض الكتابة بلغة أجنبية على أغلب محلاتنا ومقاهينا في بلادنا العربية!؟ بل تجد من يكتب لافتة على محله مكتوبٌ عليها (كافي روما أو كافي باريس) بالحروف اللاتينية وأحيانا بالحروف العربية في تجسيد بليغ للجهل والانهزام النفسي وعدم فهم وتقدير من صاحب المحل ومن حوله للغته العربية! ومن الغريب أنك تجد هذه اللافتات باللغة الأجنبية في المدن والقرى والأرياف وهذا دليل على الانهزام والشعور بالنقص وفقرنا لفهم معانٍ كثيرة في حياتنا، هل سيشتري منك محمد وأحمد ومسعود والجيلاني وأبو صالح وأم محمد وغيرها أم سيشتري منك جون ومايكل وشون وجورج وغيرهم؟ فلماذا لا تعي وتفهم ما تقوم به من أعمال وتحترم زبائنك العرب الكرام؟!.
ويتعدّى الانهزام الداخلي الذي يعانيه الأفراد ليصل إلى المؤسسات الحكومية فتجد في بعض بلادنا العربية تكتب لافتة باسم المؤسسة أو الوزارة باللغة العربية وتحتها أو بجانبها باللغة الإنجليزية كما تجد هذه الكتابة المزدوجة على سيارات الشرطة وفي أوراق المراسلات الرسمية لكثير من المؤسسات الحكومية، فما هذا الهُراء يا متعلمين؟ وفي هذا نداء لحكوماتنا المهزومة التي عوضا عن امتلاك زمام مبادرة تثقيف المواطنين بمثل هذه الأشياء وغيرها واستخدام وسائل الإعلام في بناء ثقة المواطن بنفسه ووطنه وكسر طوق الانهزام الذي يلفه وهي التي معها سلطة القانون وقوته، ولكن يا للأسف تجد الحكومة تُجاري المواطن الذي لا يملك ثقة في نفسه ولا يرتكز في بنائه على دينه ولغته مصدر عزته لتزين الحكومة مقرّاتها وسياراتها بلغات أجنبية وكأنها ولاية من ولايات أمريكا أو أوروبا فيا حسرتا على ما فرّطنا.
إن الإعتزاز بالنفس موضوع مهم في حياة الأفراد والمجتمعات إنه موضوع بناء ولكل شيء معنى في حياتنا فالأشياء ليست عشوائيةً من سلوك الأفراد إلى اختيار اسمٍ لمحل تجاري تملكه إلى كيفية تمييز العلاقات والثقافات التي يُبنى عليها السلوك وتأثير ذلك على حياتنا، بل على حرية الإنسان فقد يكون أحدنا عبدا لثقافة أو رغبة دون أن يدري؟
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً