“نتعهد جميعنا بإيقاف كل خصومة وكل نزاع مهما كان نوعه فيما بيننا؛ فلا نسمح بإثارة أي فتنة قديمة أو جديدة، ولا نسمح بالمطالبة بأي حق قديم سواء كان ثأراً أو ديةَ جرح أو حقاً عقارياً، أو غير ذلك، رغبة منا في جمع الكلمة وتأليف القلوب وتوحيد المجهودات وتوجيهها متضافرة متحدة إلى قضية البلاد السياسية وحدها، حتى يتقرر مصير البلاد ونؤسس فيها حكومة وطنية وتنظم أمورها وتستقر أحوالها”. (1)
كان هذا مطلع “ميثاق الحرابي” الذي أصدره في مدينة درنة عُمد ومشايخ قبائل الحرابى وأعيان مدينة درنة في الثامن عشر من شهر أبريل سنة 1946م. جعل هذا الميثاق إقامة الدولة وتأسيس الحكومة الوطنية واستقرارا البلاد شرطاً أساسياً لمطالبة كل ذي حق مشروع بحقه عبر الطرق الشرعية.
بهذا الشرط أعطيت الأولوية لحق الأمة العام في إقامة الدولة ومؤسساتها، لما لهذه المسألة من أهمية كبرى، تمهد الطريق أمام صاحب الحق للوصول إلى حقه.
نحن اليوم أحوج ما نكون للبحث في صفحات الماضي، وما حملته من آلام وآمال، وكيف تصرف الأجداد حيالها، علّنا نجد فيها ما يخرجنا من هذه الأزمة التي سببتها سنين الاستبداد.
طي صفحات الماضي:
لا شك أن الشعب الليبي عانى كثيراً من سنين الظلم والقهر والاستبداد إبان حكم القذافي. ترتب على هذا الحكم وسنينه العجاف، ضياع كثير من الحقوق ما زال أصحابها يبحثون عن طرق لاستيفائها. نظام الحكم هذا فشل في إعادة هذه الحقوق وتباطأ في إحداث أي إصلاحات جدية وجذرية حتى انتفض الشباب ضده في السابع عشر من فبراير عام 2011م.
مع سقوط الشهيد تلو الشهيد طالب المتظاهرون بإسقاط النظام فواجههم القذافي بشتى أنواع الأسلحة في محاولة لإجهاض الثورة في مهدها. ثم انحاز المجتمع الدولي لهذه الثورة وساهم في إسقاط نظام الفاتح من سبتمبر الذي حكم العباد بالحديد والنار.
ارتبطت كل مؤسسات الدولة، وبالتحديد المؤسسات العسكرية والأمنية، بشخص القذافي وعمل على إفسادها وسخر مقدّراتها لحماية شخصه، فانهارت بانهياره.
هذه صفحات ولت وأصبحت جزءً من الماضي ولن تعود، وعلى من كان جزءً منها أن يطويها ليشارك في فتح صفحة جديدة تستند إلى مبادئ محددة متفق عليها، لا إلى شعارات وعناوين مفصولة عن الواقع.
وفي المقابل خسرت ثورة السابع عشر من فبراير معركة كسب القلوب، ولوّث سجلّها في الحقوق والحريّات، بعضُ الممارسات السيّئة، بل القذرة في بعض الأحيان. حالة الغضب وحبّ الانتقام والتشنّج طغت على المشهد، وتورّط عدد من الثوار في هذه الممارسات، وأصبح- كما ذكرت أيضاً في مقال سابق- بعض أبطالنا مجرمين (2)، طبقاً للقانون الدولي.
لم يكن وراء هذه الثورة شخص مدني ولا ضابط عسكري، لا تنظيم ولا جماعة، لا مدينة ولا قبيلة، بل هب الجميع ضد نظام حكم القذافي. شكل ذلك فرصة لإقامة نظام جديد، لا يعتمد على مركز قوة يكون فوق القانون ويتحكم في القرار. لكنْ في الوقت نفسه أصبحت الثورة بدون رأس وهذا شكّل مخاطر على نجاحها وطمع فيها من تجهّز للانقضاض عليها.
كيف نعالج كل ذلك ونحافظ على الحريّة المكتسبة ونجعلها لكل الليبيين؟ كيف نجعل هذا المكسب الوحيد الذي يشترك في عشقه المؤيّد لهذه الثورة والمعارض لها، والذي ناصرها والذي وقف ضدّها. العلاج مرّ ولا مفرّ من احتسائه وتحمّل مرارته ومواجهة آلامه بكلّ شجاعة وصبر. هذه الشجاعة مطلوبة من الجميع وهذه المرارة لا بدّ أن يتجرّعها كلّ المجتمع الليبي. (3)
إنهاء الانقسام السياسي والاجتماعي:
الإعلان الدستوري قائم ولم يبطله أحد كما لم يسقطه أحد. والواضح أن الحل العسكري قد يقود إلى تقسيم البلاد لكنه لن يستطيع حسم الأزمة لصالح طرف بعينه. (4)
إذن تعديل الإعلان الدستوري هو الحل ولكن كيف يمكننا الوصول إلى هذا التعديل؟ فإصدار إعلان دستوري جديد، أو تعديل هذا الإعلان لا يكون إلا بالانقلاب عليه، والسيطرة على كل البلاد وهذا مستحيل إلا بتدخل أجنبي لن يصمد، أو بأن تقرر الأمم المتحدة وضع الوصاية على ليبيا وتعيين “بريمر” جديد، أو أن يتم الجمع بين حكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، الذي جعل من مجلس النواب جسماً منعدماً، وبين إصرار المجتمع الدولي على شرعيته وذلك بإنهاء الانقسام السياسي والاجتماعي من خلال التوصل إلى مذكرة اتفاق يوقعها المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب. أحاول تقديم مقترح مسودة لها فيما يلي.
مشروع مذكرة إتفاق:
يصادق المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب على مذكرة اتفاق لإنهاء الانقسام السياسي والاجتماعي تنص على ما يلي:
أولاً: يتم تفويض وفدي الحوار؛ المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب، تفويضاً كاملاً لتكليف الحكومة وإجراء التعديل الثامن للإعلان الدستوري. وتسمى هذه اللجنة المشتركة بينهما (4+4) لجنة الثمانية، وتُعد أي وثيقة توقع عليها لجنة الثمانية، بكامل أعضائها، وثيقة دستورية كما لو وقع عليها الجسم التشريعي الشرعي بغض النظر عمن يكون.
ثانياً: إقالة كل من حكومة الثني وحكومة الحاسي وتكليف رئيس حكومة وطنية جديد، يُسَمى أعضاؤها على الفور وتحدد أولوياتها وأهدافها المراد تحقيقها وهي؛ بسط الأمن وحل المشكلات الاقتصادية المستعجلة، وإعمار المدن التي تضررت ورتق الشرخ الاجتماعي.
ثالثاً: الوقف الفوري لكل أشكال الاقتتال والخصومات والنزعات وإثارة الفتن من خلال المنابر الإعلامية.
رابعاً: تأجيل المطالبة بكل الحقوق الخاصة من دم وغيره وإعطاء الأولوية لبناء الدولة ومؤسساتها، إلى أن يصدر قانون بتشكيل محكمة خاصة، تستعين بقضاة دوليين، للنظر في كل القضايا المتعلقة بالحرب التي دارت بين الليبيين.
خامساً: إجراء تعديل ثامن للإعلان الدستوري:
تعتبر المرحلة السابقة مرحلة انتقالية، وتعتبر المرحلة اللاحقة للتعديل الثامن للإعلان الدستوري مرحلة التوافق، وتتميز بالإبتعاد عن كل اشكال التنافس.
ينص التعديل الثامن للإعلان الدستوري ما يلي:
تشكيل مجلس الحوار، يسمى مجلس الشورى، يتكون من جميع الأطراف للتوافق على مخرجات مرحلة التوافق التي تستمر لمدة يقع الاتفاق عليها.
يُتوافق في مجلس الحوار على تشكيل مجلس رئاسي وتحديدعدده، لا يجب أن يزيد عن خمسة أعضاء، وتسميتهم وتحديد صلاحياته.
يُحل كل من المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب بمجرد تسليم السلطة إلى المجلس الرئاسي في احتفالية رسمية تعلن إنهاء كل أشكال الانقسام، ويحضرها كل أعضاء المؤتمر والنواب والحكومات المنبثقة عنهما.
تكون توصيات مجلس الحوار ملزمة للمجلس الرئاسي في إصدار التعديلات الدستورية والقوانين وفي تكليف أو إقالة الحكومة وفي شغل المناصب القيادية وفق معايير يتم التوافق حولها.
يقوم المجلس الرئاسي بإحالة أي قوانين صدرت في المرحلة الانتقالية السابقة لمراجعتها وإجراء تعديلات عليها أو إصدار بديل عنها.
يعهد إلى مجلس الحوار بصلاحية كتابة الدستور الدائم للبلاد بالتوافق، ويعرض للاستفتاء العام بعد ذلك. هذه الخطوة مهمة جداً حتى يكون هذا الدستور بالفعل دستور كل الليبيين ويجب أن يشارك فيها كل الليبيين بدون استثناء.
سادساً: يتم دعوة كل الليبيين لإعلان دعم هذا الاتفاق والتبرؤ من كل من يخرقه أو يخالفه والوقوف ضده بكل قوة حتى يرجع.
مجلس الحوار:
يُقترح أن يتكون مجلس الحوار من الأطراف الرئيسة وممثلين عن الثوار والجيش، والنظام السابق ومن ينادي بدستور المملكة، والمكونات الثقافية؛ الأمازيغ والتبو والطوارق، والمرأة والتيار الفيدرالي والأحزاب الرئيسية، وغيرها.
ليبيا دولة شاسعة المساحة ولن تستقر إلا بالتوافق وعلى كل من ينادي بإقصاء هذا أو ذاك أن يعلم أن عواقب الإقصاء وخيمة دائماً، وما أوصلنا إلى أزمتنا الحالية إلا هذه العقلية التي سيطرت علينا جميعاً بدون استثناء.
خاتمة:
ثورة فبراير كشفت الغطاء عن واقع مرير لحالة شعب عانى ويلات الاستبداد. كان من المتوقع أن يحل العدل بدل الجور، وكان من المتوقع أن يبدأ البناء بعد سنين الهدم، لكن الحالة التي تركنا عليها المستبد لم تسمح بذلك. حالة التشنج والانتقام والإقصاء وسحق الآخر لم ولن تبني دولة.
أمامنا أيام إما أن نتوافق على حل، أو يحُل علينا مستعمر، لن يضع أقدامه على أرضنا، ولكن سيضع أياديه على ما في باطنها، وعلى ما خرج منها.
وأخيراً: مشينـــاهَا خطًى كُتبتْ علينَــــا ،،، ومن كُتبتْ عليه خطًى مَشاهَا:
لعل هذا هو المقال الأخير في هذه المرحلة، على الأقل في عالم السياسة، وسأحاول إصدار ما كتبت خلال السنوات الأربع الماضية في كتاب – بإذن الله- إذا استطعت جمعها، فهي تؤرخ لمرحلة وكتبت في حينها.
لقد كان كل همي، يعلم الله، أن تستقر بلادي ويعم السلام والإصلاح فيها، أصبت وأخطأت؛ فما كان في هذه المسيرة من صواب فبتوفيق من الله عز وجل وما كان فيها من خطأ فوجب الاعتذار عنه، وأعتذر عنه فهو من نفسي ومن الشيطان وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله”.
——————————————————————–
1. من ميثاق الحرابي، نشرته وزارة الدفاع على موقعها على الإنترنت، ونشره الأستاذ سعد العبيدي على صفحته على شبكة التواصل الاجتماعي “فيس بوك”.
2. مقالي بعنوان “الحرية…الإنجاز الوحيد” نشر في مجلة لنا، في 22 ديسمبر 2013م.
3. المصدر السابق.
4. مقالي بعنوان “مجلس الحوار..يشمل الجميع ويصنع دستوراً للجميع” نشر بصحيفة ليبيا الخبر بتاريخ 10 فبراير 2015م.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
للأسف خطتك ناقصه وغير مكتملة وبها الكثير من الثغرات التى قد يستغلها أفراد الحوار، المجلس الرئاسي، الخ. الجدول الزمني لكل مرحله وكذلك ماهو الخيار الاخر في حالة التلكؤ من قبل المجلس الرئاسي أولجنة الدستور وغيرهم. اعتقد حال المشكل الليبي يحتاج الى فريق من المفكرين والخبراء ومجلدات من التفاصيل لكل بند من هذه الخطه. لعل احد أسباب مشكلتنا الان هي الأخذ بالبديهيات عند إعداد الإعلان الدستوري والقوانين ألمنظمه للانتخابات للمؤتمر الوطني الذي أربك المشهد الليبي بتعديله الدستوري الغير دستوري والذي تم اعداده بدهاء بحيث لو خسروا الانتخابات يمكنهم الانقلاب عليها وهذا ماحدث.