مخرجات باريس جدا واضحة وصريحة، انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية هذا العام الذي تتأكل أيامه الباقية بسرعة، على ان يسبق الانتخابات توحيد مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الحكومة والجيش والمصرف، وان يتفق الليببيون على قاعدة دستورية للانتخابات. انفض لقاء باريس بتعهد اركان الصراع على مخرجاته وبشهادة عشرين دولة، لكن ما ان انفض الاجتماع حتى برزت العراقيل واحدة تلوى الاخرى، واهم هذه العراقيل الانقسام حول مشروع الدستور بين الخصمين الرئيسيين، وتمرير قانون الاستفتاء على هذا المشروع.
انطلقت أعمال الاجتماع الأول للهيئة التأسيسية المكلفة بصياغة الدستور يوم الاثنين الموافق 21 أبريل لعام 2014، ولوحظ خلال الاجتماع خلو 13 مقعداً من مقاعد الهيئة الستين بعد أن حالت الاضطرابات في بعض المناطق دون إكمال الانتخابات فيها لاختيار أعضاء للهيئة التأسيسية في فبراير، وكان من المفترض أن ينعقد الاجتماع يوم الاثنين الموافق 14 أبريل 2014، لكنه تأخر نتيجة توقف الرحلات الداخلية في مطار الابرق الدولي المجاور لمدينة البيضاء مقر الهيئة، بسبب العصيان المدني الذي شهدته ليبيا. كما قاطع الامازيغ انتخابات هيئة الدستور ولم ينظموا اليها. وفي 9 ابريل 2016 وبعد 86 اجتماع، اقرت الهيئة مسودة مشروع الدستور وشرعت في تقديمه الى مجلس النواب لاستصدار قانون الاستفتاء عليه حسب مواد الاعلان الدستوري المؤقت.
تعرضت الهيئة الى الكثير من الصعوبات والمضايقات خلال فترة عملها، وواكب عملها منذ تأسيسها الكثير من الانقسامات وتعرضت لضائقة مالية جعلتها تقلص عدد العاملين بها، كما عمل بعض اعضاء الهيئة على رفع دعوى قضائية ضد زميلهم رئيس الهيئة المنتخب السيد علي الترهوني بسبب ازدواج جنسيته، وأصدرت محكمة استئناف البيضاء في 15 فبراير 2016، قراراً يقضي بإيقافه عن العمل، وبإلغاء عملية انتخابه وإعفائه من مهامه بعد مرور ما يقرب من العامين على ممارستها (!!!…).
لم يكن التصويت على مسودة الدستور بالامر السهل، بل مر بمخاض عسير، قاطعة عشرة أعضاء من الهيئة، وتعرض اعضائها الى الحصار أثناء توقيعه في مقر الهيئة بالبيضاء من قبل بعض المتظاهرين، وقد أٌتهم المتظاهرون بولائهم لحفتر، ويعود اعتراضهم على اعتماد الدستور كما يفهمها متهيميهم بسبب احد مواده التي تمنع مزدوجي الجنسية من خوض الانتخابات ما لم يتخلوا عن جنسيتهم الأجنبية قبل الانتخابات بسنة، والتي رأو فيها كيد من الاخوان لحرمان المشير حفتر من الترشح. كما سبق ذلك طلب من رئيس وزراء الحكومة المؤقته عن طريق مبعوث خاص يطلب فيه من الهيئة عدم التصويت على المسودة، الامر الذي رفض من أعضاء الهيئة.
تم اعتماد مشروع الدستور في جلسة حضرها 44 عضو ومقاطعة عشرة اعضاء، وصوت 43 عضو لصالح المشروع وامتنع عضو واحد. الا ان عدداً من أعضاء الهيئة تقدّموا بطعن بشأن عدم مشروعية جلسة تصويتها أمام محكمة البيضاء وقد رفض الطعن. بعد ذلك، تقدم عدد من الشخصيات العامة من مدينة بنغازي، بطعن آخر في نوفمبر الماضي أمام محكمة القضاء الإداري، التي قضت بعدم اختصاصها بنظره على سند أن أعضاء الهيئة التأسيسية منتخبون من الشعب بشكل مباشر، وقراراتهم تخرج عن ولاية القضاء.
رحب المجلس الأعلى للدولة في اجنماع عقد بالخصوص، وبحضور أربعة وتسعين عضوا من أعضائه، في ديسمبر 2017 بإنجاز هيئة الصياغة، وطالبوا البرلمان بالموافقة عليه وعلى استصدار قانون تنظيم الاستفتاء على مشروع الدستور الليبي، وذلك بما لا يتعارض مع أحكام القضاء، وفق المادة ثلاثة وعشرين من اتفاق الصخيرات السياسي.
مع بداية هذا الشهر دخل موضوع مشروع الدستور الى ردهات مجلس النواب، وتم عرض صيغة قانون الاستفتاء على النواب، ولم يخلو القانون من الجدل المعتاد من النواب حول مواده المختلفة، انتهت برفع الجلسة الى نهاية الأسبوع الثاني من الشهر الجاري. وطبعا كان لبعض المتظاهرين دورا مبيت في عدم تمرير القانون بحجة انه من صنع وصياغة الاخوان كما صرحوا بذلك في وقفتهم الاحتجاجة اما البرلمان، وقد حاولوا منع النواب من دخول قاعة الجلسات، الا انهم لم يفلحوا.
مشروع الدستور الان بين خصمين، احدهما مؤيد لهذا الدستور ويتهم بانه وراء صياغته، وفريق اخر يرفضه لاعتقاده بان الاسلاميين قد فصلو ثوبه على مقاسهم. وللفريقيين ثقل قادر على تأزيم الوضع، لكن لم يتقدم أي منهما بمخرج يمكن ان يستأتس به في العبور بالدولة الى بر الأمان. ضف على ذلك صعوبات أخرى تكمن فيمن سيتولى الاشراف على عملية الاستفتاء والانتخابات المزمع عقدها، فكل فريق من الفرقاء يتمسك بوهم الشرعية. في الشرق لازال البرلمان والجيش يتعاملا مع الحكومة المؤقته برئاسة السيد عبد الله الثني باعتبارها حكومة شرعية، وقد يسعيا جهدهما الى عرقلة أي جهود تستبعد حكومة الثني من الاشراف على عملية الاستفتاء والانتخابات المزمعة. وفي الغرب تنال حكومة السراج المدعومة من مجلس الدولة وقوات البنيان المرصوص ومجلس الامن بالشريعة، وهي مفوضة في حالة تمرير قانون الاستفتاء على عملية الاشراف عليه، وستعمل القوة المؤيدة لها في الدفاع عن شرعيتها المكتسبة من اتفاق الصخيرات وضمان حقها في الاشراف على الاستفتاء والانتخابات.
الإشكالية الكبرى في الحقيقة لا تكمن في الانتخابات البرلمانية، فيكاد يتفق الجميع على ضرورة انتاج جسم شرعي جديد يحل محل الاجسام الحالية التي انتهت شرعيتها جميعا. لكن يضل المشكل الكبير في الانتخابات الرئاسية، فمشروع الدستور اذا تم تمريره بشكله الحالي سيقصي طيف من الليبين، ثماما كما حدث عند تمرير قانون العزل السياسي. وسيدخل البلد في معترك حاملي الجنسيات الأجنبية التي يستثنيها مشروع الدستور في مادته رقم (99). واذا امكن قبول هذه المادة بالنسبة لإعضاء البرلمان، فانه من الصعب تمريرها على قيادة الجيش والكتل النيبابية الموالية له، والتي ترى في حفتر مرشح لها، وتعتقد ان هذه المادة تستهدفه شخصيا. كما لا يمكن قبول تعديل هذه المادة من كتلة الإسلاميين والتي صرح رئيسها في مجلس الدولة الى انه سيصوت بنعم رغم انه لم يقراء المسودة، مما يفسر اطمئنانه الى انها فعلا تستهذف خصمه قائد الجيش المشير خليفة حفتر.
نحن فعلا في ورطة لا يستطيع مشروع الدستور الحالي والبرلمان بانقساماته والتنافس الدولي على الملف الليبي من حله، وفي تقديري قد يكون الحل يسير الا انه من نوع السهل الممتنع. كما اشرت، ستضل مشكلة منصب الرئيس مفصلية، فالذهاب الى انتخابات رئاسية دون دستور حاكم ومفصل لصلاحيات ومسؤوليات هذا المنصب قد تترجم الى خوف من عودة الاستبداد، وهو خوف مبرر. والذهاب الى الانتخابات الرئاسية تحت سقف هذا الدستور لن ترضي شريحة كبيرة من الليبين ومن بعض الدول الإقليمية لانها تستهذف مرشحهم.
يضل الحل الأمثل … السهل الممتنع …. في احياء دستور 63، فدستور 63 لم يلغى وانما فقط جمد، وبالتالي لن تكون هناك إشكاليات كبيرة في احيائه، وهذا الدستور يرضي جل الليبين ولن يختلفوا عليه الا فيما يضن ان الزمن قد تجاوزه، وهو امر يسهل التعامل معه. لكن اهم ما في احياء دستور المملكة انه يحل مشكلة الرئيس، فالامير الوريث الشرعي لعرش المملكة موجود وله طموح ان يلعب دور في إعادة الدولة، وهو شخصية مرغوبة ومفضلة عند الشرق الليبي، ولن يعترض الغرب الليببي عليه كما فعل سلفهم مع مؤسس المملكة السيد ادريس السنوسي. أي انه شخصية مقبول، لا جدال حوله، ووجوده وتحمله لمسؤلية المرحلة يعفي الخوض في مسألة الخلاف حول المنصب الرئاسي ويلغي الحاجة اليها.
لقد تخبط الليبيون في تأسيس الدولة وفشل المؤتمر في القيام بالمهام المناط بها كما فشل البرلمان من بعده في السنوات السبعة الماضية، ونتج عن تخبطهما استمرر الازمة وانسداد افاق الحل، لذلك اغتقد ان العودة الى دستور 63 وتنصيب الأمير محمد الرضا ملك لمرحلة تستقر فيها الدولة حل مثالي، يمكن ان يبنى عليه في تحقيق طموحات الليبين واختيار نظام الحكم الذي يحقق امالهم وامانيهم في المستقبل القريب، اما عن طريق اعتماد النظام الملكي واستمرار السيد محمد الرضا على رأسه، او تكليفه بالاشراف على اعتماد حكومة ثم الاستفتاء على نظام الحكم الذي يرغبه الشعب وتتويجه باعداد دستور يعتمد رغبة المواطنين في النظام الذي يرتضوه.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً