عمليات الانتقال السياسي التي تمر عبر الصراعات المسلحة ليست من العمليات التي يتوقع لها ان تتم بسلاسة، فهي كالعملية القيصرية قد تقلل من الام الوضع الطبيعي لكنها تترك اثارها لبعض الوقت. فعادة ما تصاب الدولة خلال عملية الانتقال بحالة من الضعف والوهن نتيجة انهيار منظومة الامن فيها او تغييبها، يصاحبها بروز ظواهر سلبية تزيد من ضعفها ووهنها، وهذا الامر واضحا في الحالة الليبية بالخصوص وفي حال دول الربيع. ومن الظواهر السلبية التي تبرز هو الايمان بقوة السلاح في تحقيق المطالب، لذلك تسعى العديد من الفصائل الى امتلاك السلاح او المحافظة على ملكيته، واستعماله في فرض مطالبها التي لا تنتهي نتيجة وهن الدولة وانصياعها للابتزاز مرغمة.
هذه الحالة تؤدي الى تراجع السلطة المركزية وانحسارها، ويرافق هذا التراجع بالتاكيد بداية اختفاء الدولة، وانهيارها التدريجي. والبديل لهذا الغياب هو الانتقال الى حالة الفوضي، التي من نتائجها فقد المكتسبات التي اسفرت عن عملية التغيير والانتقال.
كل هذه الامور في مجملها تعمل على ضياع الفرصة التاريخية لانتاج الواقع المرجو من التغيير. او، في احسن الاحوال، تعطيله الى حين، تعطيل الفرصة التاريخية في تكوين دولة المؤسسات، الدولة التي يسودها القانون، ويصبغها وئام تكافؤ فرص الحياة، ويبنيها التنافس المشروع بين مكوناتها.
اذا غاب عن رؤيتنا اهمية النضال من اجل تكوين الدولة، ووضعنا كل تقتنا في البندقية التي نحملها فوق اكثافنا او في المدفع الذي ننصبه على سيارتنا، علينا ان ندرك من تجارب الامم السابقة ان البندقية التي نوجها لفرض مطالبنا قد توجه إلينا لنزع هذه المطالب التي حققناها بقوة السلاح، ونكون كما يقول المثل “كمن يحرث في البحر”.
انا اتفهم جيدا مطالب الفيدرليين رغم اني لا اوافقهم على الاسباب التي يسوقونها في هذا الخصوص، فموضوع التهميش ليس حكر على اقليم دون اخر، ولا على مدينة دون اخرى، ولا على قرية دون جارتها، وقد كتبت في هذا الموضوع اكثر من مرة، ونظرتي اليه واضحة في مقالي المعنون “الهدم الممنهج” فلم يسبق لي ان رأيت مدينة او قرية ميزت عن اخرى، اللهم الا مدينة واحدة فقط. لكن، حتى وان قبلنا جدلا بصدق مطلب الفيدراليين، فهو في النهاية مطلب سياسي صرف، والمطالب السياسية مطالب توافقية لانها تمس الصالح العام. نحن نشترك في رقعة الارض التي ننتمي اليها، فاقليم برقة اقليما ليبيا يشترك مع ادنى قرية في اقصى الجنوب الليبي او حدود جبل نفوسة الغربية، او في اقصى خط تماس حدود الجنوب الغربي، وبالتالي فهو يشترك معها في كل ما تجود به ارض هذا الوطن من خير، ويتحمل معها كل تبعات الانتماء لهذا الوطن، فالوطن ليس غنيمة نغنمها فقط، هو اكبر من ذلك بكثير لكل ذي نظرا سديد.
هنا اود ان اشير ايضا الى مطالب الامازيغ، وساعرج اولا على مقال استاذنا الفاضل السيد ابراهيم الهنقاري في مقاله الاخير “حوار هادي حول الامازيغ”، الذي نشر بموقع ليبيا المستقبل، فهو يقول بان ليبيا قبل ان ياتيها الصحابي عمروبن العاص ومن معه من العرب فاتحين لليبيا لم يكن في ليبيا عربي واحد بل كان كل سكانها من الأمازيغ والرومان. طبعا، هذه حقيقة تاريخية يعلمها الجميع، لكن لان بعض الحقائق تصدمنا فليس من السهل علينا قبولها، ويترتب على هذه الحقيقة ان نقبل بان الامازيغ هم من شكل نسيج هذه الارض، وان العرب وافدين، لهذا يكتسب مطلب الامازيغ صفة الحق الطبيعي دون الحاجة الى الولوج في جدلية الاقلية والاكثرية العرقية. ورغم اني ارى مطالب الامازيغ حقوق طبيعية تختلف عن الحقوق السياسية، وقضيتهم قضية وجدانية صرفة لا تبنى على المصالح المادية والادارية التي يأمل تحقيقها عن طريق رفع سقف المطالب السياسية، الا اني لا اوافقهم على اعتصاماتهم وتعريضهم لمصالح الدولة للخطر بسبب عدم تفهم مطالبهم، وارى في قفلهم لانابيب الغاز جريمة يجب ان يعاقب مرتكبها. فالغايات مهما على نبلها وسما قدرها لا تبرر الوسائل التي تسلك في سبيل الوصل اليها وتحقيقها، وهذه قاعدة اخلاقية، والحقوق تخضع للاخلاق ولا تعارضها، والا فقدت قيمتها في ان تكون حقا.
نحن كشعب، قدر لنا ان نعيش تحت نظام مستبد قمعي لاربع عقود طويلة، غييب فيه عقولنا، وكرس سبل الجهل فينا. لا شك اننا لا نعى معنى الدولة، ولا نستطيع تقدير قيمتها، وهذا ليس عيب في حد ذاته، لكن العيب ان نعيش به ولا نعمل على تغييره. كلنا نأمل ان تكون اوطاننا كاوطان الغرب، ننعم فيها بخيرها، ويسود فيها بيننا الامن والامان. كلنا نتمنى ان تكون بلدنا كسويسرا مثلا، رغم ان القليل منا قد زار سويسرا وتعرف عليها، الا ان سيرتها لم تحجبها الابواب المغلقة، ولم يمنع سردها جهلنا بما هو خارج عنا.
لكل صاحب مطلب، مشروعا كان او حتى غير مشروع، حقا كان او منحة، عليه ان يعلم بان المكاسب التي تتحقق في غياب الدولة لا تدوم، وان المكاسب غير المشروعة لا يطول امد الاستحواد عليها، علينا ان نتدكر قانون رقم (4) وما ال اليه. ان الدولة هي اكبر ضامن للحقوق، ففي غيابها تضيع الحقوق، لذلك علينا ان نجعل “بوصلة الامان” تشير الى طريق واحد، هذا الطريق هو طريق بناء الدولة، علينا جميعا ان نناضل من اجل هذا الامر، وليعلم كل الصادقين ان هذا الطريق تعترضه الكثير من العقبات ليس اقلها الانتهازيين والمنافقين، فالنفعيين بمختلف تيارتهم وتوجهاتهم مادية كانت او ايدلوجية، هم اكثر اعداء بناء الدولة، لانهم اكثر الناس ادراكا بان لا مكان لهم فيها حين تقوم، لذلك اجعلوا بوصلتكم الدولة اولا
والله من وراء القصد
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً