وجدت ظاهرة التعصب مــنذ بدء الخليقة، وذلك من خلال توجه الإنسان لحماية نفسه بالانتماء إلى مجموعة إنسانية تحميه من الحيوانات المفترسة ومن اعتداءات المجموعات الأخــرى، ومن هنا كانت البداية حيث تحول هذا الانتماء مع مرور الزمن إلى تعصب للمجموعة التي يعيش فيها.
ومن خلال التطور الطبيعي للحياة عاش الإنسان في مناطق وقرى ومدن، وتدريجيا تفاوتت مقاييس التعصب في المناطق الريفية والقري البدوية عنها في المدن، فكان التعصب للأسرة والعشيرة والقبيلة والمحلة والمنطقة والبلد، وكذلك ظهر في عالمنا الحديث التعصب للنادي الرياضي أو الحزب السياسي وغير ذلك من المظاهر التي يتحد فيها الإنسان مع آخرين يتفق معهم في الميول أو الرغبات أو العرق.
وظهر التعصب الديني رغم أن كل الأديان تحذر منه، بل وتمقته، إذا تسبب في أذى الآخرين ظهر في جميع الأديان السماوية والبشرية وديننا الإسلامي يحثنا على المحبة والتسامح مع كل الناس، حتى ولو كانـوا من غير المؤمنين بالرسالة المحمدية.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. صدق الله العظيم.
وفي شأن التعصب والتطرف الديني، يقول نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: “ما شاد الدين أحدا إلا غلبه”.
ويعتبر التعصب ظاهرة إنسانية طبيعية، ولكنه مثله مثل بقية الظواهر الاجتماعية يؤدي التطرف فيها إلى انحراف صاحبه بممارسة الاضطهاد والعنف ضد الآخـــرين.
وأخطر أنــواع الانحراف في التعصب هو التطرف الديني الذي يؤدي بممارسيه بالنظر مخالفيهم في المذهب أو أصحاب الديانات الأخرى على أنهم أعداء وكفار يجب التخلص منهم، متناسين أن هذا العالم به الآن حوالي ثمانية مليار نسمة، جعلهم الله سبحانه وتعالي مختلفين شكلا وعرقا وعقيدة لحكمة يعلمها هو وحده ولو أراد ان يكونوا كلهم علي دين واحد بطبيعة الحال لكان له ذلك.
ولو حاولنا أن نقدم سردًا تاريخيًّا موجزًا لأثر التعصب على ظهور الإرهاب، فإننا نأخذ بما وقع لليهود من ظلم في الحرب العالمية، وما قام به الألمان والإنجليز من اضطهاد وصل إلى حد التصفية الجماعية والحرق بالنار.
وعندما هدأت قليلا نزعة الاضطهاد ضد اليهود خرجت أصوات ترغب في تعويضهم، وكانت بريطانيا العظمي تحتل أرض فلسطين العربية، فقامت بمنحهم إياها، ولم تمنحهم قطعة من بريطانيا أو ألمانيا ، مع العلم بأن الادعاء اليهودي بأنه كان لهم تاريخ في فلسطين مردود عليه لأنه كان لهم تاريخ في مصر والأندلس وأوروبا والمغرب العربي، فالتاريخ الإنساني مزيج من التنقلات والتواجد والهجرات الإنسانية المتعددة، ولو أخذنا بهذه القاعدة فلن نعرف أبدا أصحاب الأرض الحقيقيين في أي بقعة من العالم، ولكن من الممكن لنا أن نقول إن هذه البلد في تاريخيه عاش بها الإغريق والرومان والتتار واليهود والبربر والمسلمين العرب وهكذا.
وعودة لموضوعنا الأساسي، فما حدث للفلسطينيين من تهجير قسري وجماعي أدى إلى تكاثفهم وتعصب بعضهم لبعض، وأيضا تعصب العرب والمسلمين لهم.
ونتيجة أن الفلسطينيون لم يكن لديهم السلاح والعتاد لمواجهة جيش بريطانيا العظمي وقوات اليهود، فما كان لهم من حل سوى مقاومتهم لهذا العمل الاضطهادي (الذي تم برعاية عالمية للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية، والذين أعادوا تشكيل العالم من جديد،) فاتجهوا نحو العمليات الفدائية من تفجيرات في أماكن عامة وتفجيرات في الطائرات وغير ذلك من الأعمال التي اعتبروها مقاومة للاحتلال وهم قادرون عليها.
واتبع هذا النهج الذي يعتبر نهج المستضعفين في مقاومة الاضطهاد، الذي يمارس ضدهم من القوى الأكبر، ولا تتكافأ إمكانياتهم العسكرية مع إمكانيات هذه القوى.
وبطبيعة الحال تطورت أعمال المقاومة وتوسعت، ولكن في منطقتنا كانت هذه بدايتها، لذلك فإننا دائما نقول: إذا أردنا أن نقضي علي أي ظاهرة إرهابية متطرفة فعلينا أن نبحث عن أسبابها ونحللها ونتحاور من أجل رد الحق لأصحابه والقضاء على الأسباب لنوقف العمل المضاد؛ لأن الإرهاب يأتي كرد فعل لعنف أو اضطهاد.
ورغم تعدد تعريفات الإرهاب التي أصبحت تتكيف حسب رؤية المعرف ونظرته السياسية أو الاجتماعية أو الدينية المنحازة في معظم الأحيان، ولكني أعتقد أن التعريف الذي يتفق عليه الجميع هو: “كل عمل يؤدي إلى تعذيب أو اضطهاد أو قتل الأبرياء بشكل انتقامي”.
من هنا يتضح لنا أن التعصب كان وما زال بداية تفشي ظاهرة العنف ضد الآخرين ونتاجه الطبيعي العمليات الإرهابية.
وقد جعل الإسلام للنفس الإنسانية مكانة محترمة، فمدح في كتابه الكريم إحياء النفس وذم قتلها، فقال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [سورة المائدة- الآية 32].
وإذا أردنا أن نعكس هذا على واقع مجتمعنا الليبي في هذا الوقت، فإننا منذ 2011 نجد مؤيدي ومريدي فبراير- ولا أقول ثوارا؛ لأن فعل بعضهم بعد ذلك أفقدهم هذه الصفة النبيلة- يتعاملون بتعصب وحقد كبيرين ضد كل من له علاقة بالنظام السابق، وكذلك مجموعات النظام السابق تعاملت بتعصب متطرف إلى أبعد الحدود ضد المطالبين بالتغيير من مجموعات فبراير، وهكذا تنامى التطرف في التعصب وتحول إلى تعصب لعمليات عسكرية سميت الفجر والكرامة، ثم تعصب لمناطق والتشدد لها، والأدهى من ذلك هو شخصنة التعصب، فأصبح البعض متعصبا لفرد معين أو ضد فرد معين، فيقولون مافيش حل إلا بفلان، أو يقولون: لا يمكن أن يكون هناك حل إلا إذا استبعد فلان.
وهؤلاء (الفلان) كثر، وكل جهة لها رأيها، فمنهم مؤيد وآخر رافض، وحتما فإن أصحاب المشكلة التطرفية التعصبية الأساسية، وهم أنصار النظام السابق، بعض منهم لعب دورًا في زيادة حدة الصراعات والحروب.
كما تجاوز أنصار فبراير الذين تحول الباقون منهم الآن على الساحة تطرفهم التعصبي وتحالفوا مع مجموعات إسلامية متطرفة لمحاربة من يقف ضدهم ويرغب في بناء دولة المؤسسات.
وتجاوز الأمر الحدود إلى الخارج، وتدخلت بعض الدول العربية لمناصرة مجموعة من هؤلاء ضد الأخــرى، والآن نشاهد تدويل الموقف وانتقاله من عربي إلي دولي.
والتاريخ- حــتما- لن يرحم كل من كان سببًا فيما يحدث ببلادنا الحبيبة ليبيا؛ ولكني أقول عودة لرؤيتي السابقة وتسليطا للضوء من خلالها على واقعنا: علينا أن نقف وقفة جادة، نجمد فيها كل عصبياتنا وتطرفاتنا، وننظر إلى مستقبل الأبناء والأحفاد ونقرر أن نعيش فترة لا تقل عن ثلاثة سنوات في سلم اجتماعي أو هدنة لا تضيع حق أحد، بل نبني دولتنا في هذه الفترة، ونصفي النوايا، وبعد ذلك كل من له حق فليأخذه وفقا للقانون.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
اترك تعليقاً