بحلول يوم الخميس 24 مارس 2016م تكون مدة ولاية الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي قد انتهت، بموجب قانون تأسيسها والتمديد لها بموجب الاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات برعاية الأمم المتحدة، حل موعد انتهاء التمديد، حيث نصت المادة 52 من الاتفاق على “يستمر عمل هيئة صياغة مشروع الدستور الليبي حتى موعد غايته 24 مارس 2016، وفي حال لم تتمكن الهيئة من الانتهاء من مهمتها بحلول ذلك الموعد تشكل لجنة من خمسة ممثلين عن كل من مجلس النواب ومجلس الدولة وبمشاركة مجلس رئاسة الوزراء في موعد غايته أسبوعان من ذلك التاريخ للتداول في هذا الشأن”. إلا أن الإتفاق لا يزال يراوح في مكانه.
تتحرك قافلة لجنة الدستور كل يوم من مكان إلى آخر، بداية من البيضاء إلى غدامس ثم تونس وأخيرا صلالة بعمان. ومع تحركها وتغيير مقاعدها وإصطفافها، وإزدياد إنشقاقاتها، تتضاءل فرص إنجاز الدستور الليبي كل يوم عن سابقه. كما نعلم أن كتابة أي دستور حديث يخضع لعدة أعراف وقوانين دولية يمكن إدراجها تحت مسمى (ثقافة العصر)، مع الشئ القليل مما يُعرف بالخصوصية الوطنية، وثقافة العصر كان يقدرها الفلاسفة في القرون الأربعة الماضية، ولذا هم الذين كتبوا معظم دساتير عصر النهضة، أما الآن فإن ثقافة العصر قد إضطلعت بها هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها.
بسبب التجربة الإنسانية الطويلة في مجال كتابة الدساتير، لم يعد هناك أفق واسع للإجتهاد، ولذا تشترك معظم الدساتير الحديثة بنسبة تتجاوز 80% من محتواها، فمثلا مبداء الفصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيدية مبداء عام، ونوع الحكم رأسي أو برلماني أو مختلط لا يمكن إضافة إحتمال آخر له (سوى حكم الإمامة)، والإلتزام بالحريات العامة والحريات الشخصية مكتسب شعبي لا تنازل عنه، ومبداء المواطنة يكفل العدل والمساواة بين المواطنين، ومشاركة المرأة يمنع العودة إلى مجتمع الرق والحريم، والتنوع الثقافي واللغوي يشرك الجميع في بناء الوطن ويثري ثقافة الدولة ويمنع تجبر ثقافة على أخرى، والإنتقال السلمي للسلطة يعمل على إستقرار الدولة.
هذه المبادئ العامة صدرت في معظمها، قوانين وأعراف ومواثيق من اللجان التابعة لهيئة الأمم المتحدة خلال الخمسين سنة الماضية، بداية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في سنة 1948م إلى العهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية سنة 1966م إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر 1966م إلى إتفاقية الشعوب الأصلية الصادر في سنة 1989م، بالإضافة إلى عشرات المواثيق عن حقوق الطفل والمرأة وذوي الإعاقة، وبذلك أصبح الموروث الإنساني حجر الزاوية في إصدار الدساتير، وهذا لا يمنع أن بعضها يتناقض مع أدبيات الشعوب الإسلامية مثل محاربة الرق وإيقاف عقوبة الإعدام، وعدم تولي المرأة للإمامة الكبرى، إلا أن هذه الفروقات البسيطة لا تلغي أهمية هذه الأعراف والمواثيق الدولية.
إن مشاكل لجنة الدستور كثيرة ومتعددة، إلا أنه يمكن إرجاعها إلى سببين رئيسيين، إحداهما نقص الخبرة والثاني الهيكلية المعيبة للجنة الدستور، فنقص الخبرة (وبلا مساعدة ناجعة من الهيئة الدولية) وبلا إطلاع على الدساتير الحديثة نرى محاولات عبثية ونسمع تصريحات نشاز، مثل ان تكون الشريعة (وبأي تفسير !) فوق الدستور، وأن ليبيا جمهورية عربية إتحادية، وأن الجغرافيا لها بُعد في توزيع الأصوات يعلوا على مبداء المواطنة.
إن هيكلية لجنة الدستور كان تشكيلها على أسس معيبة، عندما وافق المجلس الإنتقالي تحث تهديد الفيدراليين على توزيع أعضاء اللجنة تبعاً لنظام الأقاليم المنقرض مند أكثر من خمسين عاما، والمعروف ب عدد 20 شخصا عن كل إقليم ، وترتب عن ذلك أن صوت شخص الواحد في الشرق الليبي يساوي 9 أشخاص في المنطقة الغربية، وصوت الشخص الواحد في الجنوب يساوي 18 شخصا في الغرب. أخذ البعد الجغرافي في لجنة الدستور والذي يناضل الفيدراليون لجعله جزاً من الدستور الليبي يلغي مبداء المواطنة والعدل والمساواة، ويعبر عن نظام هجين لا يستقيم القبول به، ولم يسبق لدولة في العالم تبني هذا الهجين المعيب.
من الواضح أن لجنة الدستور قد وصلت إلى طريق مسدود لا يمكن معها الوصول إلى أي حل، ولا يرتجى منها دستوراً حديثاً تتفق عليه الأمة الليبية، وهو ما يجعل الدولة الليبية أمام أمرين، الأول الإستفتاء على النظام الفيدرالي لكل ربوع ليبيا، فإن وافق الليبيون على ذلك يتم وضع دستور الدولة الليبية بناء على وجود ثلاثة أقاليم لكل منها مجلس تشريعي وحكومة إقليمية.
الأمر الثاني إلغاء اللجنة الحالية وتحويل كتابة الدستور إلى لجنة فنية تستعين بخبراء الأمم المتحدة والدول الصديقة لتجهيز دستور الجمهورية الليبية على أسس المواطنة وحقوق الإنسان والعدل والمساواة وإطلاق الحريات العامة والتداول السلمي للسلطة، وبعيداً عن المحاصصة والجهوية والقبلية، ثم يستفتى الليبيون عليه ويصبح نافذاً لتنظيم مؤسسات الدولة الليبية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً