إذا كانت دواعي الثورة والحراك الشعبي والاحتجاجات في العالم واحدة وهي؛ البطالة والفقر والفساد والتهميش فإن الليبيين لهم تسعة وتسعين سببا آخر لإيقاد شعلة الحراك الشعبي، أهمها أن اللات الأربعة السابقة مفتعلة، في بلد يعج بالإمكانيات المادية على شتى الأصعدة. علمنا التاريخ أن الحقوق لا توهب وأن التغيير إلى الأفضل لا يأتي صدفة بل هو نتاج لنضال طويل وتضحيات جمة يتم من خلالها تحديد البرامج والاختيارات والسعي لتحقيقها.
اهتمام الشعوب بالسياسة، واتخاذ الحراك الشعبي سبيلاً للمطالبة بالسياسات الحكيمة، التي تخدم الجماهير سلميا، والإصرار عليها لتغيير مجريات الاحداث، يختلف من شعب إلى أخر تبعا لدرجة الوعي المجتمعي، فهناك شعوب مثل الشعب الفرنسي له تاريخ طويل من المشاركة السياسية والحراك الشعبي منذ القرن السابع عشر، في حين أن شعوب أخرى مستكينة للنظام الطبقي أو الفيدرالي الجهوي أو القبضة الحديدية مثل اليابان وروسيا ومصر ودول الخليج فلا حراك ولا مشاركة سياسة سوى تقديم ورقة الانتخابات إن تفضل بها نظام الحكم عند الدورة الانتخابية.
في الدول النابضة بالحراك هناك وعي سائد بأن الحراك له مزايا كثيرة وإن فشل أو توقف فهو الموجه لمؤسسات الدولة من أجل جلب المصالح ودرء المفاسد ومنع تغول السلطة باستخدام مقدرات الدولة، والحد من الفساد، ونشر الشفافية، والتنويه إلى الاستخدام الأمثل للإمكانيات والموارد، مما يجعل الشعب والمؤسسات الإعلامية والمنظمات غير الحكومية جميعا لها رأى عام ضاغط على الحكومة وموجه لسياساتها.
تاريخيا رغم تناوب الوافد الغازي كثيراً على الساحل الليبي، وانتهاجه حكم الظلمة والعسف والجبروت، إلا أن الحراك بالداخل لم يتوقف، بل كان الداخل الليبي مصدر للثورات والمعارضة للحكومات المحلية والوافدة لقرون عديدة، أخرها الحرب ضد الايطاليين وحكم الطاغية الجمهوري بل حتى للمتصدرين للمشهد الليبي في العشرية الماضية. اليوم ليس هناك وسيلة للتغيير إلا بالحراك الشعبي المنظم بعد تغول كل الاجسام القائمة المنتهية الولاية منذ زمن، والتي أوصلت الشعب الليبي الى الحضيض.
توقف تصدير النفط ونقص السيولة وانتشار المخدرات والتهريب والفساد وانتشار السلاح وتغول المجموعات المسلحة إضافة إلى ثقافة الغنيمة، جميعها ظواهر سلبية قاتلة ترعرعت في ظل الاجسام الحالية العاجزة عن إدارة الدولة، والتي كان لها أن تتلاشى وتنتهي منذ سنوات؛ وهي مجلس النواب ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي، هذه المفاسد الكبرى لن تحل بأجسام رثه عاطلة معطلة وكيلة للخارج متناحرة ظاهريا من أجل البقاء في السلطة وإفساد المشهد السياسي مقابل المكاسب والبهرجة الإعلامية المزيفة.
هذه الاجسام هي التي استقدمت الدول الإقليمية للتدخل في الشأن الليبي وتعاقدت مع المرتزقة ونصبت عسكريين مهوسين بالسلطة وأخرين يترممون عليهم، وشرعنت الفساد لها ولزبائنها، بل هي الحامية لهم ليتغلغلوا في مفاصل الدولة، تاركين الحقول النفطية مغلقة عن التصدير، والساحل مستباح للتهريب، وفلول الدول المجاورة يتقاتلون علي الذهب الليبي في الجنوب، مع استفحال تهريب الوقود من الحدود الأربعة.
تجربة الشعب الفرنسي جديرة بالدراسة، فهو أول من أشعل فثيل الثورة في أوروبا وقيام الجمهورية الأولى في 14 يوليو 1789م وهو من عاني من الثورة المضادة لقرابة نصف قرن بعودته للملكية، ثم أعلن الجمهورية الثانية 1848م ثم تعمقت مفاهيم الحرية والعدالة فكانت الجمهورية الثالثة في سنة 1870 ثم ويلات الحربين الأولى والثانية فكان التجديد وإعلان الجمهورية الرابعة عقب الحرب في سنة 1944، وأخيرا مواجهة ديجول لظروف تصفية الاستعمار وإعلان الجمهورية الرابعة سنة 1958م، وهناك مطالب بالجمهورية الخامسة التي تفك ارتباط فرنسا بالحقبة الاستعمارية. هذه الديناميكية في السياسة ناتجة عن حراك شعبي لا ينقطع، منها ثورة الطلاب في مايو 1968 والحراك الشعبي المستمر لرفض التمييز والمطالبة بالعدالة وتحسين ظروف المعيشة والدفاع عن البيئة ومناهضة الاستعمال واستغلال الشركات المتعددة الجنسيات بل حتى معارضة القوانين من أصحاب السترات الصفراء ورفض الاغلاق الكامل للحد من كرونا.
كل ذلك له فوائد كثيرة لفرنسا، منها وقوف الحكومة بدعم شعبي لرفع صوت فرنسا في المنظمات الإقليمية والدولية، ومنها منع المتشددين والفاسدين للوصول إلى مراكز دعم القرار كما حدث في الانتخابات الماضية عندما رفض الشعب منح صوته لماري لوبان رغم عدم رضاه عن سياسات ماكرون، وهو ارتقاء سياسي لضمان مصالح فرنسا.
قيام المظاهرات الحاشدة السلمية في الساحات والميادين من سيمات الشعوب المتحضرة ومن والوسائل الناجعة للتغيير وخاصة في دولة مثل ليبيا التي تعاني من تفاقم مشاكل مفتعلة تخطط لها استخبارات اقليمية وتنفذها طغمة سياسية فاسدة ومنتهية الولاية بكل المقاييس. فلا سلام ولا حل للازمات الحالية في وجود تلك الاجسام، ونهايتها بانتخابات شفافة السبيل الوحيد لمعالجة كل العلل الناتجة عنها.
من الناحية الدينية، الإسلام هو منبع التغيير والمنهاج للرقي بالأمة، فلقد استطاع منهاج الله تغيير قبائل العرب المتخلفة التي تتدافع في حروب لا تنتهي على أمور تافهة الى نواة لمجتمع مدني في أقل من عقدين من الزمان، ووضع الله قاعدة لها الديمومة الكاملة بان الله لا يغيَر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فمن لا يريد التغيير ويحافظ على الرتابة ولا يتبع وسائل التغيير يبقى على ما هو عليه.
أما رائد التغيير فهو الإمام الشافعي الذي درس علوم الدين وأفتى بها وهو في العراق، ولما هاجر إلى مصر وضح عنده أن هناك مسائل كثيرة تحتاج إلى مراجعة وتفصيل عما أفتي به في العراق، فأصبح له مذهبان راي وهو في العراق وراي وهو في مصر ولم يتشبث براي واحد، الشافعي له شعر جميل مفاده أن التغيير قانون الحياة وسمة بقاء كل الكائنات، حيث يقول:
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ إِنْ سَال طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمة لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ
والبدر لولا أفول منه ما نظرت إليه في كل حين عين مرتقب
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً