إن “مدن الملح” لم تعرف غير الجذب والصمت وانقلابات الشيوخ على أبائهم وأصهارهم واشقائهم…! انها مدن انتفخت فجأة بالغاز وستنفجر فجأة ليعودوا إلى مضارب خيامهم ويعودوا لغزو بعضهم بعضا. وكما قال عبد الرحمن منيف: “ان مدن الملح، ترتفع وتكبر، لكن إذا جاءها الماء: فـشّ، ولا كأنها كانت”.
إنشقاق الجزيرة وأميرها:
“بارك الله فيك يا قطـر”: صاح العجوز المُتهَدّم، مرتعداً على منبره الأخير، بعد ان ألمته “طَعـنَة بروتس”، ولم يذكر غير “قطر” – في أول خطاب له بعد أنطلاقة مظاهرات 17 فبراير – ربما لأنه شعر بأن طعنة رفيقه هي الأشد والأكثر إيلاماً. مذكرا اياه بالخبز الملح ! وقد لا نلوم “بروتس العربي” فربما كان مؤمناً بما قاله “بروتس الروماني” من قبله:” أنه لا ينبغي لنا أن نخضع للمُستَبِد ولو كَانَ هَذَا المُستَبِد أبَانَا نَفسَه”.
ولكن هل يستقيم أن يكون الإسكافي حافياً؟ أو أن يثور مُستبِد على الاستبدَاد؟ ألم يكن مصير الشَّاعر القَـطري محمد بن الذيب السّجن المُـؤبذ ! وكل ذنبه قصيدة شعر يَحلُم فِيها بأن يَصِلَ الى صحرائِهم “ربيع الثورات العربية”..! ولكن، يبدو أن ابن الذيب خَـدعَه عِـوَاء الجــزيرة “المناصرة لشعوب الربيـع العربي” ألم يعلم شاعـرنا بأن “مُـدنَ المَـلح*” تقـتل الربيع ولا تصنعه!
لم يكن وحده ابن الذيب من خدعه السراب..! ففي ليبيا تحول الربيـع إلى شـتاء مُرعِب من الدم والقتل وحرب شرسة خاضـها شعب لم يَرمِي يوماً بحجر منذ عقـود عجاف من القهر والصمت، إلى أن كَسَر ذلك الصمت ودكت الجـدران مقـاتلات الحلف تمطـر القنابل والصواريخ – حتى يكون هذا “الربيع” خصباً، وليكون قطافه رؤوس أبنائنا وأطرافهم – واختلطت سماء ليبيا بالدخان والزغـاريد وأشلاء الموتى المتناثرة…! فقد اتاها الربيـع مُختـالاً ضَاحكاً ..!
وبعد أن تقطعت الأنفاس وفاضت المقابر بجتتث البـسطاء والعـوام من كلا الفريقين – رَحِمَهُم الله جَمِيعَاً – أدرك الفريقان بأن كلاهما قد خسر الحرب. إلا أن كبرياء البدو وعنادهم يمنعهم من الرضوخ والاعتراف. فالإعتراف نقيصَة نَتىرَفَع عَنهَا.
فلا انتصر العـجـوز المُتَهدّم الموهوم بالعظمة ولا جاء الربيع الموعـود، وكان مجـرَّد ركض خلف سراب. وتلمع هنا سراً في هذه العتمة كلمات “الصادق النيهوم” رحمه الله “ان السراب لا يخـدع إلا من كانت قلته* بلا ماء” وقد كانت قلتنا بلا ماء واستغل عطشنا صانعوا السراب، واصحاب القرار من الطرفين.
ورغم كل ذلك فإن هذا الشعب كان قادراً أن يستعيد عافـية وطـنه وأن يُضـمّد جـراحه، وينطلق في مسيرة بناء وطنه فقد حباه الله بكل ما يحتاجه. فلا طوائف ولا شيع متناحرة ولا أحقاد بين أهله فكلهم ذوي قربى وأصهار وكل ما يعرفـونه أنهم ليبيون وكفى، تجمعهم ليبيا وطناً آمناً ينام بلا عسس منذ زمن بعيد. حتى اقتحمت خلوتهم وبيوتهم فضائيات “مُـدن الملح” وفضائيات المتهافتين على السلطة، لتزرع برؤسهم الخصبة خارطة وطنهم الجديد وقائمة طويلة من الحروب الجديدة التي عليهم خوضها رغم أنوفهم.
في كل معارك التاريخ لإنتزاع العرش لم يحدث أن بقي ذلك العرش خالياً في انتظار من يملؤه “ديمقراطياً” دائماً هناك من يقفز قبل الجميع وقبل كل تلك الطقوس الوهمية للاقـتراع الحـر. فانهم لم يتكبدوا كل ذلك العناء وينفقوا كل تلك الأموال حتى يتقدم اولئك الحفـاة والبؤساء من الرعاع لينصبوا من يشاءون ملكاً عليهم. انما يؤخذ العرش غلابا…!
لذلك لم يلبث الفرح بإنتهاء الحرب أن انطفأ من وجوه البسطاء، حتى انتصب الرعب من جديد وخرجت الأسلحة من مخابئها وتم رسم الاصطفافات الجديدة لليبيين، وقفز للواجهة تصنيف العلمانيين والاسلاميين ورغم أن الليبيين في البدء أستهجنواهذا التصنيف في نهايات الحرب، فقد كانت المرة الأولى التي يظهر فيها هذان الاصطلاحان في المشهد الليبي، ولكن … مع الضخ الاعلامي المستمر والمتواصل تعوّد الليبيين ورضخوا طائعين لخارطة الإصطفاف الجديد.
ولم يتوقف الأمر بالطبع عند هذا الحد بل استمرت امبراطورية “الجزيرة” بضخ المزيد من الانقسامات داخل كل فريق مابين اخوان وسلفيين وصوفيين وجهاديين وغيرهم…! وكذلك التقسيمات القبلية والجهوية وما كشفت عنه حفرياتهم التاريخية من تقسيمات جهوية كان قد عفا عليها الدهر لينفخ الاعلام فيها الحياة ولتعود بكل قوتها ولتعاد رسم الخارطة الليبية من جديد، في تكرار حرفي للسيناريو العراقي عقب الاحتلال الأمريكي.
كان ذلك طبيعياً… لأن إحكام السيطرة على أي شعب تتطلب تفتيته وزرع بؤر التوثر والنزاع بين فئاته ومكوناته المجتمعية. وكذلك لم يغـفـلوا عن صناعة مرجعيات دينية تدين لهم بالولاء ليس من باب الورع والتقوى طبعاً، فكما يقول ميكافيلي: “إن الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس”. وكان لهم ذلك. ودخل الأمير يؤرجح قدميه على أكتاف الجماعة…!
تعليب الرأي العام الليبي:
بدون السيطرة على وسائل الاعلام لا تستطيع دولة أو جماعة احكام هيمنتها على أي شعب. فإن أي شعب – ليس في نظر “امبراطورية الجزيرة” فحسب بل بالنسبة لمنظري الاعلام عموماً – هو مجرد قـطـيع يَسـهُل اقتياده حيث يشاء طبقاً لتقنيات (صناعة الإجماع) أو ما يسمى بـ (صناعة الرأي العام). فكما يقول تشومسكي “أن الاعلام في النظام الديمقراطي هو بمثابة الهروات في الدولة الشمولية”.
لذلك فإن مَن يُـهيمِن على الخـطاب الاعـلامي للدولة هو من يَسوق هذا القطيع حيث يشاء ولو إلى حتفه راضياً مُطمئناً. انه السلطة أو القوة الناعمة التي جعلت من دويلة قـطـر لاعباً رئيساً في اعادة رسم خارطة الشرق الأوسط. أما أسطورة التعددية وكثرة الفضائيات فما هي إلا مجرد وهم فالخطاب الاعلامي المُهيمِن يظل خطاباً أحادياً ولا أحد يغـرد خارج سربه.
لذلك فإن دولة قطر والتي يرى الكثيرون بأنها هي من قفزت على العرش الليبي الشاغر قبل الجميع وهي المهيمن الرئيس على الساحة الليبية – بحسب تصريحات القيادات السياسية امثال محمود جبريل الذي وعدته قطر بمنحه ولاية ثانية لرئاسة الحكومة شرط تخليه عن ملفي الدفاع والداخلية – حسب تصريحات جبريل نفسه. وشلقم الذي قال بوضوح بأن قطر تسيطر فعلياً على خمس ملفات رئيسية في ليبيا ومنها الأمن والدفاع والمالية والنفط وغيره.
فلم تكتفي قطر بأمبراطورية الجزيرة لـ “توجيه وتعليب الرأي العام الليبي” بل تُبشّرنا بالمزيد من القنوات القطرية الموجهة للشارع الليبي وآخرها قرب انطلاقة قناة (ليبيا مباشر) اضافة لقناتها السابقة التي انطلقت من الدوحة منذ بدايات الحرب ولازالت تبث من الدوحة واعدين بأن تنتقل لعـقـر دارنا قريباً، وهي بحسب رئيس مجلس ادارتها “أحد قيادات المكتب التنفيذي الليبي السابق” فإن دولة قطر هي من تتكفل بتمويل القناة بالكامل من أجور ومصاريف البث وغيره. وتستعد قـطـر هذه الأيام لإطلاق قناتها الليبية الثانية (ليبيا مباشر)..! لأن ليبيا طبعاً، تَفتَح درَاعَيها وقَدمَيهَا مُرّحِبَة بالجَمِيع.
يتساءل المواطن الليبي البسيط: هل تجرؤ حكـومتنا الليبية المُوَقَـرة أن تَبث قناة تسميها (قطر مباشر) أو (قطر لكل الأحرار)؟ يَعـرِف المـواطن الليبي الإجابة سلفاً ..! فإن قـطــر دولة ذات سيادة لا يُسمح بإنتهاكها أما ليبيا فقريباً ستـشهد انطـلاق قنـوات أخـرى تمـولها قـطـر وغيرها تحت مُسمَى (غـرف نـوم الليبيين مباشر)..! بدعوى “الشفافية” وحُـريّة الاعـلام…! فليبحث الليبيون حينها عن مكان يوارون فيه سـوءاتهم.
إن حكومتنا الموقرة لم تستطع وبعد عامان كاملان أن يكون لها قناة ليبية على أرضها وكل الليبيين يعلمون بأن ما يسمى بالقنوات الرسمية هي أصلاً خارج سيطرة الحكومة وليس لها عليها من سلطان، وبالأمس القريب سمعنا بيانات من قبل مسلحين تطالب بإسقاط الحكومة وتتهم الحكومة بالعمالة والخيانة على تلك “القنوات الرسمية” نفسها.
لم تكن الهيمنة القطرية على ليبيا ما بعد سقوط نظام القذافي مسألة خافية على أحد وبحسب أحد القيادات الشبابية لـ 17 فبراير من مدينة بنغازي وهو الناشط السياسي والمحامي عبد السلام المسماري وفي لقاء له بصحيفة عروس البحر في عددها الصادر بـ 6 ديسمبر 2011 أشار فيه صراحة بأن انتهاك قطر للسيادة الليبية بدأ منذ مارس 2011 عن طريق دعمها المباشر لجماعة الاخوان المسلمين بالمال والسلاح – حسب قوله – وأن قطر عملت على إذكاء القبلية عن طريق استدعائها لأعيان عدد من القبائل وتقديمها للرشاوة المالية لهم ولعدد من القيادات السياسية في المجلس الانتقالي السابق. ويتهم المسماري قناة الجزيرة بإقصائها للشباب الوطنيين والتعتيم على دورهم مقابل تسويقها وترويجها لجماعة الإخوان. وفي ختام لقائه يقول المسماري: (بأن الليبيون لم ينزلوا القذافي من ظهورهم ليعتليها غيرهم.) … ولكن، هذا ماحدث !
فمثلما لا يُستقيم أن يكون الإسكافي حافيا أو أن ثمة حائكاً لا يملك ما يستر به عورته، فإنه أبداً لا يستقيم أن تولد الثورات في بلاط الأمراء والسلاطين أو أن تُختَطَف “الثورات” لتترعرع تحت أقدامهم وأن يقتات “الثوار” من خزائنهم.!
فإن أردتم حقاً لهذا “الربيع المأمول”، أن يُزهر فلتترفـعـوا عما زرعوه بينكم من أحقاد ولتقـطعـوا الحبل السري لهذا الربيع المنتظر من قصـور الأمراء والسلاطين. وجـربوا ربما ستجدي نفعاً أن تهمسوا في آذان أولئك الأمراء والملوك والرؤساء عرباً وعجم: “شكر الله سعيكم” وهاتوا فـواتير ما أنفقتموه وخذوه إن شئتم أضعافاً..! فقط اتركوا هذا البلد وشأنه..!
وعلى الأرجح لن يفعلوا ! ولن يتركوا هذا البلد وشأنه ..! طالما أن كثير من أبناء هذا الوطن وكثير ممن يصفون انفسهم بـ “المناضلين” و”قادة الثوار” قد طاب لهم المقام هناك، يتمسحون كالقطط على الأفخاذ الأميرية والملكية ويتمرغون على أعتاب قصورهم يلتقطون الفتات وما تجود به بقايا موائدهم…!
لن يتركوا هذا البلد وشأنه … طالما طوابير “الثوار” على امتداد البصر يصطفون امام عتبات قصور الأمراء تنهش وجوههم شمس الصحراء بإنتظار عَطَـايا وهبات الأمير .. انه مشهد بيع علني للوطن..! وطن بحفنة دولارات…! من منكم تخيّل أن يرى الوطن في سوق النخاسة يُبـاع ويُـشـترى..! ولكن … شكراً للثوار الكَسَبة ممن يصطفون على عتبات قصور الأمراء!
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
يبدو انك من اتباع المردوم …ليش الحقد هضاء كله على قطر لسبب واحد بس لان قطر ساعدت الشعب الغلبان على سيدك القذافى..المثل يقول (اللى فى عقلك يخرب وجابك)لعنة الله على اللى ينسى الطيبة
فذلكات لغوية …. لا حجج و لابراهين….!!