احتج الاعلامي فيصل القاسم على تشبيه جمهور المشاهدين من قِبـَـل بعض الاعلاميين بالبغـل -أجلكم الله- واعتبر في التشبيه “ظلماً شديداً” للبغـل. في مقاله: “كيف تصنع رأياً عاماً خلال أيام؟” ورأى فيصل القاسم أن في هذا التشبيه: “إساءة بالغة للبغــل”..! ويضيف: “… لأن البغــل ليس من السهل التحكم به وقيادته حيث تريد، (بعكس الجمهور) فهو غالباً ما يحـــرن بســرعة، وفي أحيان كثيرةً يركل صاحبه ركلات موجعة ودامية. وكل هذه الصفات البغــلية ليست من خصال الإنسان.”(*)
وبحكم انتمائه لشبكة الجزيرة وهي صاحبة السلطة الأولى وليست الرابعة حسب قوله فإن نجم “الإتجاه المعاكس” فيصل القاسم ليس في حاجة لأن يكون مهذباً أو مؤدبا مع جمهوره، فطالما كانت الجماهير في نظره هم أدنى مرتبة من البغال. ووصف حشودهم بـ “القطيع” فإن القطعان لا تقاد بغير العصا والرمي بأغلظ القول والحجر.
لذلك فليس غريبا أن يصل كثير من الاعلاميين الى هذا المستوى من الصلف والعجرفة في تعاملهم مع المتلقي، وخصوصاً المنتمين للمؤسسات والشبكات الاعلامية الكبرى في العالم. والتي تعتقد بأنها وحدها من تستطيع ليس فقط التأثير في صناعة القرار العالمي واختيار قادة العالم بل ثقتهم بأنهم وحدهم من يستطيعون تغيير خارطة العالم وتفتيت الدول. وبالفعل لم يجانبوا الصواب بقولهم بأن الاعلام أصبح هو السلطة الأولى في العالم ولم يعد الرابعة كما هو الحال في القرن التاسع عشر.
ان تردد أوباما في شن الحرب على سوريا بدريعة رفض “الرأي العام الأمريكي” للعدوان على هذا سوريا هو ما جعل الاعلامي السوري فيصل القاسم يخرج عن طوره ويغضب من أمريكا لتأجيلها شن الحرب على بلده…! لذلك أسهب القاسم في شرح آلية صناعة الاجماع أو ما يعرف بـ “الرأي العام” وأوضح بأن قيادة الشعوب اعلامياً أيسر من قيادة قطيع من البغال..!
ان الإستبداد الاعلامي واستبدال هراوات البوليس بوسائل الاعلام سياسة أمريكية المنشأ. وتشير الدراسات الاعلامية بأن فكرة صناعة وتوجيه الرأي العام بدأت أثناء فترة ادارة الرئيس ويلسون الذي انتخب رئيساً للولايات المتحدة الامريكية في عام 1916 وفق برنامج انتخابي بعنوان “سلام بدون نصر” وكان ذلك في منتصف الحرب العالمية الأولى.
كان الامريكيون آنذاك مسالمين رافضين للحرب، بينما كانت ادارة الرئيس ويلسون عازمة على خوض هذه الحرب ومن ثم كان على الادارة الامريكية فعل شيء ما حيال الأمر. فتوصلوا الى فكرة انشاء “لجنة للدعاية الحكومية تسمى (لجنة كريل) نسبة الى رئيسها الصحفي (George Creel) وقد نجحت هذه اللجنة خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم الهستيريا والتعطش للحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وخوض الحرب، وانقاذ العالم” (*)
ان ما حققته “لجنة كريل” كان بالفعل انجازاً هائلاً سارت أمريكا على هديه وقد استخدمت ذات الاسلوب في حربها ضد الاتحاد السوفياتي حتى أصبح أثراً بعد عين بعد أن تناثرت أشلائه. وبعد قضائها على ما وصفته بالرعب الأحمر أو الرعب الشيوعي تفرغت للحرب على ما يدعوه المفكر الأمريكي “صمويل هنتغتون” في كتابه “صدام الحضارات” بالرعب الأخضر أو الإسلام. وقد نجحت بخلق “الاسلاموفوبيا” وكذلك في اشعال الفتن والحروب الطائفية والمذهبية بين المسلمين، عن طريق وكلائها في الشرق.
إن أمريكا لا تعتمد في حربها على الاسلام وتفتيت دول الشرق الأوسط على قواعدها العسكرية الرابضة في الدوحة وغيرها من البلدان العربية بقدر اعتمادها على الجناح الاعلامي لهذه القواعد كشبكة الجزيرة والعربية وسكاي نيوز والحرة الأمريكية…. وغيرها من فضائيات حلفائهم من رجال الأعمال. فمنذ نجاح تجربة “لجنة كريل” اكتشفت أمريكا الاعلام كسلاح أشد فتكاً من السلاح النووي الذي تمتلكه، وقد أحكمت السيطرة عليه.
ولم يجانب الصواب السيد فيصل القاسم بقوله: “لقد اصبحت وسائل الإعلام وحشاً كاسراً أقوى من كل الترسانات الحربية، وهي التي تحسم المعارك الكبرى على الشاشات قبل أن تـُحسم على الأرض.” ويضيف القاسم:” فالأصل ليس رأي الشعب، بل من يصنع رأي الشعب، ويوجهه في الاتجاه الذي يريد”! انه ابن الجزيرة ويدرك جيدا ما يدور بمطبخ صناعة الرأي العام. ويدرك المعارك التي حسمتها الجزيرة قبل أن تحسم على الأرض. كما يعلم ذلك كل متخصص وأكاديمي في مجال الاعلام، ووحده القطيع الهائم على وجهه في الساحات والميادين ولا يدرون أي منقلب سينقلبون.
وانصافاً لفيصل فإن وصف الجمهور بـ “القطيع” لم يكن هو من أطلق هذا المصطلح، فقد أطلقه الصحفي والمفكر الأمريكي ولتر ليبمان 1988- 1974 (Walter Lippmann) عندما وصف الجمهور أو عامة الشعب بـ (القطيع الضال أو الحائر) ويقول ليبمان: “بأننا يجب أن نحمي أنفسنا من وقع أقدام وزئير هذا القطيع. وحسب تصور ليبمان فإن لهذا القطيع وظيفتان اساسيتان في النظام الديمقراطي وتتمثل في كونهم مشاهدين لا مشاركين في الفعل، أما الوظيفة الأخرى لهذا القطيع وهي المشاركة في الانتخابات” (*)
شعاراً براقاً وآسراً للألباب هو شعار “حرية التعبير وحرية الرأي” ولكن، الحقيقة أن من يتمتع بتلك الحرية المطلقة هم من يمتلك ويموّلون وسائل الاعلام الكبرى والفضائيات التي تهيمن على صناعة الرأي العام. وهم حراس البوابة الاعلامية. وما الدفاع عن “حرية الرأي وحرية التعبير” إلا دفاع عن استبداد حراس البوابة الاعلامية من أمراء وملوك ومن تواطأ معهم من رجال الأعمال مالكي الفضائيات العربية؟
إن سقوط بعض الأنظمة الشمولية لا يعني التحرر من الإستبداد، طالما هناك أنظمة شمولية أخرى ورجال أعمال فاسدين في المنطقة هم من يحتكرون وسائل الاعلام ويمارسون استبداداً أشد وطأة ويعيثون فسادا في بلدان قد غرقت لعقود في مستنقع الجهل والخوف، وتغرق اليوم في مستنقع الفوضى والاقتتال الأهلي والتهديد بتقسيم وتفتيت ماتبقى منها.
ربما سيكون ربيعاً … ولكن ليس قبل أن تتحرر وسائل الاعلام من قبضة الأمراء والملوك ورجال الاعمال الفاسدين. أما والحال كذلك فلن ترى أي من بلدان ما يسمى بـ “الربيع العربي” غير مزيد من الدمار ولن تذوق طعم الاستقرار. هذا إن بقيت أصلاً هذه الدول على خارطة البلدان ولم تظهر على أنقاض “ربيعها” دولاً أخرى هشة تتقاسمها العصابات الدينية والقبلية والعرقية… بسبب ما يبثه الاعلام من خطاب تحريضي لتأجيج حالة الانقسام والكراهية الجهوية والطائفية والعرقية والقبلية…!
وباسم حرية الرأي وحرية الاعلام ستتكاثر الأعلام والأناشيد بلا أوطان !
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً