سمة غريبة صاحبت إدارة ثورتنا العظيمة وهي التخبط فى التصريحات، أضف إلى ذلك إعلام فتيّ بقنوات وصحف فتية تتلقف الخبر وتنشره دون تريث ودون البحث عن مصداقيته أو التحري عن مصدره، وبالتالى تنتشر الأخبار، وبعد ساعات أو أيام يكتشف المرء أن الخبر أو ما قيل ليس بحقيقة.
وهذا ساعد بشكل كبير على انتشار الشائعات وزيادتها حتى أصبحت سمة غالبة مع إشراقة كل يوم في مجتمعنا العربي الليبي.
ويالتدقيق في هذه المسألة نجد أن، منذ بداية الثورة الشعبية الكبيرة، ونحن نقول: إن هذه الثورة ومثيلاتها من الثورات العربية والعالمية عبر التاريخ الحديث والمعاصر تتميز بأنها ثورة الناس، كل الناس، بالتالي فلا يجب أن نتعامل معها بنفس الكيفية التي يتم التعامل بها مع ثورات العسكر التي كانت السمة الغالبة في حركات التحرر الوطني في الدول العربية، حيث يحدث فعل التغيير من خلال مجموعة من العسكر برتبهم المختلفة، فيسعون إلى تغيير نظام الحكم إلى الأحسن في بداية حركتهم الإصلاحية ويلتف الشعب حولهم باعتبارهم المنقذين له من فساد النظام السابق طامحًا في تحسين أموره وصون كرامته وتنمية قدراته إلى الأفضل.
وهذه الحركة الإصلاحية التى يطلق عليها أصحابها ثم وسائل إعلامهم وكتّابهم وشعراؤهم ثورة، وهي في بداية تلاحم الناس معها، ومع تطلعاتها الإصلاحية، يؤمن بها الكثير، وبأنها ثورة إصلاحية كبيرة.
حدث ذلك في مصر في ثورة 23 يوليو التي قامت بها حركة الضباط الأحرار، وحدث أيضًا في ثورات أخرى متعاقبة في أقطار عربيه كثيرة مثل سوريا والعراق والسودان.
وفي ليبيا أيضًا لو أعدنا قراءة بيان الأول من سبتمبر عام 1969 لوجدناه يمثل مطالب الناس في الحياة الكريمة والحرية والعدل والمساواة؛ ولكن بعد ذلك انجرفت هذه الحركات الإصلاحية عن مسارها الذي أعلنته، ومارست فسادًا واستبدادًا لم تمارس مثيله الأنظمة التي ثاروا ضدها.
والآن الموضوع اختلف، فثورة ليبيا في 17 فبراير لم تكن ثورة عسكر، ولم تكن ثورة لثوار معدودين محدودين، بل كانت وما زالت وستظل ثورة كل الشعب، فهو الذي ثار ولم يكن له مجلس قيادة ثورة، ولكن العسكر والآخرين من أصحاب الخبرة السياسية والمعارضين لنظام القذافى سرًّا وعلانية هم الذين انضموا إليها وليس العكس كما كان يحدث في ثورات العسكر، وبالتالي فإنه منذ البداية لم يستوعب من أدار العملية النضالية ذلك، سواء إعلاميًّا أو في الممارسات العملية، فإنهم لم يدركوا أن الحقيقة دون غيرها والمصداقية هي الأساس في التعامل مع الناس والثوار في ليبيا، هؤلاء نتيجة عدم فهمهم وللمحافظة على سرية بعض الأمور في عقليتهم وكأنهم أوصياء على الشعب، ومن أجل مصلحة الثورة، وبأسباب عديدة أخرى أصبحوا يتحايلون لنقل الأخبار.
واستغل هذا التخبط إعلام القذافي في طرابلس، وأصبح يستغل التضارب ويبث سمومه، ووجد مخرجًا منح هدية لهم بدون إدراك في سبيل إقناع الناس في مناطق عديدة بأن هذه عصابات لا تريد الخير للبلاد كما يحدث الآن في سوريا.
وبطبيعة الحال فإنه في أمور المعارك والمواجهات لا يعلن عن كل الخطط؛ ولكني أتحدث عن الفترة التي تلي وقوع الحدث، فنجد كثيرًا من التخبط وكثيرًا من الارتباك والتأخير، وهنا تحدث التأويلات، واستمر هذا الفعل إلى ما بعد التحرير في قضايا كثيرة، سأذكر حقائقها الآن، وبوضوح تام أمام القارئ:
أولاً: قضية بني وليد
للأسف الشديد لم يكشف عن الوضع الحقيقي لهذه المسألة، وترك الأمر للتأويل وانتشر التخوين وتلاقفتها أقلام وتعليقات كثيرة صبت جامّ غضبها وسخطها على قبيلة “ورفلة” ناسنا وأهلنا وأنسابنا ومواطنينا الذين كان لكثير منهم دور واضح عبر التاريخ الليبي في مناهضة الاستعمار والطاغية القذافي، وهذا لا يعفيهم مثلهم مثل غيرهم من أنه كان لهم مجموعات منحازة وقاتلت مع القذافي وكتائبه؛ ولكن المشكلة القائمة الآن ليست قضية خاصة بـ”ورفلة” حتى وإن كان مكانها بني وليد.
أنا لست مدافعًا هنا عن أحد، ولا أنتمي لهذه القبيلة العريقة، لأن أسرتي ترجع اجتماعيًّا إلى قبيلة الطواهر من درنة وبنغازي، التي تتجذر أصولها في زليطن؛ ولكن الحقيقة يجب أن تنجلي وتتضح، وسآخذها على عاتقي، وبإيجاز سأقول:
في كل معركة من معارك التحرير- في طرابلس وفي سرت وفي بني وليد نفسها- كان بعد انتصار الثوار ودخولهم المدينة وإعلان تحريرها تهرب أعدادًا من كتائب القذافي بأسلحتها الثقيلة والخفيفة إلى مناطق صحراوية مجاورة لتلك المدن والقرى، وهؤلاء منذ ذلك الوقت نقول إنهم خطر يجب متابعتهم وتجريدهم من السلاح، وقلنا ذلك مرات عديدة. والمهم أن بعضًا من هؤلاء تسرب داخل بعض المدن والمناطق، وشاركوا مع آخرين في تأسيس كتائب سميتها كتائب “ثوار ما بعد التحرير”!
والجزء الآخر، وهم من قبائل ليبيا المختلفة تجمعوا إلى أن استطاعوا أن يسيطروا عسكريًّا على كل المناطق الحدودية لبني وليد وحفروا الخنادق وتمترسوا فيها، وأؤكد أنهم من جهات مختلفة ولا يمثل من سكان بنى وليد وقبيلة ورفلة إلا القليل.
وتجمعوا على أنهم من كتائب القذافي، وهم يعلمون جيدًا أن عددهم وإمكاناتهم لا تسمح لهم بأن يؤثروا في مسار الثورة؛ ولكنهم بفعلهم هذا يساومون على صلح أو الحصول على عفو وأمان عما ارتكبوه من جرائم في طرابلس ومصراتة وحتى بنى وليد نفسها وترهونة وأجدابيا والكفرة.
وهؤلاء الآن يحتلون بنى وليد، يعني لابد أن نعرف أن بقايا كتائب القذافي المتعددة الانتماء القبلي تحتل الآن بنى وليد، وسكان بنى وليد رهائن عندهم، هذا هو الموقف، ولا أعلم لماذا لم تقله الجهات الرسمية بشكل واضح أمام الرأي العام لكي لا نظلم ونعمم أن ورفلة وبني وليد عامة ضد الثورة ومستعصية عليها، هذا الأمر في الحقيقة لا يحتاج إلى تسويف، والحصار الذي يضرب الآن عليهم من خارج بنى وليد جيد إذا أُحكم؛ ولكن إذا لم يُحكم وتسربت إليهم الأسلحة، خاصة من الصحراء، فالأمر مع الزمن سيكون مقلقًا ومخيفًا، فعددهم الآن لا يصل إلى الآلاف، بل يتجاوز المئات بقليل، وواجب على الدولة وجهازها المنتخب الآن التعامل بصرامة وحكمة لإنهاء هذه البؤرة الأخيرة من التمرد على الثورة.
ثانيا: عبد السنوسي
الموضوع الثاني، هو قضية عبدالله السنوسي والأخبار والمماطلات في تسليمه إلى ليبيا، وأنا شخصيًّا- وعلى مسئوليتي- أعلم أن نوايا الحكومة الموريتانية في تسليمه حقيقية ولا تسويف فيها، وإن الضغط من جانب ليبيا لتسليمه هو أيضا جاد، ولكن السؤال الذي يبحث عن إجابة هو: لماذا هذه المماطلة؟!
ولا أعلم لماذا لم نقل الحقيقة أيضًا في تلك القضية، والتي تتمثل في أن الجهات الرسمية في دول أخرى مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الإفريقية والأوروبية تريد معلومات منه؛ لأنه مطلوب لديها ومتهم في قضايا متعددة، وهذه الجهات في هذه الدولة منها من استكمل التحقيق معه ومنهم من لا يزال ينتظر دوره.
ومع ذلك فنحن لم نطالب حتى بحضور هذه التحقيقات؛ ولا نريد أن نعلن عنها؛ لماذا؟! لا أعلم!
عمومًا عبدالله السنوسى سيسلم إلى ليبيا بعد تفريغه من كل المعلومات، وقد يكون في فترة تسليمه خارج نطاق الخدمة، “فسروها كما تشاءون”؛ لكي يحاكم مع سيف، ويحكم عليه هو بالإعدام تجنبًا للحكم بنفس العقوبة على سيف، والله أعلم.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
شكرآ دكتور ابراهيم علي بعض التوضيحات الرائعه