أخطاء كارثية
بدأت الحرب في الواقع يوم 30 يونيو 1989 الذي شهد انقلاب الجبهة الإسلامية القومية (المسمى القديم للكيزان)، والذي استمر لتسع وعشرين سنة كالحة من عمر الشعب، وبعد أن تنفست البلاد الصعداء بعد سقوط النظام تكالبت عناصر تترى من الأخطاء السياسية القاتلة، وشملت: تسنم قوى الحرية والتغيير (يُختصر اسمها عادة ب “قحت”) سُدة الحكم بتحايل على الشعب ودون الحصول على تفويض شعبي منه، ومحاولة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك إدخال البلاد في الفصل السابع لولا تدخُل الجنرال البرهان واُضطر حمدوك حينها إلى التراجع والاكتفاء بالفصل السادس، والسماح لقوات الدعم السريع بالتوسع والتنامي السرطاني، وتلاعب الساسة على وتر الموازنات بين الجيش والدعم السريع لتحقيق مصالح حزبية ضيقة، واتفاقية جوبا التي أدخلت أعدادا غفيرة من عناصر الحركات المسلحة إلى العاصمة مما أدى إلى تغيير الواقع العسكري في حاضرة البلاد، والتقزيم المريع لجهاز الأمن لأسباب انتقامية تتصل بالأداء الإجرامي للوحدة السياسية، وتفكيك هيئة العمليات إرضاء لمخاوف/ طموحات قائد الدعم السريع، ونصوص الاحتيال السياسي، والمقصود بها الاتفاق الإطاري ومسودة الدستور المنسوبة إلى نقابة المحامين.
عناصر المشهد السياسي السوداني
يتألف من القوى التالية:
- الجيش.
- الدعم السريع.
- الحركات المسلحة.
- قوى الحرية والتغيير.
- لجان المقاومة والتي يعدُها الكثيرون الصوت الناطق باسم الشعب.
- بقية الأحزاب السياسية.
- الكيزان (المسمى المحلي لتيار الإخوان المسلمين).
تشير الوقائع على الأرض إلى أن الدعم السريع ربما يتعرض لضربات قاصمة خلال الأشهر القادمة إذا ما استمرت التطورات على نهجها الحالي، وهذا يستدعي بالضرورة تدهورا في حظوظ حليفه السياسي الأوثق قوى الحرية والتغيير “قحت”، مما سيحصر المعادلة السياسية على العناصر الخمس المتبقية. هنا تجدر الإشارة إلى ثوابت الموقف الشعبي:
أ. الرفض القاطع لعودة الكيزان إلى المشهد السياسي.
ب. الرفض القاطع لوجود الدعم السريع.
ج. عودة الجيش إلى ثكناته ليمارس مهمته الرئيسة في حماية الوطن والمواطن.
العوامل التاريخية
ثمة عوامل تاريخية تلقي بظلالها القاتمة على المشهد السياسي السوداني، ومن أهمها:
– الحلم القديم لدى عرب الصحراء الكبرى بميلاد قائد عظيم سيخلصهم من الشتات والتيه، لتبزغ شمس مملكتهم الظافرة. هذا الحلم القديم تداولته الأزمان، وتعاقبت على اعتناقه الأجيال، بل وظهرت شذرات منه في أدبيات بعض الحركات الصوفية في المنطقة المذكورة، ولذا تسارع القادمون من عمق الصحراء زرافات ووحدانا للالتحاق بابن القبيلة الذي سيتحقق الحلم على يديه.
– مشروع بن غوريون لتقسيم السودان، والذي تطور عبر الزمن، متمظهرا في وثيقة كيفونيم لتقسيم العالم العربي الصادرة عام 1982، وكذلك مخططات المفكر الاستراتيجي الراحل برنارد لويس لإعادة تشكيل المنطقة، وانعكاساتها اللاحقة في مشروعيّ الشرق الأوسط الكبير والجديد.
من المعلوم أن أحد الأركان الرئيسة لعقيدة الأمن الصهيوني (أقرها في مطلع الخمسينيات ديفيد بن غوريون، أول رئيس للوزراء؛ وموردخاي ماكليف، أول رئيس لأركان الجيش الصهيوني) تعزيز الفوضى وإنشاء دويلات متحاربة في دول الحلقة الخارجية (التي تحيط بدول المواجهة المباشرة) لتضغط كالكماشة على دول المواجهة، وكان للسودان نصيب من تلك المخططات منذ مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، وتجدر الإشارة إلى وصية بن غوريون التي ما زالت مبدأ جوهريا في عقيدة الأمن الصهيوني “إن إسرائيل لن تكون بأمان، ولن تكون قوة إقليمية عظمى ما لم تكن مُحاطة بفسيفساء من الدويلات الطائفية والعرقية”.
علاوة على ما تقدم، فإن الكيان الصهيوني يسعى أيضا لنيل حصة من المعادن النفيسة ومعادن الأرض النادرة التي يتضمنها السودان، وخاصة من منطقة دارفور.
القوى الإقليمية والدولية
القوى المؤثرة من دول الإقليم في المعادلة السودانية الشائكة:
– دول الجوار الجغرافي.
– السعودية.
– الإمارات.
– قطر.
– تركيا.
– إيران.
– العدو الصهيوني.
أما القوى الدولية ذات المصالح المباشرة في السودان:
– أمريكا.
– بريطانيا.
– فرنسا.
– ألمانيا.
– روسيا.
– الصين.
صنعت حرب المصالح وتقاطع النزاعات من السودان –على النسق السوري- ساحة جديدة لتصفية بعض الخلافات الجيوسياسية الطاحنة بين دول مؤثرة في المشهد السياسي الدولي.
العوامل الجيوسياسية
رسمت الأهمية الجيوسياسية للسودان: الموقع الفذ بوابةً لإفريقيا من الجانب الشرقي، والساحل الطويل في وسط البحر الأحمر، وكونه رابطا بين مصر شمالا ومنطقة القرن الإفريقي جنوبا، علاوة على توفر موارد هائلة من المعادن (الذهب والفضة والنحاس والحديد واليورانيوم والكوبالت والمنغنيز والبوكسيت والغرافيت والمايكا.. إلخ)، ورصيد بشري ضخم كما ونوعا، وثروات مائية ورعوية وزراعية عملاقة – مكانة فذة تدفع الحالمين والطامعين في تناول شطيرة من الكعكة المغرية إلى التسابق والتنافس الحاد، ومن أهم التقاطعات الجيوسياسية ذات الصلة بالسودان ما يلي:
أ. القوى الدولية
– العودة الأمريكية إلى القارة الإفريقية على ظهر القضية السودانية، ورغم أن الاستراتيجية الأمريكية للسودان ترى ضرورة إبقاء الدولة السودانية ضعيفة ومتشظية، إلا أن التطورات مؤخرا تدفع أمريكا إلى اتخاذ موقف متشدد بغرض العودة إلى القارة بعد إهمال كامل استمر لعقدين من الزمان تقريبا.
– النزاع الأمريكي الروسي، والسودان مرشح لأن يكون إحدى الساحات لممارسة الحرب بالوكالة، خاصة بسبب انتشار ميليشيا فاغنر في السودان وإفريقيا الوسطى وغيرهما من الدول الإفريقية.
– النظرة الروسية (في إطار تقسيم مناطق النفوذ العالمي) إلى البحر الأحمر بأنه بُحيرة روسية، وانتشار ميليشيا فاغنر واضطلاعها بأدوار مهمة في عدة دول إفريقية، وبشكل خاص في السودان حيث تتبادل المنافع مع قوات الدعم السريع: الحماية في مقابل الحصول على الذهب وغيره من المعادن النفيسة.
– حرب الطاقة الدولية، وللسودان موقع منها باعتباره زاخرا بالعديد من المعادن النفيسة علاوة على مخزونات ضخمة من معادن الأرض النادرة.
– الحضور الاقتصادي الصيني في إفريقيا عامة، والعسكري في القرن الإفريقي خاصة، وحرصها البالغ على الانتصار في حربها الاقتصادية ضد أمريكا، علاوة على تأمين وجودها الاقتصادي في القارة، مما دفعها مؤخرا إلى استقدام المزيد من القوات إلى المنطقة لتأمين مصالحها الآنية، علاوة على مصالحها المستقبلية المتمثلة في مبادرة الحزام والطريق والتي يُعد بحر العرب والقرن الإفريقي والبحر الأحمر أجزاء حيوية منه.
– مصالح ألمانيا وفرنسا في استغلال المعادن في إقليم دارفور، وحرص فرنسا على تأمين المنطقة الغربية من السودان لأنها تتاخم تشاد، والتي تُعد دولة ذات أهمية جوهرية في إطار الأجندة الفرنسية لإدارة العلاقة مع الدول الإفريقية.
ب. دول الجوار والمحيط الإقليمي
– التحالف الاستراتيجي بين الجنرالين حفتر وحمديتي، حيث يجمعهما التنقيب عن الذهب، والتجارة البينية وتشمل السلاح، علاوة على تزويد حميدتي (وبعض الحركات المسلحة السودانية الأخرى أيضا) للجنرال حفتر بالمرتزقة للمشاركة في قتاله ضد حكومة الوحدة الوطنية ومقرها طرابلس، وقد ساهم وجود أولئك المرتزقة بشكل ملحوظ في تأجيج الصراع الليبي الداخلي والعصف بالاستقرار في البلاد. ثمة تساؤل عن موقف حكومة الوحدة الوطنية الليبية مما يحدث في السودان، خاصة وأن أفرادا من القبائل الليبية يساهمون في القتال إلى جانب الدعم السريع، مما قد يلوّح بانتشار خطاب الدعم السريع في بعض المناطق الجنوبية من ليبيا، ولذلك تبعات أمنية مزعجة لطرابلس.
– الأمن الوطني المصري وإحدى متطلبات تأمينه استقرار الأوضاع في السودان. تبدو الحكومة المصرية حاليا غير راغبة في تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك التي تربطها والسودان، وذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية القاهرة، و”النصائح” التي تلقتها من دول إقليمية ومؤسسات مانحة دولية بضرورة النأي عن التدخل في الشأن السوداني، وينعكس تأثير تلك النصائح في الموقف المصري الرسمي الذي يصرّح أن التطورات التي يشهدها السودان مسألة داخلية بحتة.
– تنامي القلق من سيطرة الجماعات الإرهابية على الصحراء الكبرى، علاوة على خطر الإرهاب القادم من موزمبيق متجها إلى الشمال بصورة حثيثة، ومن الصومال أيضا، وكذلك استشراء الجماعات الإرهابية في منطقة الصحراء الكبرى، وهنا تجدر الإشارة، بل التحذير، بأن سقوط السودان سيعني التقاء الجناحين الصحراوي والإفريقي من التنظيمات الإرهابية، مما سيرتقي بهما إلى مرحلة جديدة من المنعة ستدفعهما بلا شك للسعي نحو الانتشار، وبصفة خاصة باتجاه المملكة العربية السعودية لأسباب تلي أدناه .
– سد النهضة؛ البعبع الذي يهدد الأمن المائي للسودان ومصر، وما قد يشهده السودان من إعادة صياغة جيوستراتيجية تؤثر على ذلك المشروع الضخم الذي تعدُه إثيوبيا محور سياستها الخارجية وعماد اقتصادها المستقبلي. يُضاف إلى ما تقدم حرص إثيوبيا على بقاء/ إبقاء السودان في حالة ضعف وخور مما سيضعف المطالبات السودانية بإيجاد حل مستدام لقضية سد النهضة، ويخمد السعي السوداني لاستعادة المناطق السودانية التي تحتلها إثيوبيا.
– عداء النظام الإريتري للحكومة السودانية، وتحالفه مع الدعم السريع، علاوة على مساعيه المعلومة للضرب باستقرار وأمن السودان، والسبب تحقيق أجندته الخفية للتوسع باتجاه شرق السودان مُستغِلا وجود قبائل مشتركة بين البلدين وسيلة للعصف بالاستقرار، والهدف الاستراتيجي لإريتريا هو ضم شرق السودان إليها للتوسع جغرافيا واقتصاديا.
– علاقة الحب/ الكراهية التي تربط الخرطوم وجوبا، واستمرار حكومة جنوب السودان في تعليق المسائل الخلافية بين البلدين، وعلى رأسها مسألة أبييّ، علما بأن حكومة جنوب السودان تدعم بعض التنظيمات التي ترفع السلاح ضد الدولة السودانية، والوضع الأمثل في نظر صانع القرار في جنوب السودان هو وجود دولة مركزية في السودان، شريطة أن تكون ضعيفة ولكن ليس بما يهدد المصالح الاقتصادية لجنوب السودان، وأهمها على الإطلاق هو أنبوب البترول الذي ينقله من جنوب السودان إلى ميناء التصدير على البحر الأحمر.
– مخاوف الحكومة التشادية من تغوّل الدعم السريع في بلادها، خاصة إذا اقترن ذلك بدعم واسع من المجموعات العربية في تشاد والدول الإفريقية الأخرى مما قد يُضعف سلطة الدولة المركزية في انجمينا، ويُعيد حالة عدم الاستقرار التي سادت في البلاد خلال العقود الماضية. تتخوّف الحكومة التشادية بشكل خاص من استقواء عرب تشاد وإخوتهم من عرب الصحراء وتمكنهم لاحقا من إسقاط النظام.
– سحب الغطاء الأمريكي العسكري من دول الخليج العربي، مما خلق لديها حالة من القلق وسعيا للتنويع في مصادر السلاح وإعادة ترتيب الأوراق السياسية بتوثيق عُرى التعاون مع روسيا والصين، علاوة على التقارب مع إيران في محاولة جادة لتصفير عداد المشكلات الكبرى. لذا يمكن القول إن المصلحة الاستراتيجية للدول الخليجية تكمن في بقاء السودان ينعم بالاستقرار.
– السعي التركي للحصول على موطئ قدم في البحر الأحمر، وقد تضاءل ذلك الدور بعد صعود شهده أثناء الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير. هنا تساؤل مهم للغاية: هل ستسعى الخرطوم، في إطار تحالف جديد، للاستعانة بتركيا لمواجهة ما تصفه الحكومة السودانية –ضمنا ليس تصريحا- بالتغوّل الخليجي على السودان.
– أوكازيون القواعد الأجنبية في منطقة القرن الإفريقي، وما يسببه من إشعال التوتر في المنطقة، وما يرتبط بذلك من أصداء جيوسياسية تتردد في الدائرة الجغرافية الأوسع التي تصل إلى باكستان وأفغانستان شرقا، وحتى تركيا وروسيا شمالا.
– المصالح السعودية في ضمان الأمن والاستقرار في شرق السودان خاصة، والوضع في البلاد بشكل عام، خاصة وأن المنطقة الغربية من السعودية تضم الحرمين الشريفين، ومدينة ينبع الصناعية، وخطوط الأنابيب والمنشآت الخاصة بصناعة النفط، والعديد من الصناعات، علاوة على مشروع نيوم العملاق، والذي يعد إحدى الركائز الجوهرية للمستقبل الاقتصادي للدولة. إن سقوط السودان في حضن الإرهاب سيتبعه بلا شك سعي المجموعات الإرهابية إلى توسيع رقعتها الجغرافية بالتوجه شرقا عبر البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية.
– المصالح الإماراتية والقطرية، وربما يصح جمعهما في سلة واحدة بسبب تشابه الأهداف، والتي تتمثل في الحصول على حصة دسمة من المنطقة المطلة على البحر الأحمر لأغراض جيوسياسية وأمنية، واقتصادية تتعلق بمشاريع طويلة الأجل تجهّزا لمرحلة ما بعد نضوب النفط، ويتصل بذلك المشروعات الزراعية الضخمة التي تكفل الأمن الغذائي.
– الاصبع الصهيوني الذي يحرص على عدم استقرار السودان واستمراره مكبلا بقيود الحرب الأهلية واستلاب الإرادة الوطنية.. إلخ مما يصب في عقيدة الأمن الصهيوني المذكورة آنفا.
مما سبق يتضح تعقيد العوامل الجيوسياسية ذات الصلة بالسودان، وما تحمله القوى الإقليمية والدولية من مخاوف وأطماع، تختلف درجاتها كثيرا، وتتباين إمكانيات تطبيقها أيما تباين.
سيرورة الحرب
إحدى التعريفات الشائعة للحرب أنها تعبير عن الفشل الذريع للسياسة، ولكن بخلاف المظاهر المعهودة من قتل ودمار.. إلخ، فإن النزاع الحالي يشي بالسمات الرئيسة للعقلية المنهجية التي تخطط للدعم السريع:
أ. جرائم اُرتكبت ضد المؤسسات الحكومية
– سرقة/ تدمير السجلات في مصلحة الأراضي.
– سرقة سجلات المحاكم والهيئة القضائية.
والهدف كما يتضح هو محو الذاكرة المؤسسية الحكومية تمهيدا للإحلال الديموغرافي لتوطين عرب الصحراء الكبرى في السودان، وإنشاء مملكة يخططون لامتدادها من البحر الأحمر عبر شريط الساحل والصحراء حتى الحدود الشرقية لموريتانيا.
ب. جرائم التجريف الثقافي والتاريخي والعلمي
– نهب متحف الهيئة القضائية.
– تدمير المتحف العسكري.
– تهديم المتحف القومي.
– تدمير متحف التاريخ الطبيعي.
– تخريب جامعة أم درمان الأهلية والاحفاد وجامعات أخرى.
– تدمير بعض الآثار التاريخية في أم درمان.
– تدمير مركز البحوث و الاستشارات الصناعية- شمبات
والهدف هو محو الذاكرة الجمعية للشعب تمهيدا للتغيير المذكور أعلاه، وتُعد ممارسات الدعم السريع في هذا الصعيد تطورا غير مسبوق في تاريخ السودان على الإطلاق.
مآلات النزاع
تتعدد السيناريوهات لما قد يُسفر عنه النزاع الحالي من نتائج:
أولا: انتصار الجيش على قوات الدعم السريع
هذا هو الخيار الأقرب إلى الواقع باعتبار الأوضاع الميدانية، كما أنه الخيار الأقرب للمزاج الشعبي، خاصة وأن قوات الدعم السريع قد اتخذت من التدمير الممنهج للمؤسسات العامة والخاصة واغتصاب الحرائر.. إلخ ممارسة يومية، مما أثار الغضب العارم حتى لدى أتباع بعض الأحزاب التي تميل إلى الدعم السريع.
تكلفة هذا الخيار ما زالت تُدفع، ولذا من العسير التكهن بمستوى الخسائر البشرية والمادية التي ستلحق بالاقتصاد الوطني، ولكنه بلا شك خيار باهظ رغم أن يحظى بمساندة شعبية واسعة ترغب في دحر الدعم السريع، وترى ضرورة سحقه بالكامل.
إحدى الصعوبات التي تواجه هذا الخيار هو عدم حصول الجيش السوداني على الدعم بالعتاد الذي يحتاجه للاستمرار في عمليته العسكرية، خاصة وأن الدعم السريع يتخذ من سياسة النفس الطويل تكتيكا لإنهاك الجيش السوداني تمهيدا للإجهاز عليه، ويتصل بذلك جنوح الدعم السريع إلى إشعال الأطراف (شرق وغرب السودان) لإبقاء منطقة الوسط رخوة وقابلة للالتهام!
في حال انتصار الجيش على الدعم السريع فإن الشارع السوداني يتوقع، بل وأنه سيطالب بحزم، بإحداث تغيرات جذرية تنال من المعادلة الفاشلة التي سادت منذ سقوط الإنقاذ، وأولى المتطلبات هو عودة الجيش إلى دوره الأصلي حاميا للبلاد والعباد، ورقيبا محايدا يضمن صحة ونقاء العملية الديمقراطية من بُعد، وقبل ذلك فإن الشارع سيطالبه بإنهاء صيغة التحالف المُربكة والمزعجة جماهيريا بينه والكيزان، وفي حال تغافُل الجيش أو رفضه لتلبية هذين المطلبين فإنه سيفقد حتما المساندة الشعبية الجارفة التي يحظى بها حاليا، مما سيخلق عداء مع قطاعات عريضة مع الشعب؛ تمُجُ الدعم السريع، وفي ذات الوقت ترى عودة الكيزان بأي شكل أو مقدار خطا شديد الاحمرار.
ثانيا: هزيمة الدعم السريع للجيش
رغم تقدم الجيش في العديد من المحاور داخل العاصمة، إلا أن الحرب كان طابعها السجال وتبادل المواقع بشكل دوري، مما يدفع للتساؤل عن احتمال هزيمة الدعم السريع للجيش، وسيطرته النهائية على الدولة.
ميدانيا، يبدو هذا السيناريو صعب التحقق في وقت الكتابة، خاصة وأن الجيش استعاد رباطة جأشه وعافيته خلال الأسابيع المنصرمة، واستطاع توجيه ضربات مؤلمة لقوات الدعم السريع، علاوة على أن المساندة الخارجية التي كان الدعم السريع يتوقعها لم تأتِ بالقدر الذي يساعده على النجاح في سياسة النفس الطويل المذكورة أعلاه.
هذا الخيار مثير للذعر الشعبي، ونرى تمظهراته في المساندة الواسعة للجيش والتي انعكست في تشجُّع الجنرال البرهان مؤخرا على الدعوة للنفير/الاستنفار العام بعد طول انتظار جماهيري. حدث الدعم الجماهيري للجيش رغم أصابع الاتهام التي توجّه له بالضلوع في ارتكاب جرائم سابقة، وأنه تكالب على منازعة المدنيين السلطة منذ سقوط نظام الإنقاذ.
علاوة على ما تقدم، فإن هذا الخيار كارثي بالنظر لمستقبل السودان لأن الدعم السريع لا يحمل أي مشروع فكري أو إيديولوجي. ولم يطرح أي رؤية لإدارة الدولة، بل لم يتجاوز محطة التفكير الميليشيوي البحت، وثقافة التمجيد الأعمى للأشخاص والقبائل دون تقديم خطاب وطني جامع ذو سمات واضحة.
ثالثا: انسحاب الدعم السريع إلى دارفور
ثمة دلائل ظرفية (على رأسها التفريغ الديموغرافي لمدينة الجنينة في أقصى غرب البلاد) تشير إلى أن الدعم السريع قد يلجأ لخيار الهروب إلى دارفور بغرض التقليل من الخسائر الباهظة التي تكبدها مؤخرا؛ بغرض التقاط الأنفاس وإعادة ترتيب القوات تمهيدا:
أ. إما للسيطرة على دارفور وتأمينها بالكامل منطقةً لإنشاء النواة للمملكة الحُلم، ثم الانطلاق تارة أخرى باتجاه العاصمة.
ب. أو الاكتفاء بدارفور غنيمة، وتحصينها ضد الحركات المسلحة والأهالي باستقدام عرب الصحراء الكبرى بأعداد ضخمة مما يغيّر التركيبة الديموغرافية وخريطة الهيمنة العسكرية في دارفور.
كلا الخيارين سيلقى معارضة واسعة من الحركات المسلحة والأهالي في دارفور على حد سواء، خاصة وأنهم ذاقوا الأمرّين من الدعم السريع أثناء العقدين الماضيين. كما أن أيا من السيناريوهين سيثير فزع الرئيس التشادي، والذي بدت عنه بالفعل تحركات تشير إلى مخاوفه بهذا الخصوص، وشملت استعانته بفرنسا لتأمين حدوده الغربية (لمنع عرب الصحراء الكبرى من القدوم إلى السودان)، وحدوده مع إفريقيا الوسطى (لسد الطريق البديل نحو السودان). كما يُلاحظ أن السيد/ مِنيّ أركو مِنّاوي، رئيس حركة جيش تحرير السودان وحاكم دارفور، قد فطن إلى هذا الاحتمال، ولذا غادر الخرطوم بصحبة قواته في الأسبوع الأول من مايو 2023 متوجها إلى دارفور ليكون على أهبة الاستعداد، ولا شك أن قادة الحركات المسلحة (والذين آثروا الحياد حتى الآن) يُفاضلون بين احتمالات أيلولة الصراع، ويدرسون سيناريوهات المجابهة لأي محاولات من جانب الدعم السريع للهيمنة على دارفور.
هذا الخيار الثالث هو في الواقع إعلان لبدء الحرب الأهلية، والتي ستشمل الجميع في دارفور بلا استثناء، إذ سيسعى الدعم السريع لإفراغ المنطقة من سكانها الأفارقة، واستبدالهم بأعداد ضخمة من عرب الصحراء مما سيؤدي إلى تصفية عرقية على النمط الرواندي. كما أن بقية أرجاء البلاد ستتأثر بلا شك وستشهد نصيبها من الأعمال المسلحة الدامية.
خاتمة
يشير استقراء المعطيات الميدانية إلى أن الاحتمال الأرجح هو انتصار الجيش السوداني على قوات الدعم السريع في المعركة الآنية، وفي ذات الوقت فإن القراءة المتعمقة للمعطيات الجيوستراتيجية ذات الصلة بالسودان تشير إلى أن البلاد ستظل (بغض النظر عن نتائج المعارك الحالية) موقعا ملتهبا لتصفية نزاعات القوى الإقليمية والكبرى؛ عسكريا وسياسيا، مما سيُطلق العنان لنزاع دامٍ يستمر سنوات عديدة، ويُلحق ضررا كبيرا بطموح الشعب السوداني إلى الاستقرار والنماء.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً