الاستعلاءُ النُّخبوي والغَرقُ في وحلِ إيران

الاستعلاءُ النُّخبوي والغَرقُ في وحلِ إيران

د. طالب عبد الجبار الدغيم

باحث في التاريخ المعاصر


لطالما أدّت النُخب المثقفة ورجال الفكر أدواراً محورية في الظروف التاريخية الحرجة، وتزخر صفحات تاريخنا العربي والإسلامي بأمثلة لا حصر لها. غير أن الأحداث الراهنة، وعلى وجه الخصوص حرب غزة، والهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان، كشفت بوضوح عن انسياق شريحة معروفة من النخب والمفكرين العرب والمسلمين خلف المشروع الإيراني، سواء عن قصد أو من دون قصد، تحت ذريعة أن إيران الدولة الوحيدة التي ناصرت قضية فلسطين، بعدما خذلتها الحكومات العربية. وقد بلغ هؤلاء درجةً من الانحدار في خطابهم، دفعنا إلى مراجعة المفاهيم، ومحاولة إعادة تعريف المثقف. وبالرجوع إلى معاجم اللغة العربية، وجدت أن “المثقف” مشتق من الجذر “ثَقِفَ”، الذي يدل على الحذق والفطنة في مجال ما، سواء كان مادياً أو فكرياً، إلا أن استخدام هذا المصطلح في السياق العربي والإسلامي لا يتجاوز نصف قرن، فيما يُستمد في الثقافة الغربية من المصطلح الإنجليزي”Intellect”، الذي يشير إلى الشخص المنتمي إلى طبقة “العُمال الفكريين”.

وقد تعمق الغربيون في دراسة دور المثقف العضوي، وكان من أبرز من تناول هذا الطرح المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، في كتابه “دفاتر السجن”، مطلع القرن العشرين. ووفقاً لغرامشي، فإن المثقف العضوي لا يَقتصر دوره على التعليم أو العمل الأكاديمي، بل هو فاعل نشط في الكفاح الاجتماعي والسياسي لتحقيق تغييرٍ ملموسٍ. وتأثر به المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، حيث رأى أن للمثقف دوراً اجتماعياً محورياً، وقسم المثقفين إلى فئتين: المثقف العضوي، الذي يحمل هموم الطبقات الاجتماعية كافةً، ويواصل العطاء عبر الأجيال. والمثقف التقليدي، الذي يبقى منعزلاً في “برجه العاجي”، متصوراً أنه أعلى من الجميع. فيما رأى المفكر المصري نصر حامد أبو زيد أن المُثقَّف هو الإنسان الذي ينخرط في عملية إنتاج الوعي الديني والشعوري والفكري والأخلاقي. ومن ثم فإن النخبة المثقفة تدل على المثقفين الذين يمتلكون دوراً رئيسياً في توجيه الرأي العام، والإسهام في تشكيل الأفكار، والقيم الثقافية للمجتمع.

علة الوعي في فهم المشروع الإيراني

يعاني بعض المثقفين والنخب العربية والإسلامية من إشكالية عميقة في فهم المشروع الإيراني، إذ انغلقوا في رؤاهم التي تدعو إلى “وحدة الأمة” و”التضامن الإسلامي”، مما جعلهم أدوات إعلامية تخدم مشروع “الولي الفقيه” في إيران. وهذا المشروع السياسي والعقائدي الذي أعاد صياغة نفسه مؤخراً، وأعلن بصورة صريحة فلسفته العدائية تحت شعار “الجبهة الحسينية ضد الجبهة اليزيدية للأبد”، في إشارة واضحة إلى الصراع الذي يراه مستمراً ضد خصومه من أبناء الأمة الإسلامية.

وبدلاً من أن يقرأ هؤلاء المثقفون أحداث التاريخ بعين فاحصة، ويُمعنوا النظر في خطاب “الولي الفقيه”، الذي بُثّ بلغتهم العربية، راح بعضهم يلتمس تأويلات إيجابية لهذا الخطاب لا يحتملها النص الصريح، ولم تخطر أساساً في بال قائلها نفسه، وانخرطوا في دعوات للوحدة الإسلامية الشاملة بين جميع المذاهب والأعراق، وكأن أبناء الأمة العربية والإسلامية هم المتسببون في الطائفية، وتعميق العداء التاريخي، وهو ما دفع الباحث الفلسطيني مضر أبو عبد الله للقول: “التصور الإسلامي تجاه المشروع الإيراني عليل”، حيث ينظر هؤلاء المثقفون إلى المذهب الاثني عشري بمنظور فقهي تقليدي، دون إدراك للتحولات التي أضافتها عقيدة “الولي الفقيه” في الإيديولوجيا السياسية الإيرانية المعاصرة.

هذا المشروع لم يعد محصوراً في الإطار الفقهي اليوم، بل تحول إلى مشروع سياسي وعسكري توسعي، يمتلك جيوشاً، وقدرات مالية وإستراتيجية، وفي طريقه لامتلاك سلاح نووي، وهذا ما جعله لاعباً خطيراً في تدمير المجتمعات العربية من داخلها، حيث استفادت إيران من تقارب مصالحها مع القوى الغربية في المنطقة، مما جعلها قوة فاعلة في المشهد السياسي، وسيطرت خلال عقدين من الزمن على أربع عواصم عربية “مهد الحضارة العربية والإسلامية”.

فوقية ونرجسية نخبوية!

لم تستفد النخب العربية والإسلامية من دروس التاريخ في فهم طبيعة الدور الإيراني تاريخياً، والأدهى من ذلك أن بعضهم أصبح بعد الطوفان يعتبر إيران جزءاً من الأمة، دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء البحث عن معنى “الأمة” في المعاجم اللغوية. فالأمة، وفق المفهوم “Nation”، تشير إلى جماعة من البشر يجمعهم رابط مشترك واحد، سواء كان دينياً أو ثقافياً أو لغوياً أو تاريخياً، وبذلك تُعبر عن حالة من الوحدة الجماعية التي تتجاوز الحدود الجغرافية. فأين هي تلك المقومات الجامعة التي تربطنا بالإيرانيين وأتباعهم في المنطقة العربية؟!
وأخذ أولئك المثقفون العرب، بكل نرجسيةٍ وتَعالٍ، يروجون في كتاباتهم، ومداخلاتهم الإعلامية، أن حرب إيران ليست ضد عدو صائل، بل حرب داخلية، وترافقت هذه الرؤية السطحية مع اتهام كثير من الناس بالجهل، والانسياق وراء الطائفية، وحتى الاتهام بالصهينة والخيانة، حتى غدت هذه السمات طاغية على خطاب النخب الذين قصدناهم، وأصبح الاستعلاء، والتمادي على الناس، والاستخفاف بمعاناتهم، سمة بارزة لتلك الفئة.

ونتيجة تماهي هؤلاء المثقفين مع المصالح الإيرانية، تحولت خطاباتهم إلى مجرد شعارات جوفاء، فاقدة إلى المصداقية، وهو ما أدى إلى تراجع مكانتهم بين الفئات التي كانت تنظر إليهم باحترام، وتقدر علمهم، وفكرهم؛ فلا هم حفظوا مكانتهم بصمتهم، ولا هم نَطقوا بخير حين نطقوا، أو أصلحوا أحوال أمتهم بحكمة وعقل واتزان، وقد صدق قول أحد المفكرين فيهم: “هناك فئة مثقفة تسعى دائماً إلى تعزيز استعلائها على الهياكل الاجتماعية والثقافية، بينما تترك الناس في الهامش”.

ما حاجة الناس إلى علمٍ لا ينفع صاحبه؟!

حين قرر خوض غمار السياسة كاد يشعل حرباً إقليمية بين بلدين مسلمين، في ظل أوضاع متأزمة بينهما. وعندما قال: “زمن الريسوني قد ولى إلى غير رجعة”، استبشرنا خيراً بأن الرجل سيعود إلى ميدانه الذي أبدع فيه، حتى وصفه المختصون بأنه “شاطبي العصر في مقاصد الشريعة”. غير أنه عاد مع اندلاع حرب غزَّة ليقف في وجه المشككين في الدور الإيراني، ويصرح بأن “المسلمين الشيعة قد أيدوا ونصروا إخوانهم المجاهدين في أرض فلسطين.. وبذلوا في ذلك أرواحاً وأموالاً وأسلحة، وتضحياتٍ جساماً، لم يقدم أهل السنة شيئاً منها”، متناسياً الجرائم الشنيعة، والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها إيران وميليشيات “حزب الله” في سورية والبلدان العربية، وما زالت، من قتل وتشريد واغتصاب، بل استخف بقاعدة شعبية عريضة من أبناء الأمة، والتي تمثل “الحاضنة التاريخية” لشعب فلسطين، وقضيته العادلة.

أكثر الشيخ من مؤلفاته ومداخلاته، لكن للأسف لم تنعكس هذه الإنتاجات الفكرية على مواقفه السياسية والإنسانية. بل على العكس، بقي متمسكاً برواية من تاريخنا الإسلامي يتهم فيها بني أمية بشتم آل البيت على منبر رسول الله ﷺ حتى عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، ناسياً دور تلك الدولة في حفظ عقيدة المسلمين، والدفاع عن شرف الأمة، وبناء شخصيتها الحضارية، ولم يتذكر من حاضر الأمة إلا دور إيران المزعوم في نصرة المسجد الأقصى وفلسطين. وبدا لي الإشكال الأكبر في عقلية الشيخ حينما بادرناه بالنصح، فاستقبل ذلك بإصرار على الرأي، بقوله: “يا ولدي، إن نُرد إلا الإصلاح بين أبناء الأمة”. ولم يفكر بعواقب موقفه، وإن نخشاه هو أن إيران التي يحاول تحسين صورتها في المغرب الأقصى، بدأت تلقى دعايتها الشيعية قبولاً لدى محبيه، وخاصة أن البيئة الصوفية هناك مستعدة لاستقبال مثل هذه الأفكار.

وينبري أكاديمي آخر “مثقف” كان له وزنٌ كبيرٌ بين المفكرين الإسلاميين، وذلك حين كان همه الأساسي التصدي للظلم، ونصرة المستضعفين، ورغم أنه حاول جاهداً في تنظيراته السياسية أن يبين أن المشكلة الجوهرية للأمة نابعة من عهد بني أمية “العهد السفياني”، فإننا كنا نقول: هذه وجهة نظره، ونحسن الظن بأن هدفه هو محاولة بناء الوعي، والتعلم من أحداث التاريخ. ولكن المفاجأة كانت حين شمر عن ساعديه في حرب غزة، محاولاً إثبات أن الجهاد في هذه الأمة مشروع واحد، يضم في خندقٍ واحد السني والشيعي، أيّ الإيراني والسوري واليمني والعراقي واللبناني والفلسطيني، وأبناء الأمة جمعاء من جاكرتا إلى طنجة، وأن العدو الصائل هم اليهود.

وبدأ بنشر سلسلة من التغريدات والمقالات التي أظهرت تخبطه الفكري، وسطحية طروحاته، وضعف مقارباته السياسية، حتى غرق الرجل في الوحل الإيراني بكل معنى الكلمة. والغريب أنه كان نموذجاً يحتذى به لدى عدد من الشباب الملتزمين بقضايا الأمة، خاصةً أنه على دراية بمعاناة الناس الذين هشمت إيران عظامهم، وقتلت أبناءهم. ورغم ذلك أحذ يُكرر بأن إيران ليست “عدواً صائلاً”، بل “شقيقٌ جائر”. ونشر على حساباته أن “إيران جزءٌ من نسيج الأمة، وإسرائيل كيان لقيط غريب، وإيران جار دائم باقٍ، وإسرائيل جار مؤقت زائل”، وأخذ يستصغر شباب الأمة، ويحظر كل من يُعقب على آرائه في حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي.

أيها المفكر الحذق؛ أيهما أخطر: عدو يحتل فلسطين بناءً على أكاذيب تاريخية مفضوحة عند القاصي والداني، أم عدو يخترق الأمة كالسرطان من داخلها، ويفكك مجتمعاتنا، ويُفسد أبناءها؟ وهل انتهت مأساة الشعب السوري والعراقي واليمني واللبناني؟ وهل توقف الإيرانيون وأذرعهم الميليشياوية عن أعمالهم الإجرامية في بلادنا؟ وهل تطلبون من الشعب السوري الحرّ، الذي يُقتل كل يوم من إيران وحزبها اللبناني، أن ينسى واقعه الأليم، ويتصالح مع المجرمين الظلمة الذين لم يُظهروا أي ندم على جرائمهم، أو اعتذار عن مساندة الطاغية الأسد الذي قتل شعبه؟! ألا ترى أعينكم بأن في سورية وحدها أكثر من 47 ميليشيا شيعية إيرانية موزعة في 515 نقطة عسكرية، و55 قاعدة عسكرية، ويساندون الأسد والروس في قتل وإذلال الشعب السوري!؟.

الذاكرة الضائعة.. وأوميغا 3 هو الحل

إن “أوميغا 3” يمثل حلاً ناجعاً لاستعادة الذاكرة الضائعة، ففي الوقت الذي تتناسى فيه بعض المثقفين العرب والمسلمين ما ارتكبته إيران بحق الفلسطينيين في العراق، بعد الغزو الأمريكي في أعوام 2004 وحتى 2007، إذ قتلوا منهم المئات قبل أن يُهاجروا إلى دول أمريكا الجنوبية، فإنه يغيب عن هؤلاء ما ارتكبته قوات إيران وحزب الله من جرائم بشعة خلال حصار مخيم اليرموك الفلسطيني، وتجويع سكانه، وتدميره بالكامل، إضافة إلى تدمير تجمعاتهم في ريف دمشق، وحمص، واللاذقية، وكذلك موت العشرات من الفلسطينيين – السوريين تحت التعذيب في سجون الأسد وإيران.

وفي مقابل هذا الاستعلاء لدى بعض النخب والمثقفين العرب والمسلمين، والغرق في وحل المشروع الإيراني، نجد صمتاً غريباً من بعض العلماء ورجال الفكر، إذ كان دورهم سلبياً في انسحابهم، وعدم تحملهم المسؤولية، وتركهم الناس بلا توجيه أو قيادة أو توعية. فأين هم من مراقبة الله؟ وأين هم من كشف خطر مشروع “ولاية الفقيه”، الذي يشوه عقيدتهم وتاريخهم، ويهدد مستقبل أبنائهم؟

إن الرسالة السامية التي يحملها رجال الفكر والإعلام والدعوة تجاه مجتمعاتهم وأمتهم، ذات قيمة بالغة، إذ يمثل هؤلاء الرأس للجسد في زمن الأزمات، وحين يتحلى أحدهم بالمسؤولية الكاملة، يُوصف بالمثقف العضوي، وهو الذي يُحرّك الذاكرة التاريخية، ولا يفصل بين القضايا المصيرية بتأويلات واجتهادات مزاجية، ولا يقرأ التاريخ قراءة مجتزأة، بل يُعيد إحياء الأفكار والمعاني الروحية والجمعية في نفوس الثائرين، ويقول كلمته بجرأة. وتتمثل مهمته الأولى والأخيرة في البحث عن الحقيقة، وبذلك يستحق بجدارة لقب “مثقف المجتمع”، أو “المثقف العضوي”.

وأختم بالقول: إن القضية المركزية في هذه المعركة ليست الجغرافيا فحسب، بل العقيدة والقيم والدماء والأعراض والتاريخ والمجتمع والثقافة “منظومة متكاملة”، ويكون المثقف أمام اختبارٍ وتحدٍّ أخلاقي ووجداني، وعليه أن يتحول من مغرّد إعلامي أو متفلسف سياسي إلى قائد اجتماعي وفكري على منهج الرسول ﷺ وصحبه الكرام (رضوان الله علبهم)، ورجال الفكر والتنوير في هذه الأمة، رافعاً مستوى الوعي الجمعي، وحاملاً مهمة الإصلاح بين الناس على أساس الوفاء والعدل والإحسان.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

د. طالب عبد الجبار الدغيم

باحث في التاريخ المعاصر

اترك تعليقاً