أغلب الفضاءات الجغرافية تنحت مُسماها من حيثياتها المكانية، فتنتسب بذلك إلى ذاتها وتؤسس لمُسماها ببُعد كوني ومثال ذلك، جنوب المتوسط أو شرق المتوسط، قناة بنما إلخ. ولكن تمت بعض الفضاءات لا تتمتع ولا تطال هذا الترف الاستقلالي لمُسماها، ويحجبها عن ذلك وسيط يُمثل مركز تنشدّ إليه أو قطب تنجذب إلى مداره، فتنسب للمركز أو القطب ومن تم تستمد مُسماها منه. فمُسمى الشرق الأوسط يندرج تحت هذه الفضاءات التابعة، التي تُعرّف بالانتساب إلى مركز أو قطب، بمعنى أنه ليس شرق أوسط ببعد جغرافي لكل الكون، بل هو شرق أوسط للقطب الذي يجّذب ويشدّه إلى مداره، وهذا المركز أو القطب ليس غير الغرب الأطلسي في صيغته البريطانية. كما يقول تتبع تاريخ هذا المسمى.
وهذا يدفعنا إلى القول بألا يجب أن يمر هذا اللفظ (الشرق الأوسط)، بعد أحداث انتفاضات 2011م، كما كان في السابق، مرور العابر لا نعره انتباه ولا نلتفت إليه، بعدما تبين وبوضوح تام، لكل متابع مهتم لشؤون الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب المتوسط وأحداثها على مدار العقود الماضية، بأن مسمى الشرق الأوسط، لم يكن في يوما ما لفظ جامد أصم، ميت لا حراك فيه، أو مفردة جوفاء ترددها ألّسنة البشر والتلفزة والإذاعات وتكتبها الجرائد والمجلات على صفحاتها إلخ.
بل أظهر هذا المصطلح أو المسمى أثناء اشتباك انتفاضات 2011م مع ما جاء هذا الحراك الشعبي لأجل تفكيكه ومن تم تحّيده، على ساحات بعض من الفضاءات الجيوسياسية التي تغطي بفسيفسائها جغرافية شرق وجنوب المتوسط، بأن مسمى الشرق الأوسط يتنفس الحياة من كل مسامه، بل يخط وينحت مشهد الحياة قاطبة في هذا الفضاء الجغرافي، ويرّسُمه في خطوطه العريضة وتفريعاته الثانوية، من خلال نسيج شرق أوسطي يشد ويربط الفضاء الجغرافي لشرق جنوب المتوسط بعضه إلى بعض، اشتغل ووظف مجترح وعرّاب هذا المُسمى على اللسان الواحد، والقِبّلة الواحدة، والثقافة الواحدة، والامتداد الجغرافي الواحد، وجعل منها جميعها مادته لحياكة شبكة تواصل متيته تربط هذا الفضاء الجغرافي تحت مسمى الشرق الأوسط.
فقد لاحظ وبدون شك، كل متابع مهتم لأحداث وتفاعل انتفاضة 2011م -في الحالة الليبية-، وأثناء مُشاغلتها للواقع الداخلي المحلي الليبي، التي جاءت لتفكيكه ومن ثم التوجه نحو إصلاحه، ظُهور غير متوقع وعن فجاءة لمفردات إقليمية، مسنودة بدعم دولي، في مجال وحيز وقوس اشتباك الانتفاضة، مع مفردات أهدافها داخل الوعاء الجغرافي الليبي، وقد تجَسّد هذا المشهد، من خلال أطراف لمفردات جيوسياسية شرق أوسطية، قطر، الأردن، الإمارات، السعودية، السودان، الجزائر، مصر، اشتغلت وتشتغل كظهير لما جاءت الانتفاضة بليبيا لتفكيكه وتحّيده، ومن ثم صار لهذه الأطراف حضور طاغي وقوي في داخل المشهد الليبي، ولا قاسم مُشترك ولا جامع بين هذه المفردات الجيوسياسية، سوى أنها ليست غير من اللبنات، التي ينهض على أكتافها بنيان الشرق الأوسط.
كنت أحاول الوصل بالقول، استناد على كل ما سبق، لقد كشفت الانتفاضة، بأن ليبيا ليست غير لبنة في بنيان وكيان الشرق الأوسط، لبنة وفقط ليس غير، وبقول آخر، فهي كما محيطها لبنة وليست حتى كيان في فضاء الشرق الأوسط، بل واستطيع القول بدون تحفظ، بأن كل المفردات الجيوسياسية التي تغطي الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب المتوسط، ليست سوى لبنات تتساند لينهض على أكتافها بنيان الشرق الأوسط، فهذا ما قالته وتقوله الأحداث التي يُعايشها حاضرنا البائس.
فالكيان غير اللبنة، فهو يحظى ولو بحد أدنى من الحضور الحي، وبهامش ولو ضيق من الاستقلالية، يسمح له بالحركة، نحو تأمين حد أدنى من حياة كريمة لساكنيه، عبر الاشتغال على تأسيس بنية خدمية إنمائية تنموية، يؤمن بها ما يجعل الحياة سلسة، وفي متناول جميع ساكنيه، وبما يتناسب مع موارده الطبيعية والبشرية وتموّقعه الجغرافي داخل إقليمه وغيرها.
أما اللبنة فهي شيئ غير ذلك، فهي وفي حالتنا هذه، لا تعدو عن حجر في مجموعة أحجار ينهض عليها بنيان وكيان الشرق الأوسط، فهي وبقول آخر، قد تكون منجم طبيعي غني وهائل للمواد الأولية، أو خزان بشري واسع متعدد المواهب والاستعدادات، أو مخزون لاحتياطي نفطي يُعد بمليارات البراميل أو سوق استهلاكي يسع مليارات الأفواه أو تموضع جغرافي جيد داخل إقليمه الجغرافي، يوظف كل هذا الكم من الأشياء في خدمة وديمومة كيان الشرق الأوسط وفي خدمة عرّابه.
وفي أخر القول، لقد كانت انتفاضة اللبيبين مع بداية 2011م، عمل وشأن داخلي يسعى به الليبيون نحو رفع البؤس عن الحياة داخل الوعاء الجغرفس الليبي، في خطوة منهم نحو البناء والنمو والنهوض والتقدم، في حين كان الاقتحام والحضور المكثف لمفردات جيوسياسية شرق أوسطية إلى داخل المشهد الليبي، لا تفسير له، سوى رفضها لفعل الليبيين، ولا يرون في هذا الفعل غير فتق طال نسيج الشرق الأوسط، يجب معالجته قبل اتساعه، وقد تمكن هؤلاء من ذلك، من خلال بعث وخلق آلية جاءت في مخرجات مؤتمر الصخيرات وتوابعه وملحقاته، للدمج أولا ما بين ثنائية فبراير- سبتمبر، ومن ثم جعل ما تبلور عن هذا الدمج، أداة لرتق الفتق الذي طال نسيج الشرق الأوسط قبل اتساعه.
وفي المقابل لقد تمكنت الانتفاضة بليبيا، وبعد مخاض عسير دام عشر سنين، من بلورة كادر وطني محلي، ذو ذراع عسكري تمتل في الجيش الوطني، وآخر مدني جاء مع تشكيل حكومة الاستقرار الوطني، و صار هذا الجسم يطرح نفسه ممثل وشريك وطني محلي، لكل حراك ونشاط أممي دولي إقليمي، يسعى نحو معالجة الشأن الليبي وتعقيداته.
وبهذا الواقع الجديد، أصبح كل نشاط أممي دولي إقليمى يهتم بالتعقيدات الليبية، بين خيارين اثنين، * إما إعادة تدوير الماضي، ومن ثم إعادة إنتاجه، مستخدما ومستعين بمخرجات الصخيرات وملحقاتها كأداة ورافعة لخياره هذا، وسينتهي هذا الفعل إلى إعادة إنتاج ما استنفر الليبيين ودفعهم إلى الانتفاض مع بداية 2011م، ولكن في ذلك إدامة لبنيان الشرق الأوسط عبر رتق الفتق الذي أصاب نسيجه، ** أو وفي المقابل، الذهاب نحو الطرح البديل، الذي جاء من خلال ما تبلور على يد انتفاضة الناس بليبيا، بعد مخاض عسير وطويل دام سنين عشر، تمخض عن جسم محلي وطني ليبي، يطرح نفسه كشريك إنمائي تنموي يحمل هَمْ وطن، يسعى به نحو رفع البؤس عن حياة الناس، بداخل الوعاء الجغرافي الليبي، في خطوة نحو البناء والنمو والنهوض والتقدم، وبعث الأمن والاستقرار في الحيز المحلي والنطاق الإقليمي والدولي، وهذا قد ينتهي إلى تأسيس جديد ينهض على شراكة في البناء والنمو والنهوض والتقدم، الجاذب للأمن والاستقرار للحيز المحلي والفضاء الإقليمي القريب والدولي البعيد، وأي خيار آخر، سيكون ليس غير الالتفاف على الخيار الوطني المحلي الليبي، لتبني بديله في إعادة تدوير الماضي وبعثه من جديد بكل ارتداداته السلبية التي أرهقت الحياة داخل الفضاء المحلي، وتخطته بقلاقل وعدم استقرار عصفت بالمحيط الإقليمي القريب والدولي البعيد.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً